الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدعوة بين "المجتمع الخاص - المجتمع العام - الدولة"

فالإسلام دين شامل كامل، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الدعوة بين "المجتمع الخاص - المجتمع العام - الدولة"
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٢٢ فبراير ٢٠١٣ - ٢٣:٢٢ م
2487
الدعوة بين "المجتمع الخاص - المجتمع العام - الدولة"


كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالإسلام دين شامل كامل، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163).

وقد جاء بتشريعات لإصلاح الفرد في جميع الجوانب، كما جمع الله -عز وجل- ذلك في قوله: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر).

كما جاء لإخراج تلك الأمة الخيرية التي وصفها الله -عز وجل- بقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).

ووجود هذه الأمة إنما يتحقق في وجود أفراد تحقق فيهم صفات الشخصية المسلمة، ويكوِّنون فيما بينهم مجتمعًا مسلمًا صغيرًا يتسع تدريجيًّا لكي يكون مجتمعًا كبيرًا.

ولذلك أمر الله -تعالى- موسى -عليه السلام- أن يجعل بيوت أتباعه قريبة متقابلة؛ لتكون نواة لمجتمع فاضل في ظل ذلك الجو الفرعوني الطاغوتي، فقال -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:87).

ومن هذا المنطلق كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي بقعة النور في ظلام الجاهلية الحالك، وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم تربى الرعيل الأول من الصحابة -رضي الله عنهم-، وبواسطتهم هدى الله من جاء بعدهم حتى اكتمل العدد الكافي لقيام مجتمع مسلم أكثر رحابة إلا أن عدد المعاندين من سكان مكة كان ما زال كبيرًا مما يعني أن أية محاولة لإقامة المجتمع المسلم الكبير لن تأتي إلا بالمواجهة التي تنافي طبيعة الدعوة والتي قال الله -عز وجل- في شأنها: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُو أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل :125).

ومن هنا جاءت الهجرة لتحقيق نقلة نوعية في طبيعة المجتمع المسلم من ذلك المجتمع الخاص إلى المجتمع العام، وتزامنًا مع قيام المجتمع العام في المدنية قامت الدولة، وبين الدولة والمجتمع فروق لغوية ومعنوية.

إن لفظ المجتمع المسلم يشمل في مدلولاته اللغوية معنى الاجتماع والحب والمودة والتواصل والتراحم والأخوة الإيمانية في حين يحمل لفظ الدولة في معناه اللغوي "المباشر" معنى التقلب والتغير، ويحمل في دلالته معنى القوة الزاجرة، ويحمل عند كثير من السياسيين معنى الغدر والمكر ونسبية الأخلاق وتجنب العواطف، والعلاقة بين إقامة المجتمع وإقامة الدولة في الإسلام علاقة بين الغاية والوسيلة.

إن الدولة هي تعبير عن أحد جوانب اكتمال المجتمع بوجود سلطة فيه، والمجتمع المسلم مجتمع محكوم بمبادئ وغايات يجب على الدولة أن تسعى إلى إيجادها، ويمكننا أن نقول: إن الله قد أمر طرفي الدولة "الحاكم والمحكوم" بالتعاون من أجل جعل تلك الدولة محققة لأهداف وغايات المجتمع المسلم، فقال -تعالى- آمرًا الحكام أن يوظفوا أكفأ الناس في أجهزة الدولة مع العناية بالعدالة بصورها المختلفة في قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء:58).

وبعدها أمر الله -تعالى- المحكومين أن يطيعوا الحكام الذين هذا هو حالهم، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).

ومن هنا يتضح تكامل لبنات بناء المجتمع المسلم: "فرد مسلم - مجتمع مسلم صغير - مجتمع مسلم كبير - دولة".

لقد سارت هذه المراحل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بطريقة سلسة ومنطقية قادت كل واحدة منها إلى الأخرى، ثم حدث ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

ومرت الأمة بأطوار من الخير والشر جاء ذكرها في حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَو أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم).

وكانت الأمة تواجِّه فترات الضعف والانكسار بمزيد من التربية الخاصة واللجوء مرة أخرى إلى محاضن صغيرة للتربية.

هذه التجربة قامت عليها دولة الـ"زنكي" التي استطاعت أن تطرد الصليبيين من مصر والشام، وقامت بها مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والتي استطاعت أن تضمد جراح دولة المماليك في مصر والشام لطرد ما تبقى من الصليبيين، ولصد آخر جولات التتار على بلاد المسلمين.

إلا أن التجربة في هذه المرة كانت شديدة الخطر حيث إن المجتمع الكبير كان في ذلك الوقت مجتمعًا إسلاميًّا وليس مجتمعا كافرًا كما كان الحال على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومِن ثَمَّ فكان لابد للبرامج التربوية التي تتبناها تلك الحركات التجديدية الإصلاحية في مجتمعاتها الصغيرة أن تراعي هذا الفارق.

لقد كانت هذه الجزئية في غاية الوضوح لدى شيخ الإسلام ابن تيمية فبالرغم من محاربته لجميع البدع بجميع أصنافها إلا أنه غرس في أتباعه تلك العبارة التي نقشها في قلوبهم وسطرها فيما تركه لنا من تراث أن أهل السنة والجماعة "يعرفون الحق ويرحمون الخلق"، وقد كتب -رحمه الله- رسالة لطيفة بعنوان: "قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة".

ولقد كان سلوكه العملي -رحمه الله- انعكاسًا لهذه الفكرة فقد قاد العامة في حربهم ضد التتار، وذهب إلى قائد التتار ليكلمه في جميع الأسرى سلفيهم وصوفيهم "لم يكن هناك إخوان آنذاك وإلا لطالب بالطبع بفك أسرهم" فدفع إليه ملك التتار جميع أسارى المسلمين دون أسارى أهل الذمة، فما كان منه -رحمه الله- إلا أنه أبى إلا أن يدفع إليه أسارى أهل الذمة "لاحظ أنه لم يكن الحاكم، ولكنها مسئولية المربي الذي يدرك أن تربيته لأتباعه غايتها إصلاح ذلك المجتمع الكبير والقيام بجميع حقوقه لا الاستعلاء عليهم ولا تعييرهم بأنهم فروا بينما ثبت هو وتلامذته".

وبلغ إدراك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لمعنى المجتمع الكبير ومصلحة الأمة وتقديمها على مصلحة "جماعة الدعوة والتربية" أن بعض شيوخ الصوفية والمقلدة قد سعوا إلى السلطان ناصر بن قلاوون للوشاية بابن تيمية، ولكنه كان شديد التعظيم له ولما انقلب بيبرس عليه عاودوا وشايتهم؛ مما أدى إلى سجن شيخ الإسلام ابن تيمية إلا أن ابن قلاوون تمكن من العودة وأراد أن يعاقب هؤلاء العلماء بالقتل على وقوفهم بجوار ببيرس، وظن أن خير من يفتيه بذلك هو شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن شيخ الإسلام خيب ظنه.

فماذا كان رد ابن تيمية... ؟

هل وجدها فرصة للتنفيس عن أحقاده وخصوماته؟

كلا... فنفس الكريم أرفع وأطهر من ذلك، لقد قام ابن تيمية بتعظيم هؤلاء العلماء والقضاة، وأنكر أن يُنال أحد منهم بسوء، وأخذ يمدحهم ويثني عليهم أمام السلطان وشفع لهم بالعفو والصفح عنهم ومنعه من قتلهم، فقال للسلطان: "إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل!".

فيرد عليه السلطان متعجبًا متحيرًا: لكنهم آذوك وأرادوا قتلك مرارًا؟!

فقال ابن تيمية: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي!

وما زال ابن تيمية بالسلطان يقنعه أن يعفو عنهم ويصفح، حتى استجاب له السلطان فأصدر عفوه عنهم وخلى سبيلهم!

إننا لا نروى تاريخ هؤلاء القمم للتندر بحالهم أو حتى للتحسر على حالنا، وإنما ينبغي أن نعي جيدًا تلك الدروس.

إن حركات الإصلاح لا يمكن لها أن تعيش وأن تؤتي ثمارها إلا إذا كانت محاضنها التربوية لا تمثل حاجزًا، ولكن ماذا عن الحركات الإسلامية المعاصرة؟

بلا شك إن الحركات الإسلامية المعاصرة كانت في حاجة إلى التحرك في محاضنها التربوية الخاصة لإعداد كوادرها لمواجهة الكثير من صور التغريب والانحراف إلا أن الملاحظ أنه كلما كانت هذه المحاضن أقرب إلى العمومية ساهمت في وجود روح متصالحة مع المجتمع العام، ومِن ثَمَّ حرصت الدعوة السلفية -بفضل الله- على جعل المسجد هو محضنها التربوي الأصلي دون غيره من الصور التي اعتمدتها حركات أخرى.

وفي المقابل: فإن هناك تيارات اكتسبت حالة عدائية شديدة تجاه المجتمع وانزوت في مجتمعات صغيرة سرعان ما اعتبرتها أنها هي جماعة المسلمين كما حدث في جماعة التكفير والهجرة.

وثمة جماعات أخرى لم تصرح بكفر المجتمع وإنما نظرت إليه نظرة دونية وطبقت مفهوم استعلاء الإيمان الذي دعا إليه بعض المفكرين إلى استعلائهم هم على العصاة "أو إن شئت قل على من سواهم"؛ مما أورث هؤلاء سلوكًا تكفيريًّا وإن كانوا يتفاوتون في طريقة تنظيرهم لهذا السلوك.

وثمة اتجاهات أخرى تعاملت مع المجتمع الكبير، ولكن لم تتعامل معه من نفس الباب الذي تعامل منه شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً، وإنما أوتوا من قِبَل استغراقهم في مفهوم أن الإسلام دين ودولة أكثر من استغراقهم في صورة المجتمع المسلم الكبير، ومِن ثَمَّ تجد أن هؤلاء تتركز أنظارهم في دائرتين: "دائرة المجتمع الصغير، ودائرة الدولة" بينما لا يمثل المجتمع الكبير في عرفهم إلا طريقًا واصلاً بين الدائرتين.

وأما النظرة الصحيحة فهي أن تعتبر أن دائرة المجتمع الكبير هي دائرة كبيرة تضم في داخلها عددًا من الدوائر الصغيرة تمثل الرؤى والاتجاهات والمحاضن التربوية الصغيرة، وأن الدولة ما هي إلا قبعة على رأس هذا المجتمع.

إن الفرق بين الطرحين كبير ولعله إذا اتفق الجميع على تلك النظرة أن المجتمع الكبير يضم تحته كل المجتمعات الصغيرة وتعلوه دولة عادلة هي الأخرى راعية لكل من هو داخل الدائرة الكبرى بغض النظر عن الدائرة الصغرى التي خرج منها أفراد تلك الدولة، فهل نطمع أن يسعى الجميع إلى الانتقال ولو تدريجيًّا إلى هذا النموذج؟

www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي