الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الرواحل !!

فلا عوائق أمام هذه الرواحل ،كم نحن بحاجة صادقة إلى صيحة صدق من راحلة صدوق : أينقص الإسلام وأنا حي !! وهذا سيف

الرواحل !!
الأحد ٠٢ أكتوبر ٢٠١١ - ١٦:٢٦ م
8258

الرواحل !!

كتبه / وائل سرحان

الحمد لله والصلاة ..والسلام على خير خلقه ، صلى الله عليه وسلم .. أما بعد ..

 فإن الدعوة إلى الله اليوم واجب الأمة الإسلامية جمعاء ، كل حسب قدرته وإمكاناته ، إلا عاجز معذور،ومع أهمية ذلك الواجب إلا أنك تلحظ لدى بعض المنتسبين للصحوة ضعف استشعار المسؤولية والغفلة عن استحضار ذلك الواجب ، فلا يشعر بأنه مطالب بعينه بالنهوض بالأمة ومداواة عللها وتضميد جراحها ، وتجد بعض من يتمنى أن توكل إليه المهام الدعوية فإذا أوكلت إليه تراه لا يقوم بها خير قيام ولا ينهض بها كما ينبغي ، فتراه متراخيًا في إنجاز المهام ضعيفًا في أداء الأعمال.

وتجد أعمالًا هامة معطلة لأنه لا يصلح لها كثير من الناس ،ينظر الدعاة إلى الله ويقلب أحدهم ناظريه في من حوله ليجد من يقوم بالمهام الدعوية وينجزها بجد وعزم وإكمال دون تراخ أو إخلال فيرتد إليه البصر خاسئًا وهو حسير.

إن شكوى عمر رضي الله عنه: "اللهمَّ إنِّي أشكُو إليك جَلَدَ الفاجرِ وعجزَ الثقةِ" هي عين شكوى الدعاة إلى الله الآن ، لكنها في وقتنا حقيقية واقعية ، ماثلة للعيان .

كثيرًا ما يمثل بعض المنتمين إلى الصحوة الإسلامية دور الغثاء فـ"ليس ضعف أمتنا بسبب قلة عددنا ، ولكن بسبب الغثائية التي أنهكتها وأصبحت تخدعنا عند الأزمات".

إن دعوتنا وأمتنا كما أنها بحاجة إلى العاملين إلا إنها بحاجة أشد إلى الجادين الكفء من العاملين ، أولئك الذين عندهم من الإصرار على القيام بالأمر المنوط بهم، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة ، المشمرون عن ساعد الجد إذا أوكلت إليهم الأعمال، أصحاب العمل النشيط الدؤوب ، أولئك الذين لا يعرفون إلا مبدأ العزم والفاعلية ، فمهمتنا اليوم كبيرة.

تحتاج الدعوة الآن إلى أولئك الذين احترفوا إتقان الأعمال وأدمنوا إحسانها ، تحتاج إلى أولئك الذين فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم مراده في حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :"إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"[مسلم(1955)].

فكما أن هذا يعود على الذبيحة بتخفيف الألم فإنه توجد قيمة أخرى كبيرة وهي أن يتعود المسلم "الإحسان" ، الأداء الحسن ، الأداء الكامل ، الأداء المتقن ، الأداء الجميل ، إن الإسلام لا يكتفي بأداء الأعمال - كل الأعمال حتى الذبح والقتل- على أية صورة ، وإنما يتطلب "الإحسان " في الأداء"

فالمسلم مطالب بالإتقان والإحسان ، وهو لا يسعه إلا أن يكون محسنًا حتى لو لم ير ثمرة إتقانه وإحسانه ، فلا ينبغي أن يكون هم المرء هو مجرد الرغبة في تولي الأعمال والفرح بذلك والركون إليه[1] ، إنما المطلوب هو إتقانها وإكمالها وإتمامها ، فهذا ما يحبه الله تعالى منا ، حتى ولو لم يظهر لنا أثر ذلك الإتقان ، فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ"[رواه البيهقي وأبو يعلى وابن عساكر، صححه الألباني، الصحيحة برقم(1113)،وحسنه في صحيح الجامع برقم(1880)] ، وروي بلفظ "أن يحكمه"، وعند البيهقي[في الشعب]"إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن" وعند الطبراني "أن يتقن".

فكما أن المرء عليه أن يعمل حتى لو لم يكن سيرى نتيجة سعيه ، فإنه إنما يعمل من أجل الأجر كما في حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ "[أحمد(12569) والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني] فكذلك عليه أن يتقن العمل لينال حب الله ، فإنما يحب الله الإتقان والإحسان في العمل ،وأمر الدعوة إلى الله والعمل لدين الله أشد حاجة إلى الإتقان والإحسان والإتمام والإكمال من أي عمل دونه .

علينا أن نكون كأبي دجانة حينما أخذ السيف أخذه بحقه فقد قال صلى الله عليه و سلم يوم أحد : (مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا). فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا أَنَا. قَالَ: (فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ). قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ فَقَالَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ. قَالَ: فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ. (رواه مسلم)، وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعليّ : " "لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ الْقِتَالَ الْيَوْمَ لَقَدْ صَدَقَ مَعَكَ الْقِتَالُ الْيَوْمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَسِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ" [أخرجه ابن إسحاق في سيرته معلقًا، وعنه الحاكم في المستدرك وصححه، وسكت عنه الذهبي، وراجع أسد الغابة].

إنها القوة في أداء الأعمال والجدية في إنجاز المهمات هكذا كان السلف رضي الله عنهم حتى في عباداتهم ، فهذا سعيدُ بنُ المُسَيّب-رحمه اللهِ– يقول :"مَا دَخَلَ عليّ وقتُ صلاةٍ إلاّ وقد أخذتُ أهبتها " .

   وقَالَ: "مَا فاتتني التكبيرةُ الأولى منذُ خمسينَ سنة ، وما نظرتُ في قَفَا رجلٍ في الصلاةِ منذُ خمسينَ سنة" .

وقَالَ عنه مولاه ( بُرْدُ ): « مَا نُودي للصلاةِ منذُ أربعين سنة إلا وسعيدٌ في المسجد » [2].

 نحتاج إلى هذه القوة في تحمل أمانة الدعوة إلى الله ، القوة في أداء الأعمال – أي أعمال- تلك القوة التي أرشدنا الله إليها في كتابه ، فها هو يحيى عليه السلام ينادى ليحمل الأمانة الكبرى بهذا النداء "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا"[مريم :12]"نودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع".

فينبغي على الفرد أن يضع طاقاته في أحسن حالاتها ، وفي أقصى توترها"خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ"، ينبغي أن نتعلم الْكِتَابَ ونأخذ تعاليمه وندعوا إليه(بِقُوَّةٍ) بجدٍّ وحرصٍ واجتهادٍ ، فالله وهب يحيى{الْحُكْمَ صَبِيًّا} وهبه الفهمَ والعلمَ والجدَّ والعزمَ، والإِقبالَ علَى الخيرِ، وَالإكبابَ عليه، والاجتهادَ فيه"[ابن كثير بتصرف واختصار].

وهذه القوة وذلك العزم أمر به موسى عليه السلام قال تعالى :"وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ "(الأعراف : 145) بـ"جد وعزيمة وحزم ، فإنه عليه السلام قد أنيط به تكوين شعب جديد بتربية جديدة شديدة ، مخالفة كل المخالفة لما نشأ عليه من الذل والعبودية لفرعون وقومه ، ومن الشرك والوثنية ومفاسدها ، فإذا لم يكن المربي لهؤلاء القوم والمرشد لهم صاحب عزيمة قوية وبأس شديد وعزم ثابت ،فإنه يعجز عن سياستهم وتربيتهم ، ويفشل في تنفيذ " مهمته ودعوته" [تفسير المنار بتصرف واختصار].

ولقد خوطبت بنو إسرائيل بنفس هذا التوجيه"خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ "(البقرة : 63) "بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم من غير تقصير ولا توان "[راجع الطبري]"اعملوا بجد ونشاط ،لا يلابس نفوسكم فيه ضعف ، ولا يصحبها وهن"[تفسير المنار]،"ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل- بصفة خاصة- بعد ما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر، تحتاج إلى هذا التوجيه "[الظلال] وما أحوجنا نحن إلى ذلك التوجيه وفي مثل هذه الأحوال.

فأمر الدين والدعوة ، خاصة بعد طول قهر وإبعاد "لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة ،إنه عهد الله مع المؤمنين، وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق..وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته ،إنه أمر عظيم ، أعظم من كل ما في هذا الوجود ، فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على هذه التكاليف، ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة ، ولا بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم"[السابق باختصار].

تحتاج دعوتنا إلى ذلك العبد التقي فمع كونه خفيًّا إلا إنه راحلة ضخمة ، إنه ناجح في كل أعماله ينجز أي عمل أوكل إليه ، فإذا كان في الحراسة ملأ مكانه وسد ثغرتها وإذا كان في الساقة سد ثغرتها[3].

تحتاج إلى ذلك الذي لا يعرف الرخاوة ولا التميع ولا يعرف إلا الجد والقوة ، أينما حل أفاد ، وكل عمل أوكل إليه أنجزه ، فارس في كل الميادين ، لا يعرف الخلود إلى الراحة والدعة ، يتحمل تبعات الدعوة وآلامها وثقلها ، لا يكل ولا يمل ولا يضعف ولا يستكين مهما كان العمل ومهما كانت مشاقه وتكاليفه وتبعاته ، هكذا الربانيون أتباع الأنبياء ، وهذه هي صفتهم "وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ " [آل عمران : 146]"هذا هو شأن المؤمنين، المنافحين عن عقيدة ودين،الذين لا تضعف نفوسهم،ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون"[السابق باختصار]إنهم العلماء الأتقياء الصُبُر ، كما قال جعفر وابن المبارك [الطبري].

نحتاج إلى مثل هؤلاء ..إنهم الرواحل الذين عناهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :"إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً "[البخاري(6498)، ومسلم(2547)].

إن المرء ليعجب حينما يرى حقيقة هذا الحديث ماثلة للعيان ويرى حوله الإبل الغثاء ، ويصعب أن يجد من بينها واحدة تتحمل تبعات السفر ومشاقه ، تصبر مع صاحبها حتى توصله إلى غاية سفره المنشودة ، لكن يبزغ الأمل حينما يجد من بينها راحلة تعينه ، يضع عليها ما يضع ، ويحمل عليها ما يحمل فهي لن تكل ولن تضعف[4] .

 كم نحن بحاجة إلى رجال كأولئك الرواحل ، كم نتمناها كما تمناها الفاروق رضي الله عنه حينما "قال لأصحابه تمنوا فقال رجل أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله ثم قال تمنوا فقال رجل أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرا أنفقه في سبيل الله وأتصدق ثم قال تمنوا فقالوا ما ندري يا أمير المؤمنين فقال عمر أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح"[حلية الأولياء] .

إنه يتمنى الرجل الراحلة ، وهو نفسه رضي الله عنه كان كأعظم الرواحل وأفضلها بعد الصديق رضي الله عنهم أجمعين فقد كان يحسن ويتقن حتى في مشيه وضربه وصوته قالت عنه الشفاء ابنة عبد الله "كان والله عمر إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع"[الطبقات الكبرى]هكذا هو جاد ناجح قوي في شأنه كله ، إنه..كراحلة الرواحل .

كم يعج تاريخنا المجيد وأسلافنا الأماجد برجال كهاتيك الرواحل !! فلقد كان قدوتهم في ذلك ومعلمهم هو نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقوله صلى الله عليه وسلم:"مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ     تَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً" يَعْنِي الشَمْس"[رواه الطبراني في الكبير     والأوسط، وأبو يعلى في مسنده، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن، وحسنه     الألباني] أكبر مثال على العزم والتصميم ، والجد والجدية ، والهمة والفاعلية ، فلا خيار له غير إنجاز مهمته إلا الموت "أو أهلك دونه" .

وها هو صديق الأمة يصدح بكلمة لا تعني إلا إنه رجل كأعظم الرواحل يقول: أينقص الإسلام وأنا حيّ، وقال: والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلا مناص ولا محيد عنده عن القيام بالأمر وإنجاز الأعمال مهما حالت دونه العوائق ، فلا عوائق أمام هذه الرواحل ،كم نحن بحاجة صادقة إلى صيحة صدق من راحلة صدوق : أينقص الإسلام وأنا حي !!

وهذا سيف الله المسلول كان قادة الروم يسمعون بمجيئه فيفرون من المعركة ؛ لأنه ما دخل معركة إلا فاز بها ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يرسل فردًا واحدًا ليدعو بلدًا  كاملًا أو دولة بأسرها ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أحسن صنع رجال كالرواحل التي عناها في حديثه .

وهذا مثال آخر من أسلافنا الأماجد كراحلة من أكابر الرواحل ؛ صلاح الدين الأيوبي كان كالوالهة الثكلى، فقدت وحيدها، يتململ في فراشه ويتقلب فيه، ولا يجد النوم سبيلًا إلى جفنيه، يقول لوزيره ابن شداد:"أما أسر لك حديثًا، إني أتمنى إن فتح الله عليَّ بيت المقدس أن أركب البحر أقاتل في سبيل الله كل من كفر بالله حتى يظهرني الله أو أموت"، كأنه يذكرنا بفاتح أفريقية رضي الله عنه حينما تم له فتح السوس الأدنى والسوس الأقصى أقحم جواد في مياه المحيط الهادرة وقال:"اللهم اشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك أقاتل من كفر بالله حتى لا يعبد أحد من دونك..اللهم لم أخرج بطرًا ولا أشرًا ، وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تُعبد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا..ثم انصرف راجعًا" فتأمل مدى شعوره بالمسئولية الكبرى التي حملها على عاتقه نحو تبليغ الإسلام وتقوية دولته والقضاء على دول الكفر التي حجبت نور الإسلام عن شعوبها، ،، ما كان أكثر رواحلنا!!

وإلى من تمنى أن يستخدمه الله تعالى في الدعوة إليه ، إليه مثال صدق ، تمنى فصدق ، ووعد فأنجز وقضى نحبه ، فهذا أنس بن النضر غاب عن قتال يوم بدر فقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23) (رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري). ، وعلى(البكاؤون الجدد) أن يكونوا صادقين[5].

كم نحن بحاجة إلى الرجال الرواحل لا أنصاف الرواحل ولا أرباعها ، هؤلاء هم صناع المستقبل ، صناع الأمل ، هم صناع الحياة ، فإذا أردنا أن نصنع الفجر الباسم فعلينا أن نهتم بصناعة الرجال..رجال كالرواحل.

إن "الإنسان هو أساس الحضارة ، ولذلك يرتكز منهج التغيير الحضاري الإسلامي على صياغة الإنسان المسلم من جديد ، فالطريق الصحيح للخروج بالأمة الإسلامية من دائرة الضعف أن نعود إلى منهاج الإسلام في التغيير الحضاري ، فنقوم بتفجير الطاقات الكامنة في الإنسان المسلم ، عندها نمتلك القدرة على القفز فوق كل الحواجز لتحقيق التقدم والإنجاز الحضاري" [البيان(99)مقال محمد بدري باختصار وزيادة].

  إن الأمة الإسلامية لن يكون لها مكان على خريطة المستقبل إلا إذا شمر أبناؤها كل منهم عن ساعديه ، وتعبد لله في ليله ونهاره بالعمل الجاد الكثير..وتاب من خطيئة الكلام الكثير والعمل القليل ، وامتنعوا عن كثرة التنظير وقلة العمل ، فكلماتنا "وأقوالنا تظل جثثًا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء عاشت وانتفضت بين الأحياء" .               والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا..

 



[1]    - ولا أعني الفرح بالطاعة واستعمال المرء في طاعة الله وخدمة دينه .

[2]   - [حلية الأولياء (2/163) ، حلية الأولياء (2/162) ، سير أعلام النبلاء (4/221)].

وهذا لم يرد عن سعيد فقط ، إنما ورد عن غير واحد من السلف رحمهم الله فلقد كانت هذه هي عادتهم وهذا ديدنهم ، ودونك هذه الأمثلة :

  - وقَالَ وَكِيعُ بنُ الجراح - رحمةُ اللهِ عليهِ - : " كَانَ الأعمشُ قَريباً مِنْ سبعين سنةً لمْ تفتهُ التكبيرةُ الأولى ، واختلفتُ إليهِ قريباً مِنْ ستين فمَا رأيتُهُ يَقضي رَكْعةً " [حلية الأولياء(5/49)] .

- قَالَ رَبِيعةُ بنُ يزيد - رحمةُ اللهِ عليه - : « مَا أذّن المؤذنُ لصلاةِ الظهر منذُ أربعين سنة إلا وأنا في المسجدِ ، إلاّ أنْ أكونَ مريضاً أو مسافراً » [المعرفة والتاريخ (2/217) ، الثقات (4/232)].

  - وقَالَ محمد بن سماعة القاضي - رحمةُ اللهِ عليهِ - : « مَكثتُ أربعين سنةً لم تفتني التكبيرةُ الأولى إلا يوماً واحداً ماتتْ فيه أمي ، ففاتتني صلاةٌ واحدةٌ في جماعةٍ » [تاريخ بغداد ، 5/341].

  - وقَالَ أسيد بن جعفر - رحمةُ اللهِ عليهِ - : « بشرُ بنُ منصور ما فاتته التكبيرةُ الأولى قط ، ولا رأيته قام في مسجدنا سائلٌ قط فلم يُعط شيئاً إلا أعطاه » [حلية الأولياء ، 6/240] 

- وقَالَ يحيى بنُ مَعِين - رحمةُ اللهِ عليهِ - : « أقامَ يحيى بنُ سعيد - القطّان - عشرين سنة يختم القرآن في كلِّ ليلةٍ ، ولم يفته الزوالُ في المسجد أربعين سنة ، وما رؤي يطلب جماعة قط » [تاريخ بغداد (14/141)].

[3]   - المقصود قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري [(2887)]:"طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع له"

[4]    -لا ضير أن يكون الرجل لا يحسن عملًا ما أو ليس في طاقته وإمكانياته ، فعليه حينئذ أن يتركه لغيره ولا يتشبث بما لا يستطيع فعله ، ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه:"يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفًا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرنّ على اثنين ، ولا تَولّيَنّ مال يتيم" [مسلم(1826)] إشارة إلى أن من لم يستطع تحمل مسئولية عمل ما أن يدعه لأنه لا يقوى عليها ، لكن عليه كذلك أن يبحث عن عمل آخر يستطيعه يخدم به دين ربه ويعمل فيه من أجل دعوته فالدعوة على الله مجالاتها كثيرة ، كما أنها من فروض الكفايات ومعلوم أن فروض الكفايات قد تتعين بصورة أو بأخرى ، والدعوة إلى الله واجب كل وقت ومسئولية الجميع  .

إذا لم تستطع شيئا فدعه       وجاوزه إلى ما تستطيع

[5]   - راجع مقال " البكاؤون الجدد"للكاتب.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

 

 

 

تصنيفات المادة