الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدعوة السلفية وحزب النور... والدستور والشريعة

ونحن إذ نعلن هذه الحقائق نريد أن نُبيِّن مدى المرونة التي تحلينا بها لكن لا يمكننا أن نصل بهذه المرونة إلى درجة إهدار الأمانة والمسؤولية التي وعدنا الناس بها

الدعوة السلفية وحزب النور... والدستور والشريعة
الدعوة السلفية
الثلاثاء ٢٣ أكتوبر ٢٠١٢ - ١٨:٥١ م
16249
الدعوة السلفية وحزب النور... والدستور والشريعة

8-ذو الحجة-1433هـ   23-أكتوبر-2012      

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد أن مَنَّ الله على شعب مصر بزوال الطغيان والاستبداد... خرج علينا مستبدون من نوع آخر يريدون أن يطمسوا هوية الأمة، وأن يقرروا باسمها ورغمًا عن إرادتها مبادئ تتصادم مع شريعتها تحت شعارات براقة مِن: "الحرية - والمساواة - والكرامة الإنسانية".

وهي شعارات معسولة فضفاضة، لم تعرف البشرية منهجًا متوازنًا محققًا لها على الوجه الصحيح إلا في ظل الشريعة الغراء.

ونحن نرى كيف يُروَّج للفواحش تحت مسمى: "حرية الإبداع"؟!

وكيف يُطعن في الثوابت تحت مسمى: "حرية الفكر"؟!

وكيف يُهدم نظام الأسرة تحت مسمى: "المساواة"؟!

ونسي هؤلاء أن مقتضى شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" أن تشهد أن الله هو العليم الحكيم الخبير، وأنه أعلم بنفسه وبغيره (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(الملك:14).

وأن شريعته هي المتضمنة لما يقوم بحاجات العباد كما أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(الأنعام:161).

وأن موقف المسلم تجاه الشريعة ينبغي أن يكون الاستسلام والخضوع مصداقًا لقول الله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(النساء:65)، وقوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا(الأحزاب:36).

وأن حالنا يختلف عن حال الأمم الأخرى والشعوب التي لا تهتدي بنور الوحي (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(النور:40)، هذه الشعوب أدركت بعد طول عناء أهميه الحرية، والمساواة، والتكافل الاجتماعي، وغيرها من المعاني... وما زالت تبحث عن الطريقة المُثلى التي تطبق بها هذه المعاني، فهم على وجوههم يهيمون، وفي كل واد يبحثون!

ولو أننا اتبعناهم في ذلك رغم ما عندنا من النور المبين؛ فسيكون مثلنا "كمثل الحمار يحمل أسفارًا"، ويصدق علينا قول القائل:

كالعير في البيداء يقتلها الظما           والماءُ فوق ظهورها محمول

ومِن ثَمَّ أنشأت الدعوة السلفية "حزب النور" ليكون ذراعًا سياسيًّا لها، وخاضت الانتخابات البرلمانية، وجعلت حراسة الهوية على رأس خطابها السياسي، مع عدم إغفال الاهتمام بمصالح الناس، وفاز التيار الإسلامي مجتمِعًا بأغلبية في البرلمان؛ إلا أن العالمانيين ضغطوا من أجل أن يحصلوا في تشكيل التأسيسية على نسبة لا تناسب نسبتهم في البرلمان!

وبدأ ممثلو الدعوة السلفية وحزب النور في التأسيسية في الدفاع عن الهوية، ومما يحزننا أن معظم الإسلاميين في التأسيسية خفَّض من سقف مطالبه مراعاة للصوت العالي للعالمانيين؛ مما جعل الخلاف على مواد الهوية في الدستور يبدو أنه "سلفي - عالماني".

ومع هذا... استمرت المناقشات داخل التأسيسية، واللقاءات خارجها في عدة محاور:

الأول: تجويد المادة الثانية التي تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، وكلمة مبادئ إحدى الكلمات التي يستعملها خصوم الشريعة في تفريغ المادة من محتواها، فاقترحنا حذف كلمة "مبادئ" ووضع كلمة "أحكام" مكانها؛ فرفضوا!

"
ونحن إذ نعلن هذه الحقائق نريد أن نُبيِّن مدى المرونة التي تحلينا بها لكن لا يمكننا أن نصل بهذه المرونة إلى درجة إهدار الأمانة والمسؤولية التي وعدنا الناس بها
"

فاقترحنا حذفها دون بدل لتبقى: "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"؛ فرفضوا! واستعانوا بالأزهر الذي شفع لهم، وقدَّم لنا تفسيرًا لكلمة مبادئ يُبقي على المادة ملزمة للبرلمان بعدم الخروج عن الشريعة، فاقترحنا "بقاء المادة على ما هي عليه، على أن يُنص على مرجعية الأزهر في تفسير المبادئ"، فوافقوا في أول الأمر، ثم عادوا فرفضوا، بل طالبوا الأزهر نفسه أن يرفض أن يُنص على مرجعيته في الدستور!

وفي نهاية المطاف... تم الاتفاق على بقاء المادة كما هي مع وضع مادة أخرى مفسرة للمبادئ، وتم الموافقة على هذا الاقتراح؛ إلا أننا فوجئنا بحذف هذه المادة من المسودة التي أعلنت على الرأي العام! وهو ما لا يمكننا تمريره، ولا السكوت عليه...

ولم يقتصر عملنا على المادة الثانية، بل تم الإصرار على أن يتم وضع مادة ضابطة في أول باب الحريات تنص على: "تُمارس الحقوق والحريات بما لا يخالف قيم المجتمع ونظامه العام": وهي مادة ضرورية لا تغني المادة الثانية عنها؛ حيث تضبط المادة الثانية التشريع بينما تضبط هذه الممارسات.

ورغم إدراك العالمانيين لهذا الأمر؛ إلا أنهم يحاولون -قدر الإمكان- ترك مواد كثيرة في الدستور مطلقة لتُفَسَّر وفق المعايير الغربية، والمواثيق الدولية للحرية والمساواة.

ورغم الاتفاق على هذه المادة؛ إلا أننا فوجئنا أن المسودة التي أُعلنت... خلت أيضًا من هذه المادة، وهو ما يجب الانتباه التام له.

وعلى محور ثالث: تصدت الدعوة بكل قوة لمحاولة العالمانيين حذف قيد: "بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية" في المادة الخاصة بالمساواة بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذي هدد أحد الليبراليين بالاستعانة بالمنظمات والبرلمانات الغربية لحذف ذلك القيد "مما يؤكد أن القضية ليست لفظية كما يحاولون أن يصوروا في كل قضية يريدون أن يلبسوا على الرأي العام فيها". فهل يدعو مَن دعا إلى تدويل القضية من أجل خلاف لفظي أم أنهم يريدون أن يضعوا في الدستور ألفاظًا تَسحب مرجعية الشريعة الإسلامية؛ لتحل محلها مرجعية مؤتمرات السكان، وغيرها من المؤتمرات الدولية المحارِبة للأخلاق، والساعية لتدمير الأسرة؟!

وليس أدل على ذلك من الخطاب الذي أرسلته منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى التأسيسية تطالبها بوضع مادة صريحة تدعو إلى تقديم المواثيق الدولية على القوانين المحلية عند التعارض، ومرَّ هذا التدخل السافر في أخص شؤوننا على العالمانيين مرور الكرام، ورحبوا به غاية الترحيب! ولمَ لا يرحبون وهم الداعون إليه في بادئ الأمر؟!

وعلى محور آخر: تم إضافة "الشورى" كمقوم مِن مقومات نظام الدولة، وهو ليس أمرًا لفظيًّا هو الآخر، وإنما تتضمن معنى جوهريًّا؛ حيث إن الشورى لفظ إسلامي أصيل، وهو بأصل وضعه يعني ألا يُستشار في الأمور التي للشرع فيها حكم.

وكانت هناك محاولات أخرى بإضافة مادة تتحدث عن السيادة لله، وأنه هو الذي أمر الشعب بمراقبة الحاكم، وهو معنى عقدي يختلف فيه الشعب المسلم -الذي يتأدب مع الله فلا ينسب السيادة إلا له- عن غيره من الشعوب التي لا تتأدب مع الله بمثل هذا الأدب.

كما كانت هناك محاولات لإضافة مواد أخرى تتحدث عن تحريم سب الصحابة، وأمهات المؤمنين، وغيرها من المحاولات... التي شن العالمانيون هجومًا حادًا عليها، ورأينا أن غيرها قد يغني عنها بطريق التبع واللزوم، فتراجعنا عنها في محاولة لعبور مرحلة وضع الدستور؛ رغم أن وجودها صريحًا في الدستور كان مطلوبًا من الناحية الدينية والناحية السياسية على حد سواء؛ لوقف المطامع الإيرانية باختراق العمق المصري.

ومِن عجيب أمر العالمانيين أنهم يبخلون بإضافة كلمات قليلة تمثِّل تفصيلاً لبعض قضايا الهوية بزعم أنه: "يكفيكم المادة الثانية"، في الوقت الذي طالب الجميع بإضافة مادة تنص على تحاكم أهل الكتاب لشرائعهم في أحوالهم الشخصية رغم اتفاق الجميع على أن المادة الثانية تغني عن هذه المادة! ومع هذا... أُضيفت من باب التطمين أو التأكيد؛ فلماذا يرفضون أن ينص في أبواب الحريات -مثلاً- على أن ضابط تفسيرها هو الشريعة الإسلامية في ظل وجود تفسيرات مصادمة للشريعة تتبناها مؤسسات دولية؟!

ونحن إذ نعلن هذه الحقائق أمام الشعب... نريد أن نُبيِّن مدى المرونة التي تحلينا بها في محاولة لإنجاز الدستور، ولكن في ذات الوقت لا يمكننا أن نصل بهذه المرونة إلى درجة إهدار الأمانة والمسؤولية التي وعدنا الناس بها، وحمَّلونا إياها، بل وحمَّلوا التأسيسية كلها بها.

ويكفي أن تعلم أن 99% من المقترحات التي قُدمت عبر المواطنين إلى التأسيسية تُطالِب بحذف كلمة "مبادئ" من المادة الثانية.

ونُحذِّر الجميع مِن أننا لا يمكن أن ندعو الجماهير إلى التصويت بـ"نعم" على دستور "لا يحقق الحد الأدنى مِن التعبير عن هوية الأمة ومرجعية شريعتها"، وأن هذا الموقف موقف ثابت؛ سواء تم الإبقاء على التأسيسية الحالية أو تم حلها.

ولنذكر الجميع أننا نحتاج لنصرة دين الله الذي نصرنا على الطغاة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(الحج:40).

ونهنئ أمتنا الإسلامية، وشعب مصر العظيم بـ"عيد الأضحى المبارك" أعاده الله علينا ونحن نَنعم بظلال شريعته، مستقيمين على طريقه، ساعين لرفعة أمتنا واستقرار معيشتنا. اللهم آمين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي