السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

خمسة عشر قرنًا من الصراع الإسلامي الغربي الإسرائيلي

خمسة عشر قرنًا من الصراع الإسلامي الغربي الإسرائيلي
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٢١ مايو ٢٠١٠ - ٠٩:٥٩ ص
2846

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فلا تجد تطبيقًا لمقولة "ما تكرر تقرر" أصدق مما تقرر لدى الجميع أن أهداف الأمم المتحدة هي تحقيق الأمن والسلام العالميين؛ وكنتيجة لهذه النظرة "المتقررة" -رغم أنها ليس لها أي رصيد من الواقع- يتكلم الكثيرون عن انحياز مجلس الأمن الكامل لإسرائيل نظرًا للهيمنة الأمريكية، التي هي الأخرى تكرر أنها شرطيُّ العالم، وليست "ناهبته"؛ ومن ثم ينشأ القول بالانحياز الأمريكي إلى إسرائيل، ثم الهيمنة الأمريكية على مجلس الأمن.

وفي واقع الأمر إن هذه الأمور التي تقررت لا تحتاج إلا إلى تقليب صفحات التاريخ؛ لنكتشف أن أيًّا منها لا يرقى إلى درجة الفرض والاحتمال، فضلاً عن أن يكون حقيقة مقررة.

وقد يحتاج الأمر إلى قراءة أكثر تأنيًا لخمسة عشر قرنًا من الصراع الإسلامي الصليبي، ولعله يحتاج إلى قراءة أكثر عمقًا لتاريخ كل من اليهود والرومان بأكمله، عندها سوف تتضح الحقائق.

وإليك ملخص لبعض حقائق التاريخ؛ لتكون منها على بصيرة:

1- الروم أمة همجية في أصلها، قامت على الإغراق في الملذات والإفراط في استخدام القسوة في حروبهم الداخلية، وأول معرفة لهم بالحضارة كانت بعد حربهم مع جيرانهم اليونان، عندما غلبوهم بالسيف، واستولوا على حضارتهم التي شكلت العقلية الأوربية إلى الآن، وإن كان كلا الحضارتين أظلم من الأخرى، إلا أن اليونان علموا الرومان شيئًا من معاني الأمة.

2- ممن اكتوى ببطش الروم اليهودُ الذين كان تشريدهم الأخير على يد الإمبراطور تتيس، والذي ظلوا من بعده مشردين، حتى اجتمعوا في فلسطين، فرَّق الله شملهم منها.

3- ظلت هذه الأمة بلا هوية حقيقية حتى صبغها قسطنطين بالصبغة النصرانية المحرفة كمحاولة منه لإيجاد هوية لأمته.

4- حملت الروم الرسالة النصرانية المحرفة بلا فهم ولا روية، وبالتالي فهُم يشعرون بقدر من التناقض الرهيب تجاه اليهود: هل يحبونهم لأنهم شعب الله المختار كما تقول التوراة اليهودية التي يؤمن بها النصارى؟ أم يكرهونهم لأنهم قتلوا المسيح كما تقول العقيدة النصرانية؟

5- انهزمت النصرانية أمام جيل الصحابة هزيمة منكرة في فترة قياسية ما زالوا يفسرونها حتى الآن بأن الشيطان هو الذي حمل المسلمين إلى المشارق والمغارب.

6- هول المفاجأة أورثهم رعبًا لم يتخلصوا منه إلا بعد ستة قرون، فجاءوا في جيوش جرارة مستثمرين حالة الضعف العقدي والعملي الموجودة في الأمة آنذاك، واستمرت الحروب معهم قرنين كاملين، وهي المعروفة تاريخيًّا باسم الحروب الصليبية، شهد القرن الأول منها انكسارًا عسكريًّا شديدًا من المسلمين، ولكن ظهرت خلاله حركة تجديدية علمية جهادية على يد عماد الدين زنكي، والذي يعتبر امتداد لحركة التجديد التي قادها ألب أرسلان والوزير نظام الملك والجوينى والغزالي والتي بلغت قمتها في المدرسة النظامية(*)، وخلف عماد الدين زنكي ابنه نور الدين محمود، والذي أنشأ في الشام مدارس على غرار النظامية، ومن إحداها تخرج صلاح الدين الذي فتح الله على يديه بيت المقدس.

7- تزامنت الحروب الصليبية مع الهجمة التترية البربرية على المسلمين من جهة الشرق، والتي ولد من رحمها الدولة العثمانية التي فتحت نصف أوربا تقريبًا.

8- تحت وطأة الهزيمة تحت راية الصليبين، وكتأثر بروح البحث العلمي التي نقلوها عن المسلمين في الحروب الصليبية، واكتشافهم قدر من أكاذيب الأحبار والرهبان على الأقل في نسبة نظريات علمية إلى الوحي؛ ارتدت أوربا عن النصرانية إلى العلمانية، ثم رجعت إليها مُكرهة لما وجدت أن العقيدة الدينية أقوى في مواجهة المسلمين، حتى لو كان هذا الدين باطلاً، وعلى ذلك فالغرب علمانيٌّ داخليًّا صليبيٌّ خارجيًّا.

9- ومما طرأ على الصليبية في طورها الجديد ترجيحهم لجانب أن اليهود هم شعب الله المختار، وأما كفرهم بعيسى -عليه السلام- فقد اخترعوا كذبة تقول بأنهم سوف يؤمنون به عند العودة الثانية له التي لن تكون إلا بعد تدمير المسلمين وإفنائهم من الأرض؛ ومن ثم فقد أصبح الدين النصراني الجديد يدعو للتحالف مع اليهود ضد المسلمين لتنتهي الأزمة النفسية عند النصارى تجاه اليهود، والذين سوف يصبحون مؤمنين بالمسيح بأثر رجعي، وأما قتل اليهود للمسيح -كما هي عقيدة النصارى- فقد برأهم الفاتيكان منه تمامًا، وهذا يعني أن الرومان هم المسئولون المسئولية الكاملة عن قتل المسيح، وأخشى ما نخشاه أن يكتشفوا بعد حين مسئولية المسلمين عن قتل المسيح مع أن المسلمين يعتقدون عدم قتله أصلاً!

10- ركن المسلمون إلى النصر فبعدوا عن أسبابه، ورصد الأعداء ذلك، ولكنهم قرروا هذه المرة الإعداد الجيد من كل النواحي، فأرسلوا أذكى أبنائهم إلى بلاد المسلمين فيما عرف بالاستشراق.

11- رصد المستشرقون صحوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصحوة الشوكاني، وصحوة علماء الأزهر، فخاطبوا الساسة في أوربا بالتعجيل بالحملة الصليبية الجديدة.

12-أتت جيوش الاحتلال، وكان من أهم أهدافها القضاء على الصحوة الإسلامية.

13- أسالت المكاسب والثروات التي وجدها الروم المتعطشين للنهب لعاب قادتهم، فدارت بينهم حروب على اقتسام العالم، وفى مقدمته العالم الإسلامي بلا شك.

14- دارت حربان عالميتان كبيرتان كادت تؤدي إلى فناء الجنس الأوربي بأكمله.

15- هرع الأوربيون إلى إنشاء عصبة الأمم، ثم خلفتها بعد ذلك الأمم المتحدة -لم يكن توجد أمم إلا الشعوب الأوربية المتقاتلة-، وكان الهدف الرئيسي هو إيجاد صيغة للتعايش السلمي بين هذه الشعوب داخل أوربا، وصورة من التقاسم السلمي للشعوب الأخرى، مما قوى شوكة الاحتلال الأوربي للعالم، لا سيما العالم الإسلامي.

16- اليهود بحكم كونهم أقلية عرقية ودينية في ذات الوقت يتماسكون في أي مجتمع، وينشئون حاراتهم المغلقة عليهم، وهذا أعطاهم فرصة لكي تكون الطريقة الوحيدة الآمنة للتنقل بالمال في أوربا هي إيداعه لدى العائلات اليهودية في بلد لكي تتولى هي نقله إلى عائلة يهودية في بلد آخر، والتي تنقلها بدورها إلى صاحب المال نظير أجرة كبيرة، وهو ما استطاع به اليهود استدراج الأوربيين إلى الربا، رغم أنه محرم في التوراة التي في أيديهم إلى يومنا هذا، والتي يؤمن بها كل من اليهود والنصارى، كما أنه محرم في فلسفة اليونان التي ورثها الأوربيون، ومع ذلك استُدرجوا إلى بناء اقتصادهم على الربا الذي تحكم فيه اليهود، لا سيما في زمن الحروب.

17- مارس اليهود لعبتهم المفضلة في تزكية الحروب، ثم التحالف مع الطرف والطرف الآخر في نفس الوقت، و لما لعبوا تلك اللعبة مع هتلر قال قولته الشهيرة: "قتلت نصف اليهود، وتركت النصف الآخر؛ حتى يعلم الناس لماذا قتلت النصف الأول"، ورغم مبالغة هتلر في ذلك إلا أن هذا استثمر على الأقل إعلاميًّا في أن من حقهم أن ينتقموا من البشرية جمعاء لأن هتلر قتلهم، وإن كانوا قد اكتفوا بالانتقام من المسلمين في الوقت الراهن.

18- مع شراسة المقاومة الإسلامية لجيوش الاحتلال بدأت تدور فكرة الانسحاب العسكري من بلاد المسلمين، وجعلوا بدلاً من ذلك أمورًا منها :

الأول: القضاء على الخلافة، وكان أول ذلك تشجيع الثورة العربية على الخلافة بالتزامن مع انقلاب أتاتورك، وبالتالي قسموا الخلافة الإسلامية إلى عرب وأتراك.

الثاني: إيجاد جسم غريب يمنع التئام الخلافة مرة ثانية، وحبذا لو كان في المنطقة التي تربط القسم الأسيوي من البلاد العربية بالقسم الأفريقي.

الثالث: نشر الثقافة الغربية في كل مناحي الحياة، ومنها التعليم والقضاء في بلاد المسلمين التي سينسحبون منها.

19- تزامن هذا مع وجود حركة كبيرة من أثرياء اليهود في أوربا يريدون إعادة تجميع اليهود في أي بقعة، وتم طرح الأرجنتين وأوغندا وسيناء وفلسطين على استحياء.

20- وعلى الرغم من أن اليهود من الناحية الدينية يعتقدون أنهم لن يدخلوا أرض فلسطين إلا مع المسيح الحق -وفق زعمهم، وإلا فهم بعد تكذيبهم بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم سوف يتبعون المسيح الدجال- إلا أن نابليون بونابرت رغبة منه في كسب تأييد اليهود في حملته على مصر حرَّض اليهود على الانضمام إليه ليوطنهم في فلسطين، إلا أن الظروف لم تمهله، ونزلت أسهم فرنسا لصالح الإنجليز، والتي لم يفتها استعمال نفس الوسيلة مع اليهود، و تجلى هذا الأمر بصدور وعد بلفور الشهير والذي رحب به زعماء الصهيونية، وعارضه بعض المتدينين اليهود للاعتبارات الدينية التي ذكرناها، والذين كانوا يرون أن عليهم أن يبحثوا عن وطن قومي قريب من فلسطين، وليس في فلسطين ذاتها، وكانت سيناء هي الاختيار المفضل لدى هؤلاء المتدينين، إلا أن زعماء الصهيونية رأوا اغتنام الوعد البريطاني وإن خالف تعاليم دينهم، وهذا ليس بغريب على اليهود.

21- مكن الإنجليز المهاجرين اليهود من الهجرة إلى فلسطين، وكونوا عصابات تقوم باغتصاب الأراضي بقوة السلاح والاغتيالات وغيرها، وكان الإنجليز بصفتهم قوة احتلال تتظاهر ببحثها عن هذه العصابات، فلما قام عز الدين القسام -بلغه الله منازل الشهداء- بتكوين خلايا جهادية حاربها الإنجليز أنفسهم حتى قتلوه -رحمه الله-، ولكن الجهاد لم يمت بموته.

22- بدأ الاحتلال في الانسحاب من بلاد المسلمين تاركًا اليهود في فلسطين، وتاركًا موروثه الثقافي العلماني في بقية البلاد، وتاركًا إدارات حكم لا تدري ماذا تعني إدارة دول في السلم فضلاً عن الحرب!

23- من العجب أن الاحتلال أوعز إلى الحكومات الوطنية بعد التحرير أن علامة تحررها هو أن تنضم لعصبة الأمم، بل كان الانضمام لعصبة الأمم شرط التحرير في كثير من الأحيان، وهذا يعنى أن الضحية سوف يجلس مع الجلاد في سلام ووئام، ومن ثمَّ فلا تعجب من إحياء ذكرى الاحتلال الفرنسي على مصر على أنه الحدث الأبرز في تاريخ الصداقة المصرية الفرنسية، وطبعًا كان الغرض هو منع الشعوب المحررة من البحث عن اتحاد آخر، ولو من باب اتحاد الأمم المظلومة أو اتحاد الأمم المنهوبة، فضلاً عن اتحاد الشعوب الإسلامية تحت خلافة جامعة.

ووجدت الشعوب المحررة نفسها مقيدة بالتوقيع على دستور عالمي ينافي دينها، ولعلهم لم يدركوا حينها أنهم سوف يعاد احتلالهم، ولكن هذه المرة تحت مسمى خرق الشرعية الدولية التي وقعوا عليها كشرط للتخلص من احتلالهم الأول.

24- اشتد تلاميذ القسام في جهادهم ضد العصابات الصهيونية حتى اضطرت الأمم المتحدة إلى إصدار قرار بتقسيم فلسطين إلى دولتين عبرية وعربية؛ تحقيقًا لميثاق الأمم المتحدة الذي ينادي بالسلام والوئام.

25- رغم أن هذه الفترة شهدت بداية ظهور أمريكا كقوة عظمى، وشهد أيضًا الهجرة اليهودية إلى أمريكا، إلا أن إنجلترا كانت ما زالت هي اللاعب الرئيسي في المنطقة العربية.

26- قرر العرب الحرب ضاربين بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط، وتحركت جيوشهم ولكن بلا إعداد شرعي، ولا عقيدة قتالية، وبلا إعداد بدني، ولا تدريب عسكري.

وقد كان رأي جماعات المقاومة في الداخل هو أن يقتصر دور الدول العربية على إمدادهم بالمال والسلاح دون الدخول في حرب ليسوا مؤهلين لها في أرض لا يعرفونها.

27- استطاع الجيش الأردني أن ينتزع القيادة، وصارت قيادة الجيوش العربية في يد قائد الجيش الأردني، ولك أن تضع كل ما تعرف من كلمات وعلامات وأساليب التعجب إذا علمت أن قائد الجيش الأردني كان الإنجليزي جلوب!!!

لا تعجب؛ فجراب الحب العربي الإنجليزي آنذاك ما زال فيه الكثير..........

- فانجلترا كانت تدعو للثورة العربية ضد الخلافة العثمانية لكي تعيد الخلافة المغتصبة من البيت الهاشمي إليه، وإذا كان شرط الخليفة عند فقهاء المسلمين أن يكون قرشيًّا؛ فإن فقهاء الانجليز من باب التشدد رأوا أنه ينبغي أن يكون هاشميًّا -بالمناسبة كان الحكام العثمانيين يلقبون أنفسهم بالسلاطين احترامًا لفقدهم أحد شروط الخلافة وهو القرشية-.

وكانت إنجلترا هي صاحبة فكرة التقسيم ابتداء، إلا أنه لما صدر قرار التقسيم من الأمم المتحدة وعبرت الدول العربية عن رفضها له كان رأى إنجلترا هو إبقاء الحال على ما هو عليه؛ حتى لا تُغضب حلفاءها العرب، إلا أن أمريكا تدخلت بثقلها لفرض القرار، بل صدر قرار تقسيم يعطي اليهود أكثر مما كان موجودًا في اقتراح التقسيم الإنجليزي، مما أعطى الفرصة لإنجلترا لادعاء أنها تساند العرب في خوض الحرب، فحافظت بذلك على ثقة الملك عبد الله بن الشريف حسين ملك الأردن، الذي أبقى جلوب الإنجليزي قائدًا للجيش الأردني، والذي صار فيما بعد قائدًا عامًّا للجيوش العربية بحكم تولي الأردن القيادة العامة للجيوش العربية.

كما استطاعت بهذه الحيلة أيضًا الحفاظ على ثقة الجيش المصري، الذي بلغ من ثقته في قوات الاحتلال الإنجليزي حد التصديق بوعد الإنجليز بفتح مخازن السلاح في منطقة القناة للجيش المصري، ثم في أثناء المعركة لحق هذا الوعد بسائر وعودهم الكاذبة، فاضطرت الحكومة المصرية إلى إجراء أول صفقة سلاح، والتي تبين فسادها عند استخدامها في المعركة، وما زالت قصة هذه الأسلحة الفاسدة من أغمض قصص الفساد في العصر الحديث.

28- وبالرغم من الأسلحة الفاسدة ونقص الرؤية والتخطيط إلا أن الجيوش العربية -وبفضل البطولات الفردية- كادت أن تقضي على عصابات اليهود لولا الجيش الأردني، أو بالأحرى جيش جلوب باشا الذي كان يحرك جيشه بما يربك كل الجيوش العربية الأخرى لا سيما الجيش المصري الذي كان قد توغل في الشريط الساحلي ذي الأغلبية اليهودية، ولولا قبول العرب بقرار الأمم المتحدة بالهدنة المؤقتة ثلاث مرات -التي لم تكن إلا لإعطاء الفرصة لليهود لالتقاط الأنفاس- لاستطاع الجيش المصري القضاء على سيطرة اليهود على المدن الرئيسية التي كانت تحت أيديهم، ومنها تل أبيب.

و من الجدير بالذكر أن تعلم أن عبارة أن إسرائيل هزمت سبعة جيوش عربية عبارة موهمة؛ حيث كانت القوات الإسرائيلية أكثر عددًا وعدة، فكانت تمتلك ستين ألف مقاتل مدربين تدريبًا عاليًا، ومنهم من خاض الحرب العالمية الثانية، بينما كان مجموع الجيوش العربية عشرون ألفًا، بعضهم لم يقاتل، وبعضهم كانت تحركاته في صالح الأعداء.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن المقاتلين اليهود في هذه الحرب لم يكونوا من اليهود الخلص؛ بل كان كثير منهم من الشعوب الأسيوية التي أدخلت اليهودية خوفًا عليها من الانقراض، وتم إعدادهم على أنه لا نجاة من مذابح النازية في أوربا إلا بذبح العرب في فلسطين، بخلاف الجيوش العربية التي أتت بغير عقيدة قتالية، إلا ما كان من نزعة دينية لدى الأفراد كما أسلفنا.

29- قاتل المتطوعون من الإخوان وغيرهم بجوار الجيوش النظامية، فتدخلت إنجلترا بأبوية حانية محذِّرة الحكومات من خطر ترك الميدان لقوات شعبية لا سيما الإخوان، فأُخذوا من الجبهة إلى السجون، ومن يومها وإنجلترا -ومن بعدها أمريكا وربيبتهما إسرائيل- تمارس دور التحريض والوقيعة بين الحركة الإسلامية وأنظمة الحكم في بلادها.

30- انتهت حرب 48 بهدنة دائمة بين العرب واليهود، إلى أن غدرت إسرائيل كعادتها هي وإنجلترا وفرنسا، اللذان لم يعدما مبررات ليرجعا عن صداقة العرب الصورية إلى حلف اليهود المصلحي الدائم في حرب 56، ولكن كانت للقوى العظمى الجديدة أمريكا وروسيا قولاً آخر أوقف الحرب على مصر من باب تقليص دور إنجلترا وفرنسا، وإن ادعوا حب العرب وصداقتهم، لا سيما روسيا.

31- إلا أن المحبة الروسية لم تدم طويلاً؛ حيث خدعت المخابرات الروسية الأنظمة العربية وورطتها في حرب 67، فحصل من هذا أن الدول التي ورثت الميراث الأوربي -فرنسا وإنجلترا وأمريكا وروسيا- قد تبنت أسلوب الخديعة والمكر لتمكن إسرائيل من أن تخوض حروبًا هي أشبه بحروب الأتاري؛ تحرك هي جيوشها، ويحرك الغرب جيوش المسلمين بالمكر والخديعة.

32- وجاءت حرب العاشر من رمضان المشهورة إعلاميًّا بحرب السادس من أكتوبر لتشهد لأول مرة إعداد على الجانب الإيماني وعلى الجانب المادي، وأرشيف الإذاعة والتلفزيون ومؤلفات وزارة الأوقاف المصرية في هذه الفترة شاهدة على أن الخطاب كان إسلاميًّا، وأن الجنود ذهبوا لكي يقاتلوا اليهود هاتفين: "الله اكبر"، نعم وجد الإعداد والسلاح، ولكنه لم يكن ليقف أمام السلاح الإسرائيلي لولا البطولة التي أظهرها الجنود، حكى شهود عيان أن المشاة المصريين كانوا إذا قابلهم حقل ألغام انتدبوا منهم مجموعة استشهادية لينفجر فيهم اللغم ويمر الباقي على أشلائهم، وحكى آخرون أنهم كانوا إذا عدموا مضادات الدبابات كَمِن أحدهم لها، ثم ألقى بنفسه على فوهة مدفعها لكي تسد أشلاؤه فتحتها فتعطل، بالإضافة إلى الموقف العربي الموحد الذي أرعب الأعداء في أمريكا قبل إسرائيل.

ومشت أمريكا على درب إنجلترا في النفاق وادعاء الصداقة للشعوب التي كانت قديمًا مستعمرات لها، إلا أنهم لسبب أو لآخر اختاروا الإعلان الصريح عن دعمهم التام والكامل لأمن إسرائيل، وللمسألة بُعدٌ يتعلق بسيطرة المال اليهودي على سير أي انتخابات في أمريكا، ولكن البعد الأكبر أن أمريكا تريد أن تنمي التركة التي ورثتها عن إنجلترا لا أن تضعفها، ومن هذه التركة هذا السلاح الخبيث المسمى إسرائيل.

33- إذا أضفت إلى هذا الجبن والهلع الذي هو سمة أساسية في الشخصية اليهودية؛ فإن الغرب يخاف أن يأتي اليوم الذي يختار فيه اليهود العودة اختياريًّا إلى حارات اليهود في أوربا الشرقية وغيرها، وفي هذه الحالة يخسر الغرب أكبر إنجازاتهم في حرب المسلمين في العصر الحديث.

إن اليهود الذين استعبدتهم الأمم على مدار تاريخهم قد استعبدهم الروم فجعلوهم أكبر درع بشري في التاريخ يحمى أوربا وأمريكا.

وفي مقابل ذلك لابد من دفع الثمن تمامًا، كما يحسن المختطفون إلى الرهائن لأن قوتهم مستمدة من سلامة هؤلاء الرهائن، فلابد للغرب أن يسدد الفاتورة مال وسلاح واحترام لليهود ومشاعرهم وشعائرهم ويبقى في النهاية أكثر الناس استفادة هم أثرياء الحركة الصهيونية في أمريكا الذين يشعرون بهذه المعادلة المعقدة أنهم ملوك العالم بحق.

34- وكان لدخول أمريكا في اللعبة بهذا الوضوح أثره في استئساد إسرائيل، فعندما تقول دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات فهل هذا كثير على أمريكا؟ فإن لم يكن كذلك فهو ليس بكثير على إسرائيل، وترسخ هذا المفهوم حتى صار من مسلمات السياسة العربية.

35- ولكن الله قيض للأمة حركات الجهاد الذين حققوا تقدمًا كبيرًا جدًّا في جوانب البناء العقدي، والأخذ بأسباب القوة الإيمانية، وأخذوا بأسباب القوة المادية، واستلهموا صور الجهاد قبل دخول الجيوش العربية في اللعبة القائمة على استثمار طبيعة الأرض وبساطة التقنيات واستثمار جبن العدو وهلعه وعجز العدو الأصلي -الغرب- عن التدخل لإنقاذه في الأزقة والحواري.

والإمبراطورية الأمريكية من فرط انشغالها بجنون القوة عرفت الصواريخ العابرة للقارات، وعرفت الرادارات المتطورة ونظارات الرؤية الليلة، ولكنهم لم يعرفوا مضادات لقذائف الحجارة، ولله في خلقه شئون، وحتى لو استطاعوا اختراع مضادات للصورايخ البدائية فإن ربيبتهم إسرائيل لم تكن يومًا من الأيام مؤهلة لأن تلتحم في قتال؛ لأنهم غير مستعدين لتقديم قتلى نظير شيء مهما غلا؛ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ(البقرة:الآية96) أي حياة مهما بلغت دناءتها، ويكفي أن تعلم أن معظم سكان إسرائيل يحملون مع الجنسية الإسرائيلية جنسية أخرى بحيث يرحلون متى ضاقت عليهم الأمور، مما حدا ببعض الخبراء الأمريكيين بعد حرب غزة 2009 إلى توقع انهيار إسرائيل خلال عشرين عامًا لو استمرت المقاومة الفلسطينية على ما هي عليه.

وعادت مطالب الحركة الإسلامية الفلسطينية للمسلمين مرة ثانية:

"لا تخوضوا حروبًا بجانبنا ولكن نريد المال والسلاح وتخذيل الأمم المتحدة من محاولة إظهار المجاهدين في صورة المعتدين".

36- إن هذا التطور الدرامتيكي في موازين القوى فرصة لتغيير مسار التاريخ، فهل نستثمرها، أم نترك المقاومة لكي تلتهمها أمريكا كما التهمت إنجلترا الجهاد القسامي من قبل؟ لا سيما وأن الخطر الفارسي ليس بعيدًا عن الأحداث، بل إنه ينتظر الفرصة لكي يثب منها على المقاومة السنية، فيدمجها في مشروعه الذي ظاهرة التشيع وباطنه عودة الإمبراطورية الفارسية، لا سيما مع وجود بوادر تحول في صفوف المقاومة الفلسطينية السنية عن الموقف الشرعي السليم من الشيعة، والذي عبَّر عنه الشيخ أحمد ياسين -رحمه الله- بقوله: "نحن والشيعة تقاطع مصالح لا تحالف"، إلى نوع من مداهنة الشيعة عبرت عنها زيارة الأستاذ خالد مشعل بعد حرب غزة 2009 إلى إيران، والتي وُصفت في الإعلام الإيراني بأنها كانت لتقديم تقرير لولي أمر المسلمين عن أحداث غزة.

يجب على الجميع أن يتحرك قبل فوات الأوان، وينقذ المقاومة الفلسطينية، والتي قُدر لها أن تقع بين مطرقة الروم وسندان فارس.

أما فيما يخص أبناء الصحوة الإسلامية فنحتاج إلى نشر التوعية بهذه القضية في كل المحافل والميادين، والعمل على توضيح معاني الولاء والبراء؛ حتى لا نلدغ من ذات الجحر عشرات المرات، وليسد كلٌّ الثغرة التي استعمله الله عليها.

نسأل الله أن يستعملنا في العمل بدينه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أثمرت هذه النهضة إصلاحًا في كثير من النواحي، إلا أنها ظلت مقيدة بالإطار الكلامي، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فبلغت هذه النهضة أوجها على يديه -رحمه الله-، وردَّها إلى المنهج السلفي جملة وتفصيلاً.

www.salafvoice.com
موقع صوت السلف