الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

البكَّاءون الجُدُد

غير أن هناك فهمًا خاطئًا مِن نوع آخر ربما تسرب إلى أولئك المصطفين المجاهدين العاملين من أجل نصرة الدين...

البكَّاءون الجُدُد
الأحد ٢٤ يوليو ٢٠١١ - ١٥:٠٦ م
6539

البكَّاءون الجُدُد

كتبه/ وائل سرحان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الله -جلَّ جلاله وتباركت أسماؤه- خلق هذا الخلق والكون الفسيح بحكمة، ولحكم بالغة، وهو -تعالى- خبير بما خلق، عليم بهم وبما يصلحهم، وما يصلحون له، فخلق -تبارك وتعالى- ما يشاء، واصطفى مما يخلق ما يشاء، وفضَّل بعض مخلوقاته على بعض، قال -تعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68).

وهذه الآية "فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار مَن يختاره ويختصه مِن: الأشخاص، والأوامر، والأزمان، والأماكن، وأن أحدًا ليس له مِن الأمر والاختيار شيء" (تفسير السعدي 1/622).

ففضَّل -تبارك وتعالى- بعض الأماكن على بعض كما فضل "مكة" على غيرها، وفضل بعض الأزمنة على بعض: (إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة:36).

وفضل الإنسان على غيره من المخلوقات: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70)، وفضل بني آدم بعضهم على بعض: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.. ) (النساء:34)، وفضل أمة محمد على سائر الأمم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...) (آل عمران:110).

بل فضَّل أفضل خلقه من البشر بعضهم على بعض: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة:253)، "كما ثبت في حديث "الإسراء" حين رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنبياء في السموات بحسب تفاوت منازلهم عند الله -عز وجل-" (ابن كثير 1/670).

وسبب ذلك التفضيل أنه -تبارك وتعالى- اللطيف الخبير، هو أعلم بمن خلق: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)، فقد بيَّن -سبحانه- سبب ذلك من تقديم وتفضيل بعض النبيين على بعض في قوله -تعالى-: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) (الإسراء:55)، فلأنه -تعالى- أعلم بمن في السموات والأرض "فله أن يخص من شاء بما شاء، لا اعتراض عليه ألبتة" (تفسير الرازي 12/104).

فإذا كان ذلك في حق الأنبياء والمرسلين فهو فيمن دونهم أولى وأجدر: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة:4)، لكن قد يفهم بعض الناس ذلك التفضيل فهمًا خاطئًا، فيظن أن التفضيل بكثرة المال والجاه، والعرض الزائل، والعارية المسترجعة، إنما حقيقة ذلك التفضيل هو ما كان تفضيلاً في طاعة الله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58).

فاختيار الله -تعالى- لبعض خلقه واصطفاؤه لهم إنما هو استخدامهم لطاعته -سبحانه-، فإنه (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أن يخلقه (وَيَخْتَارُ) لولايته الخيرة من خلْقه" (الطبري 19/608)، فهو -تقدست أسماؤه- "يختار منهم من يشاء لطاعته.. ويختار الأنصار لدينه" (القرطبي 13/270)؛ لذلك جاء الاصطفاء في كتاب الله مقرونًا بوراثة الكتاب فهؤلاء هم المصطفون حقًّا: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32).

وذكر -تبارك وتعالى- أنه فضَّل الذين ينصرون دينه، العاملين لرفعته، المجاهدين في سبيله: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:95).

وحتى يفطن الناس إلى حقيقة الاختيار والاصطفاء؛ جاءت المقارنة في القرآن العظيم بين من يريد العاجلة ومن يريد الآخرة.. وجاء التعقيب بأن الساعين للآخرة هم أهل التفضيل؛ لأن الآخرة هي: (أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) قال -عز من قائل-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا . كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا . انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (الإسراء:18-21)، فهناك تفضيل في الدنيا، فمنهم الغني والفقير، والحسن والقبيح، وغير ذلك.. لكن الآخرة: (أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا)؛ لتفاوتهم فيها أكبر من الدنيا "فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم مَن يكون في الدرجات العُلَى، ونعيمها وسرورها" (ابن كثير 5/63).

لذلك؛ جاء التحذير أن يفهم الإنسان الاختيار والاصطفاء والتفضيل فهمًا خاطئًا؛ فيتطلع إلى زيف، وينظر إلى سراب، ويتعلق بما يزول: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:131)، فلقد نهى أفضل خلقه ألا ينظر إلى ما متع به المعرضِين عن آيات الله؛ فإن ذلك "مِن زهرة عاجل الدنيا" فهذا ابتلاء واختبار، فإن ذلك "فانٍ زائل، وغُرور وخدع تضمحل"، أما رزق الله فهو في الآخرة، وهو خير وأبقى.. هكذا بإطلاق، وتأمل ذكر الآخرة بالرزق فإنها وما جُعل مِن أسبابها في الدنيا هي الرزق الحقيقي، ولو تأملت -أيضًا- سبب نزول هذه الآيات؛ لاتضح لك ذلك غاية الوضوح، فعن أبي رافع قال: "أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يهودي يستسلفه، فأبى أن يعطيه إلا برهن، فحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله هذه الآيات" (الطبري 18/403).

أما واجبنا أمام هذا الاصطفاء والاختيار فأشياء.. منها: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء:32).

فنهانا عن أن نشتهي ما فضل الله به بعض الناس، لكنه أمرنا أن نسأله -تعالى- من فضله، وأعظم الفضل -كما علمت- أن نكون من أنصار دينه، المجاهدين في سبيله ممن استحقوا وراثة الكتاب.

ونهانا عن التوقف عند النظر في ذلك التفضيل وعدم العمل -ولا أعني في سببه وحكمته-، أو أن يظل يتحسر على تقديم بعض الناس عليه، وأخبر أن التفضيل الحقيقي هو التفضيل بدخول الجنة؛ لذلك لابد للعمل مِن أجله، والمسارعة والمسابقة فيه، وذلك السعي ثمرته تظهر في الآخرة بالأساس: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ . مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:21-23).

أما مَن اختصهم الله بفضله واصطفائه فواجبهم هو الشكر، وأن يكون حالهم كحال سليمان -عليه السلام- حينما قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40)، هذا هو ما ينبغي أن يكون، لا الزهو والتفاخر، ولا التكبر والتعالي، ولا النظرة الدونية لغيره، وأنفع الشكر: الشكر بالعمل (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ:13)، فهناك مَن يقابل ذلك الفضل بالجحود والنكران: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (النمل:73)، وقال -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (غافر:61).

لكن لابد مِن التنبيه والحذر أن ذلك الاختيار والاصطفاء والتفضيل قد ينزعه الله -تعالى- من أصحابه إذا غيروا وبدلوا؛ فلقد فضل الله -تعالى- بني إسرائيل حينًا من الدهر، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (الجاثية:16)، فلما غيروا وبدلوا؛ نزع الله منهم ذلك، وأعطاه إلى غيرهم.

غير أن هناك فهمًا خاطئًا مِن نوع آخر ربما تسرب إلى أولئك المصطفين المجاهدين العاملين من أجل نصرة الدين، الذين يسعون لأمر الآخرة، فربما رأى أحدهم غيره قد شارك في صنع القرار، أو رأى غيره في موضع يدير فيه دفة الدعوة أو الجهاد لنصرة دين الله، ربما رأى ذلك؛ فظن أنه لم يكن من أهل الاختيار والاصطفاء.

و"ما هكذا يا سعد تورد الإبل"، فنصرة الإسلام والعمل من أجله والدعوة إلى الله غير متوقفة على مكان إداري أو موضع صنع القرار! فهناك مِن المصطفين مَن لا يعلمهم إلا الله، يجاهدون في صمت وينصرون الإسلام أشد ما تكون النصرة من حيث لا يعلم بهم إلا حبيبهم ومولاهم، أرادوا أن تكون أعمالهم له وحده، فبالغوا في إخفائها، وأرادهم الله لنفسه، فجعلهم المجاهدين الأخفياء.

كم تحتاج دعوتنا إلى ذلك الجندي المجهول الذي لا يُعرَف في المشاهير ودعوته تخترق حجب السماء، يستجيب الله لقسمه، أليس ذلك أمضى في نصرة الإسلام من دوائر صنع القرار؟! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ؛ لأَبَرَّهُ) (رواه مسلم)، وفي رواية عن أنس -رضي الله عنه-: (كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِى طِمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

تأمل قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ) أو قوله: (لا يُؤْبَهُ لَهُ)، فبدعوة هؤلاء يكون النصر، وهو أمضى مِن ألف إدارة أو قرار شهير، إنه.. أصبع "محمد بن واسع".

وقد امتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الجندي المتأهب دائمًا، ذلك الذي يعمل من أجل الله، لا يعبأ بأي مكان وُضع فيه، فهو لم يعمل لنظر الناس، إنما يعمل من أجل حبيبه ومولاه، ومن أجل دينه وأخراه، فإذا وُضع في مكان يستطيع مِن خلاله أن يخط ويخطط للدعوة طريقها؛ أبلى فيه واجتهد، وإن كان في الساقة؛ أبلى بلاءً حسنًا واجتهد، لقد بشره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة: (طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ؛ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ؛ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنْ اسْتَأْذَنَ؛ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ؛ لَمْ يُشَفَّعْ) (رواه البخاري).

فرغم هذا الاستعداد للعمل والبذل إلا أنه إذا استأذن لم يؤذن له، فإنه مغمور لا يعرفه أحد، ولا يُختار في مواضع الاختيار، وإذا أراد أن يشفع لأحد؛ لم يُسمع له، فمن هو..؟؟ إنه مغمور مجهول، غير معروف، لكن عرفه أهل السماء، وهيأ الله له الجنان، واشتاقت للقياه الحوراء.

وقد عرف المسلمون الأوائل ذلك فما كان أكثر العاملين الأخفياء؛ لذلك نُصر الإسلام نصرًا مؤزرًا من حيث لا يعلم الناس أسبابه الظاهرة، فهذا كعب يقول: "طوبى لهم، طوبى لهم، قيل: ومَن هم يا أبا إسحاق؟ قال: طوبى لهم، قوم إن شهدوا؛ لم يدخلوا، وإن خطبوا لم ينكحوا، وإن غابوا؛ لم يفقدوا" (تقريب التواضع والخمول).

وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه البخاري).

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وهذا الضعيف ليس ضعيف الإيمان، ولا الإمكانيات الإدارية، إنما هو ضعف في نظر الناس، وهو قوي الإيمان، رائع الإمكانيات، لكنه أرادها خالصة لمولاه، فلم يُعرف بذلك بين الناس فعدُّوه ضعيفًا، واستمع مرة أخرى إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ.. )، فعلى أيديهم يكون النصر والرزق!

ربما تمنى المرء أن يكون في هذه الدوائر لتكون خدمته للدين أتم وعمله لإسلامه أنفع، فأجر القائد الذي يتحمل عناء الإدارة وتبعاتها أكبر من أجر الجندي الذي اجتهد في موقعه، لكنه لم يتعنى كتعني ذلك القائد، نعم.. هذا حق، لكنك تؤجر بهذه النية العظيمة مثل أجر هؤلاء القادة -تمامًا- لم ينقص أجرك الذي تسعى له عن أجرهم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ) (رواه البخاري)، وفي رواية: (وَلا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

لقد حبسك عذر عدم الاختيار في تلك المواقع، وليس عدم اختيار واصطفاء الله لك، وهذا لن ينقص من الأجر شيئًا ، فهذا رجل من الأنصار كان يقول: "اللهم ذكرًا خاملاً لي ولبني، ولا ينقصنا ذاك عندك شيئًا" (تقريب التواضع والخمول 6).

كم عندنا في وقتنا هذا مِن "البكَّائين الجدد" الذين تمنوا كمال وتمام الخدمة لدين ربهم، لكنهم لم يجدوا ما يحملوا عليه: (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة:92).

لا ضير أن يتمنى المرء أن يخدم دينك وينصره أشد مِن نصرة فلان وفلان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ، فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) (رواه البخاري)، وفي "الصحيحين" عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- مرفوعًا: (وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)، فلا ضير عليك في هذه الغبطة المحمودة، أو أن تكون من البكائين الجدد، لكن هؤلاء البكائين بكوا؛ لعدم قدرتهم على الجهاد كلية، وأنت تقدر على أنواع أخرى -وربما أكبر نفعًا- مما لم تختر له.

ولابد من أن ننتبه.. فالعمل في البروز والعلن ربما حفته المخاطر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ؛ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ؛ لِيُقَالَ: فُلانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ؛ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ؛ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ؛ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ  كَمَا أَرَدْتُ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنْ لِيُقَالَ: إِنَّهُ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، فَأُلْقِيَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم، والنسائي واللفظ له، وصححه الألباني).

شهيد مجاهد، وعالم قارئ، ومنفق متصدق.. تسعر بهم النار، ويقضى لهم قبل غيرهم! خطر على الإنسان أن يكون معروفًا مرموقًا، فقِه ذلك عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فقال: "كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض" (تقريب التواضع والخمول 5)، وأوصى محيريز رجلاً فقال له: "إن استطعت أن لا تعرِف ولا تُعرف، وتمشي ولا يُمشَى إليك، وتسأل ولا تُسأل؛ فافعل" (تقريب التواضع والخمول 9).

هذا البروز خطره عظيم يصعب معه الإخلاص؛ لذلك كان أيوب يكره أن يُعرف، فعن حماد بن زيد قال: "كنا إذا مررنا بالمجلس ومعنا أيوب، فسلم ردوا ردًا شديدًا، قال: فكأن ذلك نقمة، قال أبو داود: كراهة الشهرة" (تقريب التواضع والخمول" (10).

فالإخلاص في الخمول أيسر كثيرًا مما لو كان المرء معروفًا ذائع الصيت، لذلك؛ كان أيوب السختياني يقول: "ما صدق الله عبدٌ إلا سره أن لا يُشعر بمكانه" (تقريب التواضع والخمول 8).

وكن دائمًا على ذُكر مِن قوله -تعالى-: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:271).

ولا يظن أحد أن عدم اختياره لهذه الأعمال التي غبط لها غيره يحقر من شأنه، ما ضرك نظر الناس شيئًا، فما ضر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رأت قريش أنه ليس جديرًا برسالة الله فقالوا: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.. ) (الزخرف:31)، "يعني: الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، فأنزل الله -تعالى- قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.. )، جوابًا للمشركين" (تفسير البغوي 6/218)، والقرطبي (13/270)، لكن هذه الغبطة المحمودة التي يؤجر صاحبها لو انقلبت حسدًا وضغينة، وإلى توانٍ في العمل كانت قبيحة مذمومة.

فليحذر المرء مِن: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ.. ) (البقرة:247)، فإنه -تعالى-: (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 247)، عليم بمن يحق له الملك، وإنه -سبحانه-: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.. ) (القصص:68)، ولأنه -تعالى-: (أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (الإسراء:55).

وفي الختام أسوق هذه القصة؛ حتى نعلم كيف يأتي النصر المنشود، وهي قصة بقيت عالقة في ذهني -وإن كنت نسيت مصدرها-: "في فتح "القسطنطينية" كان بعض المجاهدين يستريح ليله؛ ليتقوى بالراحة على الجهاد، لكن بعضهم كان يتقوى بالصيام وبقيام الليل، وفي إحدى الخيام أرهق أحد هؤلاء المجاهدين الصائمين القائمين صاحبه في الخيمة من كثرة قيامه الليل، وهو يريد أن يستريح؛ ليتمكن من الجهاد، فعزم عليه في ليلة من الليالي أن ينام، فأجابه إلى طلبه؛ لئلا يكون عونًا على صاحبه، لكنه استيقظ من نومه مذعورًا يمد يديه، فاستيقظ صاحبه ورأى هذه الحال، فعزم عليه أن يخبره بما رأى في نومه، لعلمه بصلاح صاحبه، فأخذ عليه العهود والمواثيق ألا يحدث برؤياه، ولا بخبره إلا بعد موته، وشرط عليه ذلك حتى يخبره خبره، وقص عليه رؤياه.

لقد رأى أنه دخل الجنة وقدمت له الحور العين حتى إذا مد يده إليها قالت له: "لا؛ ستفطر عندنا بعد ثلاث"، فأصبح ذلك المجاهد صائمًا، ووضع نفسه موضع سهام العدو، وأرهق أعداء الله، فكان السهم منهم يأتيه ولا يصيبه، حتى جاء المغرب فأفطر وقام ليلته هذه، وأصبح صائمًا وفعل ما فعل في يومه السابق، حتى كان اليوم الثالث.. فقام ليلته وأصبح صائمًا، وأرهق أعداء الله، ووضع نفسه موضع سهام العدو، فكان السهم يأتي إليه ولا يصيبه، حتى قربت الشمس من الغروب، فجاءه سهم فأرداه صريعًا!

وكان صاحبه يرمقه مِن بعيد، فصاح بالجيش: هلم إلى الرجل.. لينقذوه من أيدي الأعادي حتى إذا دنا وتمكن منه صاحبه فصاح: هنيئًا لك بما تفطر الليلة، فعض صاحبنا -المجاهد التقي الخفي الذي لا يعلم بمكانه غير صاحبه- عض على شفتيه أنِ اكتم عني، يذكّره بالعهد الذي كان بينهما، فلما قضى نحبه؛ نادى صاحبُهُ في الجند: هلم أخبركم خبر الرجل، وقص عليهم قصته.

فقام مَن قام من الجيش ليلته، وأصبح منهم قوم صيامًا، كلٌّ يمني نفسه بمثل ما نال ذلك الذي لم يعرف -إلى الآن- اسمه، ولا علم أحد كذلك رسمه، وشدّوا على العدو، كلٌّ يضع نفسه موضع السهام، وفتحت "القسطنطينية" في هذا اليوم، هكذا فتحت "القسطنطينية"، أقصد هكذا به فتحت "القسطنطينية".

ترى مَن هذا؟ ومَن يكون؟ ما اسمه؟ ومن أي قوم كان ذلك الذي كان سببًا للنصر وفتح "القسطنطينية"؟! لقد اصطفاه الله لنفسه!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة