الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

في حوادث القطارات... "الإهمال بيت الداء والأمانة والرقابة دواؤه"

شهدت مصر على مدار أيام معدودة عدة كوارث بمرفق السكك الحديدية... بدأت بكارثة

في حوادث القطارات... "الإهمال بيت الداء والأمانة والرقابة دواؤه"
عبد المنعم الشحات
السبت ١٩ يناير ٢٠١٣ - ١٧:٥٦ م
2062

في حوادث القطارات... "الإهمال بيت الداء والأمانة والرقابة دواؤه"

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد شهدت مصر على مدار أيام معدودة عدة كوارث بمرفق السكك الحديدية... بدأت بكارثة "قطار البدرشين" والذي قارب ضحاياه العشرين، فضلاً عن أكثر من مائة جريح؛ فإذا سألت عن السبب فسوف تحصل على إجابات تتعلق بالتخلف التكنولوجي، وغياب وسائل الإنذار الآلية بحيث لا يبقى إلا العنصر البشري.

وإذا كان هذا الحال يمثِّل حالة من التخلف الحضاري لا يليق بدولة بحجم مصر إلا أنه لا يعني وقوع حوادث؛ حيث إن الاعتماد على العنصر البشري في أمر محسوس كتسيير القطارات لا يترتب عليه حدوث هذه الحوادث، ويمكنك بملء فيك وقبل أن تطالع تحقيقات النيابة أن توجِّه أصابع الاتهام إلى الإهمال، وتبقى التحقيقات لتوزع حصة كل فرد من هذا الإهمال.

وفي "قطار البدرشين"... تحرك القطار دون إجراء الكشف الذي تحتمه اللوائح "لاحظ أنه حتى لو كان ذلك الكشف آليًّا فكان من الممكن تجاوزه أيضًا"، ثم لم يُلتفت إلى الشكوى المتكررة التي دقت ناقوس الخطر أكثر من مرة.... ! إنه الإهمال الذي يصل إلى حد الاستهتار.

بل إن شحن هذا العدد من المجندِين بما يفوق ضعف سعة القطار... هو الآخر إهمال متعمد لآدمية المجند؛ حتى ولو كان سيُجند في الأمن المركزي!

وبينما دماء "ضحايا البدرشين" لم تجف... إذا بحادثة أخرى في "أرض اللواء"، وهي حادثة لعبت فيها السكة الحديدية دور المجني عليها؛ حيث أصر "قائد تاكسي" على كسر المزلقان رغم إغلاقه بالسلاسل، ولكن السائق المقامر استثمر أن السلاسل تغلق كل حارة من الجهة التي تقدم منها السيارات مما دفعه إلى محاولة الدخول من الجهة العكسية والمرور منها إلا أن السيارة تعطلت لحظة مرور القطار فنزل هاربًا تاركًا القطار ليدهس التاكسي بمن فيه!

وإذا كان التقصير والإهمال مذمومان "لا سيما إذا نتج عنهما ما نتج من دماء وأشلاء" فإن التعدي والتزيد مذمومان وبنفس الدرجة؛ ولذلك كان من الغريب أن يحتج البعض على "حادث البدرشين" بتعطيل حركة القطارات في القاهرة والإسكندرية غير مبالين بمصالح الناس وأوقاتهم! وغافلين أو متغافلين أن سلوكهم قد يؤدي إلى كوارث من عينة ما غضبوا من أجله إذا أعاقوا طبيبًا عن مريضة أو ما شابه ذلك من المواقف!

وإن كان بإمكانك أن تبدي شيئًا من التفهم لموقف هؤلاء... فإن الأمر يزداد غرابة وعجبًا عندما تكرر هذا الموقف مع حادث "أرض اللواء"، وقام البعض بإعاقة حركة القطارات؛ احتجاجًا رغم وضوح براءتها في هذه المرة!

لقد أعادت هذه المشاهد إلى الذاكرة مشاهد لم تكن قد غابت عنها أصلاً كحادثة "قطار أسيوط"، والذي أودى بحياة أطفال أبرياء كانوا في طريقهم إلى المدرسة من جراء إهمال جسيم لعامل المزلقان.

إذن الإهمال هو "كلمة السر" في كل ما يلم بنا...

- إهمال تطوير السكك الحديدية ذاتها.

- إهمال تطوير الجرارات.

- إهمال تطوير العربات؛ لا سيما عوامل الأمان فيها.

- إهمال تدريب العاملين.

- إهمال تحقيق الاستقرار الوظيفي والنفسي والمادي للعاملين.

- إهمال محاسبة المقصرين.

وفي هذا الصدد سوف تجد نفسك أمام ثلاثة أصناف من الناس:

الصنف الأول: يحمِّل النظام السابق المسؤولية كاملة دون الرجوع بأدنى مسؤولية على النظام الحالي، وحجتهم في ذلك واضحة: فإذا كان أحدث وأفخم وأغلى أنواع القطارات أجرة قد دخل الخدمة في مصر منذ نحو من عشرين عامًا أو يزيد؛ فما بالك بقطارات الدرجة الثانية والثالثة؟!

ثم إن حوادث القطارات قد بدأت منذ منتصف التسعينات، وأنفقت ميزانيات وجاءت منح... وكلها ابتلعها "غول الفساد" في العصر السابق، كما وضَّح ذلك غير واحد من عمال الهيئة في اتصالات في برامج تليفزيونية.

وعلى الطرف الثاني: سوف تجد فريقًا يناقض المعقول والمحسوس... ويلقي بالتبعة كاملة على النظام الحالي مطالبًا إياه بأن يطوِّر البلاد بين عشية وضحاها!

رغم أنهم هم أنفسهم من يتحدثون عن إفلاس مصر وعن أزمة اقتصادية طاحنة، وعن عدم قدرة البلاد على شراء الطعام والوقود بعد شهر أو شهرين! فكيف يوصِّفون حال البلاد بهذه الدرجة ثم يتحدثون عن تطوير مرافق فضلاً أن يتحدثوا عن تطوير من المفترض أن يكون قد تم وبلغ منتهاه؟!

وبيْن هؤلاء وأولئك... يقف فريق يقر بالتركة الثقيلة التي تركها النظام السابق خاصة في مرفق حيوي كـ"السكك الحديدية"؛ لا سيما وأن كوارثها بدأت في عهده كما أسلفنا، ولكن في ذات الوقت يطالب الرئيس والحكومة الحالية باتخاذ تدابير عاجلة تطمئن الشعب وتوقف نزيف الدم.

إن التفكير الدائم في الحلول الجذرية ينتج عنه الشعور بالعجز، ومِن ثَمَّ التسويف... إلى أن يتوفر التمويل اللازم لعملية الإصلاح الشامل.

وإذا استصحبنا ما سبق تقريره من أن الاعتماد على العنصر البشري في إدارة عملية ميكانيكية تقليدية كتسيير القطارات أمر يمكن إتمامه بكفاءة رغم تخلفه عن تكنولوجيا العصر - وأننا نريد أن ننتقل من إدارة فاشلة لنظام عتيق إلى إدارة ناجحة وآمنة لذات النظام إلى أن يتم توفير الخطط طويلة المدى اللازمة للتطوير التكنولوجي...

فإن الأمر يحتاج إلى التطوير على عدة محاور:

الأول: التنمية البشرية للعاملين في هذا القطاع، والذي ينقسم بدوره إلى:

- إحياء الضمير والشعور بالمسؤولية في داخل جميع العاملين.

- تكوين دوائر رقابية صارمة ومتوازية لمراقبة الأداء.

- إصدار لائحة جزاءات صارمة في قضايا الإهمال "وإن لم ينتج عنها كوارث"؛ حيث يؤدي التهاون فيها حال عدم تسببها في كوارث إلى أن يتهاون المخطئ في تكرار الخطأ حتى يقضي الله ما شاء.

الثاني: وضع لوائح جديدة... عملية وصارمة التطبيق، حيث يصل القدر الأكبر من المشكلة في الاضطرار إلى التغاضي عن كثير من قواعد الأمان القياسية؛ مما يتيح للبعض أن يتنصل من إجراءات تدخل في باب الضروريات مما يستوجب إصدار لائحة جديدة عملية تعكس الواقع المطبق تمامًا.

الثالث: إعداد قائمة بالنقاط الأكثر خطورة في خريطة تشغيل السكك الحديدية؛ لتنال قدرًا أكبر من العناية الفنية أو الرقابة المزدوجة أو غيرها من التدابير.

ونحن ندعو جميع الأحزاب الصادقة في خدمة بلادها أن تضع خبرات كوادرها الفنية في هذا الباب تحت تصرف الحكومة الحالية "خدمة لشعب مصر".

إلا أننا في هذا المجال نتحدث عن جانب إعداد العاملين للشعور بروح المسؤولية والتخلص من عادة الإهمال الذي يعتبر أحد أخطر العادات السلبية في الشعب المصري، والتي يمكن أن تطيح بأثر الكثير من العادات الحسنة فيها؛ لا سيما عندما يتزاوج الإهمال مع الفساد المالي والإداري كما استطاع النظام السابق أن يفعل ذلك بدرجة شديدة الفجاجة!

فنقول -مخاطبين جميع فئات المجتمع؛ لا سيما مَن يعملون في أعمال يؤدي الإهمال فيها إلى القتل: كمرفق السكك الحديدية-: إن علينا أن نعني أن "الدين هو القاطرة الأساسية للأخلاق في الشعب المصري"، وأن هذه القاطرة قد أهملت بمثل ما أهملت به قاطرات السكك الحديدية، بل تجاوز الأمر من الإهمال إلى المحاربة الشديدة والإفساد! ومِن ثَمَّ نحتاج إلى أن نضع هذه القاطرة في مكانها الصحيح مرة ثانية.

نريد أن نتذكر وأن نكتب على حوائط العمل وجدران القلوب قوله -تعالى-: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105).

نريد أن نضع نصب أعيننا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله يُحِبُّ إِذا عَمِلَ أحَدُكُم عَمَلاً أنْ يُتْقِنَهُ) (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وأبو يعلى، وحسنه الألباني).

نريد أن يدرك الرئيس والوزير والخفير كلهم بنفس الدرجة قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعَيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه).

وهذه المسؤولية تشمل المسؤولية أمام الناس -وهي التي سوف نتحدث عنها لاحقًا-؛ إلا أنها في المقام الأول مسؤولية أمام الله -تعالى-، فيجب على كل متهاون بعمله لا سيما إذا كان هذا التهاون قد يؤدي إلى سفك الدماء المعصومة أن يُعد للسؤال عند الله جوابًا.

إن العمل "أي عمل" أمانة من الأمانات؛ لا سيما تلك الأعمال الخطرة، ومِن ثَمَّ فينبغي لكل من تحدثه نفسه بشيء من الإخلال بواجبات وظيفته أن يتذكر قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء:58).

إن ولاية الرجل -ولو كان من أتقى الناس- لعمل عام يخشى عليه الضغف في أدائه هو نوع من خيانة الأمانة يؤدي يوم القيامة إلى الحسرة والندامة -والعياذ بالله-، كما ثبت عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) (رواه مسلم).

إن إحياء قاطرة الإيمان من أجل أن تجر قطار الأمانة هو أمر في غاية الأهمية، ولابد بعد ذلك من سد مداخل الشيطان وإعانة الفرد على نفسه، فحينما منع النبي -صلى الله عليه وسلم- عُماله من أن يتقاضوا أي شيء ولو على سبيل الهبة -"لأنها غالبًا ما تكون رشوة مقنعة فمنع منها سدًا للذريعة"- في ذات الوقت جعل لهؤلاء العاملين الحق في اتخاذ الزوجة والخادم والسكن، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلاً فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا، مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ أَوْ سَارِقٌ) (رواه أبو داود والحاكم، وصححه الألباني)؛ كل هذا من أجل منع "الرشوة المقنعة"، وأما الصريحة فجاء فيها اللعن الصريح؛ لزجر المؤمنين عن سلوك سبيلها.

وبعد هذا كله... يأتي دور المتابعة والمراقبة: وهو مبدأ طبقته "دولة الخلفاء الراشدين"، كما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين سأل الناس:

"أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرتُه بالعدل، أكنت قضيتُ ما عليَّ؟

قالوا: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: لا! حتى أنظر في عمله: أعمل بما أمرتُه به أم لا؟".

وكلما تعقدت حياة الناس وتشعبت، وكلما قل الوازع الإيماني... كلما كان الناس في حاجة أكثر إلى المتابعة الدقيقة والمحاسبة الصارمة، وإننا نؤكد من خلال هذا التصور أو من خلال غيره على ضرورة التحرك الفوري في حدود المتاح، مع عدم إغفال الخطط الطويلة الأجل.

نسال الله أن يتقبل ضحايانا في الشهداء، وأن يرزق ذويهم الصبر والسلوان، وأن يشفى جرحانا شفاءً لا يغادر سقمًا، وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم آمين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي