الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (208) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (4)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على
رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ
آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا
عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ
كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا
بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا
مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ
الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
. قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ .
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا
إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا
عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ
لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا
حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ
كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء:
51-73).
فيه فوائد:
الفائدة الثانية: قوله
-سبحانه وتعالى- عن إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)،
يسألهم سؤال استنكار واستقباح لما يفعلونه، أنهم يعكفون -أي: يلازمون- عبادة
التماثيل، وهي إفك مصنوع باطل، كما قال -تعالى- في الآية الأخرى عنه: (أَئِفْكًا
آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات:
86، 87).
فدلَّ ذلك على أنه يعرف الله -عز وجل-
بأنه الحق، وأن ما يُدْعَى من دونه هو الباطل، وأن هذه الأصنام التي كانوا
يصنعونها ترمز عندهم لأنواع النجوم؛ التي
كانوا يتخذون هذه الأصنام رموزًا لعبادتها، فصاروا يعبدون هذه الأوثان من دون
الله، والأصنام قد أضلت كثيرًا من الناس، وإن كانت الأصنام لا تفعل شيئًا، ولكن
كبار عُبَّادها هم الذين شَرَعوا لهم عبادتها، ولكن يصح نسبة الإضلال إليها؛ إذ
كانت محلًّا لهذا الضلال، وسببًا للشرك بالله.
وعبادة الأصنام في البشر قديمة جدًّا
من عهد نوحٍ -عليه الصلاة والسلام-، وهو أول شرك وقع في هذه الأرض من بني آدم؛
وذلك بسبب الغلو والإفراط في محبة بعض الصالحين.
وكذلك في إعطاء الأصنام معنى
رمزيًّا حول عبادة نجوم أو كائنات مخترعة في أذهان الناس، وذلك بسبب ضلال الناس في
تفسير الواقع الذي يعيشونه؛ حيث ينسبون إلى الأصنام النفع والضر، والرزق، وأنواع
التصرف على حسب فساد اعتقادهم؛ فبعضهم يعلم أن الله -عز وجل- وحده هو الذي يفعل ما
يرونه من أفعالٍ في الكون؛ مِن: إحياء وإماتة، وإتيان بالشمس من المشرق وتوجيهها
إلى المغرب، ومع ذلك فإنهم يصرفون العبادة لغير الله، فيصير الشرك في الألوهية،
وإن كان عندهم جزءٌ من توحيد الربوبية.
وأشدهم كفرًا: مَن
يجمع شركَ الربوبية وشرك الألوهية، وكل ذلك بسبب بُعد الناس عن الوحي المنزَّل من
عند الله.
وأن هؤلاء المخلوقات؛ سواء البشر
من الصالحين، أو النجوم وغيرها من الأجرام العلوية، أو الملائكة، أو الأنبياء؛ كل
هؤلاء خلقٌ مِن خلق الله -سبحانه وتعالى-، وهذا يدل على أنهم لا يملكون ضرًّا ولا
نفعًا، ولا يملكون موتًا، ولا حياة ولا نشورًا؛ فكيف يصح أن يُعْتقَدَ فيهم شيء من
ذلك؟ ثم كيف يصح أن تُصْرَفَ لهم عبادة من دون الله -عز وجل-؟!
فكان قوم إبراهيم -صلى الله عليه
وسلم- يعبدون هذه الأصنام والتماثيل على أنها ترمز للنجوم التي جعلوها وسائط بينهم
وبين ربهم، يعبدونها من دون الله، أو مع الله -سبحانه وتعالى-، ومِن الناس مَن
يعبد الأوثان فقط، ومنهم مَن يعبدها مع الله كمشركي قريش، وكل ذلك من الشرك الذي
لا يرضاه الله -عز وجل- ولا يغفره لمن ارتكبه.
الفائدة الثالثة: في
قوله -سبحانه وتعالى-: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا
عَابِدِينَ)، فيها ذَمُّ التقليد الأعمى للآباء والمشايخ والأسلاف، وليس عند
أهل الباطل إلا التقليد؛ ليس عندهم حجة بينة من عقل ولا نقل، فإن الشرك لا تقبله
الفطرة ولا تسلِّم به العقول، ولا ترضاه النفوس إذا بقيت على فطرتها، بل هو مُرٌّ
وبيءٌ سيئ، لا يمر بسهولة إلى قلب الإنسان، ومع ذلك فهو أكثر انتشارًا، ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
مِن أين أُوتي الناس؟!
أُوتوا من التقليد الأعمى، من أنهم
وجدوا آباءهم على أُمَةٍ وهم على آثارهم مقتدون، ويحسبون أنهم مهتدون (الأمة في
هذا الموضع بمعنى: الملة والدِّين والطريقة).
ولو تأملتَ عقائد البشر في المشارق
والمغارب؛ لوجدتها لا يمكن أن يقبلها أيُّ عاقل سليم؛ لمخالفتها دين التوحيد الذي
جاءت به الرُّسُل، ومع ذلك تجد ملايين البشر، بل مليارات يعتقدون هذه الاعتقادات
الفاسدة، ويربون أبناءهم عليها، وتنشأ على ذلك أجيالٌ تلو أجيالٍ.
وتتعجب كيف قَبِل البشر أن يعبدوا
حجرًا صنعوه بأنفسهم، أو تمثالًا نحتوه بأيديهم؟!
كيف قَبِل الإنسان أن يعبد حيوانًا
بهيمًا؛ لا ينطق، ولا يملك لنفسه في العالم كله ضرًّا ولا نفعًا، ولا يمنع عن نفسه
ذبحًا ولا حَلْبًا؟! إلا في بلادهم حيث يقدِّسونه ويعظِّمونه، ويتبركون ببوله
وروثه!
وأيضًا: كيف يعبد الإنسان العاقل
إنسانًا مثله، عَلِم أنه كان عدمًا في وقتٍ من الأوقات، ولم يكن شيئًا مذكورًا،
ويراه يأكل الطعام ويدخل الخلاء لإخراج الفضلات؟!
وكيف يؤلِّه البشر أنفسهم وهم
يعلمون أنهم وُلِدوا بعد أن لم يكونوا على وجه الأرض، وأنهم ولدوا لا يعلمون
شيئًا، ولا يملكون شيئًا، ثم بعد ذلك يَدَّعون الألوهية؟! سبحان الله!
لكن الجواب دائمًا تجده: في
أن التقليد الأعمى هو الذي يدفع الناس إلى ذلك؛ كما قال -عز وجل- عن مَلِكَة سبأ
قبل إسلامها: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ
دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل:
43)، وقال الله -عز وجل- مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَا
تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ ? مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا
يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ ? وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ) (هود:
109).
وهذا يدفع المؤمن دائمًا إلى: الحذر
من التقليد المجرد عن الدليل في عقيدة أو عمل أو سلوك، وأنه لا بد أن ينظر فيما
نشأ عليه من قِيَم اجتماعية أو عادات أو تقاليد، أو اتباع لمذهب عقدي أو فقهي أو
طريقة صوفية، ولا بد أن يزنها بميزان الشرع، ولا بد أن يكون مستعدًّا لمخالفة ما
يعلم أنه خلاف الدليل، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسُّنة، وإجماع السلف، وما
يُقَاس على ذلك من قياس صحيح، ولا يكون مقلدًا أعمى للآباء والأجداد، ولا يكون كمن
قال الله عنهم ذمًّا لهم: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف:
22).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.
موقع أنا السلفي