الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (207) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (3)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (207) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (3)
الثلاثاء ١٥ أبريل ٢٠٢٥ - ١١:١٣ ص
37

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (207) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(الأنبياء: 51-73).

في الآيات فوائد:

الفائدة الأولى: دَلَّت الآيات على أهمية الالتزام بالدين الحق في الصغر؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) على الوجه الذي رجَّحه ابن كثير؛ أي: مِن أول نشأته. والقول الثاني: أي: مِن قَبْل موسى وهارون -صلى الله عليهما وسلم-، والأول أظهر. والله أعلم.

وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قد آتاه الله رشده، وفهَّمه وعلَّمه من أول نشأته، وهذه فضيلة لمَن نشأ مِن صغره في طاعة الله -عز وجل-، وعلى دينه؛ كما قال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما تناظروا في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئًا، وذكروا أشياءً؛ فدل ذلك على فضيلة مَن وُلِد في الإسلام؛ لأن الله -عز وجل- قد أتم عليه نعمته، وجعله من أول نشأته على الهداية، وعلى الفطرة المستقيمة.

فهذه نعمة لا يقدرها كثيرٌ من المسلمين، ولا يرون فضل الله -عز وجل- العظيم عليهم؛ لأجل أنهم لم يقارنوا بينهم وبين غيرهم ممَّن لم يأتهم الله رشدهم، ولم يهدهم الصراط المستقيم من أول نشأتهم، مع أنهم قارنوهم في نفس الزمان، بل وكثيرًا ما يكونون معهم في نفس الأوطان، وقد نشأوا يعبدون الأوثان، ويعبدون الأبقار، ويعبدون الصلبان، مع تناقض ذلك مع الفطرة السوية؛ فهي من أعظم نعم الله على عبادة المسلمين: أنه عصمهم من السجود للصنم، وقضى لله بقَدَم الصدق في القِدَم، وهذا يوجب عليهم أن يتضرَّعوا إليه، وأن يسألوه أن يتم عليهم نعمة؛ هو ابتدأها عليهم بلا سببٍ منهم.

والله -عز وجل- يحب الشاب الذي ينشأ في عبادة الله كما هو في الحديث الصحيح في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم الشاب الذي نشأ في عبادة الله.

ويدل على صحة التفسير بأن إبراهيم -عليه السلام- أوتي رشده من قبل -أي: في صغره، ومن أول نشأته-: قوله -تعالى- في الآيات: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)؛ فيا أيها الشباب فرصة عظيمة أنكم قد نشأتم في هذا الدِّين -بفضل الله-، وأمامكم التزام ميسَّر بدعوة الحق، ومنهج الحق -بفضل الله-، والسُّنة -بفضل الله- ميسرة لمن طلبها، ولمن يسلك سبيل تعلمها والتزامها، فما أكثر من يعرض عن نعمة الله ولا يشكرها؛ فلا تكن من هؤلاء أيها الشاب، واعلم أن فضل الله عليك بسرعة الالتزام في أول النشأة، أو أن تنشأ في أسرة ملتزمة من أعظم ما يهيئ لك الاستمرار على الالتزام ويُهَيِّئُكَ لأنواع الخير مِن: العِلْم النافع، والعمل الصالح في مستقبل العمر؛ فإن مَن حَفِظ جوارحه لله -عز وجل- في شبابه، حفظها الله -عز وجل- عليه في آخر عمره؛ قال الله -عز وجل-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(التين: 4-6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما- في وصيته له: (‌يَا ‌غُلَامُ ‌إِنِّي ‌أُعَلِّمُكَ ‌كَلِمَاتٍ: ‌احْفَظِ ‌اللَّهَ ‌يَحْفَظْكَ، ‌احْفَظِ ‌اللَّهَ ‌تَجِدْهُ ‌تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فبيَّن الله -تعالى- أنه آتى إبراهيم -عليه السلام- رُشْدَه، وهذا يردُّ على مَن يزعم أو مَن يفسِّر نظر إبراهيم في النجوم على أنه كان يبحث عن الله -سبحانه وتعالى-؛ فإبراهيم -عليه السلام- على الفطرة السوية المستقيمة من أول نشأته، وكيف يتسنى له أن يبحث عن الله وهو يجزم لأبيه وقومه أنهم في ضلال مُبِين؟! وإنما كان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مناظرًا لقومِه -كما سبق بيانه في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم من سورة الأنعام-.

ومما يدل على أنه كان مناظِرًا لقومه -وليس ناظرًا في البحث عن الله-: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (‌لَمْ ‌يَكْذِبْ ‌إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ...) وذكر منها قوله عن الكوكب: (هَذَا رَبِّي(الأنعام: 76)؛ فجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الكذبات؛ أي: مِن أنواع التعريض في ذات الله؛ إذًا كان ذلك إقامة للحجة، وليس أنه كان يبحث عن ربِّه -سبحانه وتعالى-.

فالله -عز وجل- عليم بإبراهيم، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها؛ يضع الهدى فيمَن يستحق الهدى، ويضع الشكر في الشاكرين الذين يقبلون نعمة الله -عز وجل-؛ قال -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ(الأنعام: 53)، وقال -عز وجل-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(القصص: 56).

والله -عز وجل- وحده هو الذي قسَّم الأرزاق بعلمه وحكمته، وقسَّم الأخلاق كذلك، وقسَّم الأعمال والأقوال، وهو الذي يقسم رحمته؛ كلُّ ذلك بعلمه وحكمته؛ قال الله -عز وجل-: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(الزخرف: 31، 32).

فالله هو الذي وضع بذر الإيمان الطيب في أرض قلوب المؤمنين الطيبة، ووضع البذر الخبيث في قلوب الخبثاء وأرضهم الفاسدة، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، وأعلم حيث يجعل رسالته.

وهو -سبحانه وتعالى- يقسِّم فضله على عبادة المؤمنين بعلمه السابق، وبرحمته وحكمته وعدله؛ فلا يعترض عليه أحدٌ؛ فهو لا يُسأَل عما يفعل وهم يسألون؛ لأنه لا يفعل شيئًا إلا بعلمه وحكمته -سبحانه وبحمده-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الابلاغ عن خطأ

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة