الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تطهير القضاء... غاية نبيلة ووسيلة عشوائية

وبعد الإقرار بأن التطهير مطلبًا شعبيًّا وثوريًّا كما أقررنا أن تمكين الشباب مطلبًا مشروعًا

تطهير القضاء... غاية نبيلة ووسيلة عشوائية
عبد المنعم الشحات
الاثنين ٢٩ أبريل ٢٠١٣ - ٠٧:١٩ ص
3058
19-جماد ثاني-1434هـ   29-إبريل-2013      

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قدَّم حزب الوسط مشروعًا مختصرًا لتعديل قانون السلطة القضائية كان أبرز ما فيه:

1- خفض سن التقاعد من 70 سنة إلى 60 سنة.

2- رفع أجور باقي القضاة مساواة لهم بقضاة المحكمة الدستورية.

وإذا كنت تقرأ هذا الكلام لأول مرة فلا أظنك سوف تجد رائحة التطهير لا في منطوق هذا الكلام ولا في مفهومه؛ إلا أنك بالتأكيد تعرف أنه تَزامن مع هذا المقترح خروج مظاهرات دعتْ إليها بعض القوى الإسلامية تأييدًا للقانون تحت عنوان: "تطهير القضاء"، وقبل أن تفيق من دهشتك سوف تجد تلك المظاهرات تطالِب بإقالة المستشار "أحمد مكي" -وزير العدل- الذي اُتهِم بتأخونه من كثرة ما دافع عن الإخوان!

والمشكلة أنه يعارض هذا القانون بما يعني عند الداعين لتلك المظاهرات أنه ضد تطهير القضاء!

وعلى صعيد آخر: تسمع بعض هؤلاء المتظاهرين يقرر أن القانون يجب أن يكون قاعدة مجردة وأن خفض السن لا يمكن أن يكون بغرض التطهير، ولكن له أسبابه، مثل: تحقيق العدالة بين المؤسسات وتمكين الشباب، ولكنك تستغرب أن عين ذلك القائل مشترك في المظاهرة تحت عنوان: "تطهير القضاء!".

إن كل المبررات التي تساق لموضوع خفض سن تقاعد القضاة تبدو موضوعية ومنطقية؛ اللهم إلا "تطهير القضاء"، فالعلاقة بينهما تبدو منعدمة، بل عكسية كما سنبين -إن شاء الله-؛ مما يجعل هذا الزوج من العبارات مرشحًا أن تدخله عالم: "قل ولا تقل"، فتقول: قل "خفض سن التقاعد"، ولا تقل: "تطهير القضاء"!

وإذا كانت المبررات الأخرى تبدو منطقية ومطلوبة إلا أنها في ذات الوقت ينتفي عنها تمامًا صفة العجلة والسرعة سواء على مستوى أحوال البلاد السياسية وما هي مقدمة عليه من استحقاقات انتخابية أو على مستوى تكدس القضايا أو حتى على مستوى البعد الإنساني للقاضي المراد إحالته للتقاعد طالما أن الأمر مجرد تمكين للشباب ومساواة بين المؤسسات، وكأني بمن انتحل تلك الأسباب سوف يهتف بك: إذن أنت ضد تطهير القضاء، يعني لنترك تلك الأسباب ونركز على دعوى تطهير القضاء.

ويتلخص الموقف في الآتي:

أولاً: تطهير القضاء مطلب ثوري وشعبي.

ثانيًا: خفض سن التقاعد وسيلة ناجعة وفورية لهذا المطلب.

وبعد الإقرار بأن التطهير مطلبًا شعبيًّا وثوريًّا كما أقررنا أن تمكين الشباب مطلبًا مشروعًا -وإن كان غير عاجل-؛ فيبقى أن نناقش مقصودهم بتطهير القضاء، ونناقش مدى تحقيق وسيلة خفض سن المعاش لهذا المطلب.

أولاً: ماذا نعني بتطهير القضاء؟

إن سألت المحتجين: ماذا تريدون من القضاء؟ فستجد ستجد إجابات مختلفة...

- البعض يقول: "نريد تطبيق شرع الله": وأظن أن هذا المطلب يجب أن يذهب إلى البرلمان الذي اكتفى باتفاقيات الربا ورفع الضرائب، ورفض عرض القوانين على هيئة كبار العلماء؛ لأن الأمة هي مصدر السلطات!

- البعض يقول: "نحتج على الإفراج عن مبارك": رغم أنهم يعرفون أن هذا مقتضى القانون، وأننا تحملنا معهم نتائج كارثية للإعلان الدستوري من أجل عزل النائب العام والإتيان بآخر "اتضح فيما بعد أن الإخوان يرون أنه لا يصلح لهذه المهمة إلا المستشار طلعت عبد الله وحده!"، ومع هذا اهتم المستشار "طلعت عبد الله" بكل القضايا إلا قضايا "مبارك"!

- وقالوا: "نحتج على القضاة الذين برأوا إلهام شاهين وعاقبوا الشيخ عبد الله بدر": مع أن الرئيس فعل هذا قبل القضاء فاستضاف الفنانين لمصالحتهم متبرأ من هؤلاء الشيوخ الذين لا يسيئون إلا لأنفسهم على حد وصف الرئيس!

- وقالوا: "نريد عزل وزير العدل": وهذه لا يمكن أن يُقال فيها إلا "جزاء سنمار"، ومع هذا فهذا القرار يملكه الرئيس فلمَ يتظاهر أتباعه؟! وماذا عن القول المأثور: "نحتج على ضعف أداء الحكومة، ولكن لا وقت لتغيير الوزارة"؟!

- وقالوا: "نحتج على الإفراج عمن يعتدون على مقرات الإخوان بينما يسجن غيرهم":  مع أن هذه مشكلة الداخلية ولم يتعرض أحد لوزيرها، ومشكلة النيابة التي يرأسها النائب العام!

- وقالوا: "نريد محاكمات ثورية": مع أن هذه يملك تشكيلها الرئيس والبرلمان وليس القضاة.

- وقالوا: "نريد تطهير القضاء من القضاة الفاسدين المرتشين أو الموالين للنظام السابق": وهذا كلام منطقي، ولكن يبقى أنه يفتقر إلى مبررات التوقيت؛ لأن كل المبررات الآنية السابقة اتضح أنها وهمية! ولكن إذا غضضنا الطرف عن ذلك كله، وسألنا عن مدى الارتباط بين هذا الهدف والوسيلة المقترحة -"خفض سن التقاعد"-؛ فهل نفهم من ذلك الآتي:

- القضاة فوق الـ60 لم يحكموا بالشريعة، وبعد إقالتهم سوف يحكم الآخرون بالشريعة مباشرة ودون الرجوع إلى البرلمان.

- الذين دون الـ60 سوف يجمعون بأنفسهم أدلة إدانة "مبارك" بدلاً من النائب العام أو سيقضون على "مبارك" بلا أدلة.

- أو سيعلنون محاكم ثورية بلا سند من القانون.

- وأهم من ذلك كله: أن الفساد منحصر في هؤلاء العواجيز بينما من دونهم شرفاء لا يشق لهم غبار؛ رغم أنه روج للقاعدة العكسية في حادثة اقتحام مكتب النائب العام!

لقد عرفت البشرية التطهير المذهبي والعرقي وغيرها من صور التطهير، ولكنها لم تعرف "التطهير العمري".

ولمزيد من الإيضاح نقول: إذا أردت أن تطهر مؤسسة ما فيها فاسدون وصالحون، فهناك عدة احتمالات:

الأول: أن تتخذ إجراءً لا يستهدف إلا الفاسدين.

الثاني: أن تتخذ إجراءً يستهدف كل الفاسدين ويأخذ في طريقه بعض الشرفاء.

الثالث: أن تتخذ إجراءً يستهدف بعض الفاسدين والكثير من الشرفاء دون أن يمس معظم الفاسدين.

الرابع: أن تجمع بين الثالث وبين ادعاء أنه إجراءٌ طبيعي له دوافع أخرى لا علاقة مطلقًا بينها وبين التطهير.

الخامس: أن تضيف إلى الرابع عدم إدراكك لما يمكن أن يرد به المضارون -الشرفاء منهم والفاسدون-، ولكل طريقته.

الأول: سمة الحكم الرشيد.

الثاني: سمة الحكم العسكري.

الثالث فما دونه: خارج التصنيف.

وأسوأهم الخامس: الذي يمثل مشهد قانون السلطة القضائية المعروض حاليًّا.

فإذا اتضح ذلك فهل يضرنا بعد ذلك توافقنا في الرأي مع بعض الفاسدين أو حتى ثناؤهم علينا وهما تهمتان توجهان إلينا في مثل هذا الموقف مع أن معظم من يوجِّه تلك التهمة لو قاسها على نفسه لوجد أن هذا الثناء في معظم الأحوال من نصيبه -في الأمور المنهجية على الأقل-!

وإليك مناقشة كل من هاتين التهمتين:

أولاً: تهمة تأييد الفاسدين:

وسوف نناقشها من خلال هذا المثال: هب أن رجلاً مسلمًا صالحًا استعمل على أمر حافلة ركاب فكان قائدًا لها وفيها الصالح والطالح، ثم وجد فيه بعض الحشرات والهوام فأتى بصاعق لها، ولكن لخلل ما أتى بصاعق سبَّب أو كاد أن يسبب في حريق للحافلة بأسرها فقام بعض الفاسدين صائحًا محذرًا من هذا الخطر، وقام بعض الصالحين صائحًا محذرًا من ذات الخطر، فقام البعض الآخر تاركًا الخطر وتاركًا كل شيء ليقول: ما لهؤلاء الذين كانوا يدعون الصلاح يؤيدون أهل الفساد! فماذا لو أن الجميع سلك هذا المسلك؟!

ستنحصر المواجهة بين القائد الصالح وبين أهل الفساد حول هذا الإجراء الفاسد؛ فإن انتصر القائد فهذا يعني احتراق الحافلة، وإن انتصر أهل الفساد قالوا للناس منعنا عنكم كوارث كان سيسببها لكم أهل الصلاح.

إذن فالحل هو أن تصر على معارضة أي خلل تراه "وإن عارضه معك أفسد الناس"، فإذا ما قال قائل: "هذا إذا صح ادعاؤك بأن هذا التصرف يؤدي إلى ذلك الخطر"، فأقول: أحسنت، فلتكن المناقشة دائمًا منصبة على الموقف بغض النظر عن مؤيديه أو معارضيه.

ثانيًا: تهمة ثناء الفاسدين علينا:

وأقتبس هنا جزءًا من مقال لي كتبته في عام 2007م تحت عنوان: "تكريم عمرو خالد بين الخبث الأوروبي والصلف الأميركي" جاء فيه:

ماذا تفعل لو أثنى الكفار عليك، وقدموك كنموذج يجب أن يحتذي به الغير في قول أو فعل؟

هل ستبادر إلى تغيير ما مدحك الكفار من أجله من باب: أنهم لن يرضوا عن خصلة من خصالك إلا إن كانت نافعة لهم مضرة لأمتك؟ أم هل تزداد تشبثًا بها من باب: أن الحق ما شهدت به الأعداء؟!

وإذا اخترت المسلك الأول؛ فماذا تفعل لو تتبع الأعداء كل خصال الخير عندك فأثنوا عليك بها وزعموا أنها نافعة لهم؟!

وإذا أخذت بالثاني؛ فماذا تفعل لو أثنى عليك الأعداء بكل خصلة يريدونها أن تنتشر في بلاد المسلمين من حبهم والثناء عليهم والتبعية لهم إلى غير ذلك؟

إذن فما هو السلوك الصحيح تجاه ثناء الأعداء علينا كأفراد وكجماعات؟

إن السلوك الصحيح في هذا هو ألا نسمح للأعداء بأن يشكلوا منهجنا سواء في طريقة التعامل معهم أو مع غيرها من القضايا، وإنما نرجع إلى كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونضبط به حياتنا، فإن لم يرقهم ذلك -وهذا هو الأصل- قلنا لهم: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ(آل عمران:119).

وإن انبهروا بشيء من أخلاقنا أو منهجنا فأثنوا عليه، قلنا لهم: "هذا من فضل الله علينا".

وإن وفينا معهم بعهد أو ميثاق أو غير ذلك مما ينتفعون هم به من الأحكام الشرعية، قلنا لهم قول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- لما أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرص تمر خيبر فأعطوه حفنة من تمر فقال: "يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ أَتُطْعِمُونِي السُّحْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلأَنْتُمْ أَبْغَضُ إَلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ" (رواه أحمد وأبو داود وابن حبان، وصححه الألباني).

ومن هنا نرى أن مدح اليهود لم يكن هدفًا لعبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-، ولا فرح به على الرغم من أن الأمر الذي ينتزع مثل هذا الاعتراف من قوم بهت كاليهود لابد وأن له شأنًا.

ولذلك فليس مأخذنا على الأستاذ "عمرو خالد" هو مجرد ثناء الغرب عليه، واختيار مجلة "تايمز" الأمريكية له ضمن أكثر مائة شخصية تأثيرًا في العام، ولكن المأخذ الرئيسي عليه هو أن ثناء الغرب عليه كان مُسببًا ومعللاً في أنه لا يتكلم في السياسة، ولا يَعْنُون بها الأحوال الداخلية في بلاد المسلمين، بل يتعدون ذلك إلى أنه لا يتكلم عن فلسطين ولا العراق، وأنه ينشر روح التسامح مع الغرب، ولذلك يجب على الغرب أن يسانده هو وكل من كان معتدلاً كاعتداله.

ولم نسمع للأستاذ "عمرو خالد" نفيًّا ولا تكذيبًا للمبررات التي بسببها اختير ضمن أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم.

أنا السلفي

www.anasalafy.com