السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

المادة الثانية والمادة (219)

فتبيَّن مِن هذا أن قصر الأمر على مذاهب أهل السنة والجماعة فيه "حماية مصر من أخطار تهدد الأمن القومي"

المادة الثانية والمادة (219)
عبد المنعم الشحات
السبت ٠٧ سبتمبر ٢٠١٣ - ٢٢:٠٥ م
5411
3-ذو القعدة-1434هـ   7-سبتمبر-2013     

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما هو موقفك من المادة الثانية من الدستور المصري؟ وما هو موقفك من المادة (219) المفسِّرة لها؟

هذا هو سؤال الساعة، والناس في إجابته مذاهب: فمنهم مَن يعترض على المادة الثانية، ومِن ثَمَّ يعترض على المادة المفسِّرة لها من باب أولى! وقد كفانا الله أمر هؤلاء، فسكت حسهم أو كاد؛ رغم أنهم كانوا الأكثر جلبة في "11 فبراير 2011م"، ولكن حِرص الشعب المصري على هويته قد أثبتَ لهم "أن الإقرار بهذه الهوية جواز مرور للعمل السياسي في مصر"؛ إذن فقد انحسر الخلاف بيْن مَن يقول إن المادة الثانية كافية، ومَن يتمسك ببقاء المادة المفسرة.

وفي الواقع: فإن الأمر يقتضي الرجوع خطوة إلى الخلف ليكون السؤال الأصلي: هل تعتقد فعلاً أن الإسلام دين شامل كامل مصداقًا لقوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(الأنعام:162)؟! أم أنك ممن يتوهمون أن الإسلام مثل بعض الأديان الأخرى التي لا تعدو أن تكون علاقة بين العبد وربه؟!

وهل تعتقد فعلاً بوجوب تحكيم الشريعة مصداقًا لقوله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(النساء:65)؟! أم أنك ممن يتوهم عدم لزوم تحكيم الشريعة؟

وعلى الرغم من مصادمة ما ألمحنا إليه من أفكار لنصوص القرآن والسنة؛ إلا أن مَن ينادي بها فسيكون بيننا وبينه الدعوة والبيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وأما مَن يوافقنا في أن الإسلام جاء بتشريعات في جميع مناحي الحياة، وأن هذه التشريعات واجبة التطبيق؛ فما بقي أن نجيب على السؤال الذي يطرحه بعضهم، وهو: مدى لزوم التعبير عن ذلك في الدستور؟

وفي الواقع: فإن الدستور المصري منذ "1923م" وهو ينتمي إلى الدساتير المتوسطة الطول، حيث دارت عدد مواده حول المائتين، مما يعني أنه ليس بالشديد الاختصار، كما أنه ليس بالمسهب الذي يكاد يكون قانونًا تفصيليًّا.

وهذا ما أعطى فرصة للدستور أن يتضمن مقومات الدولة والمجتمع في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى الحريات وإلى تحديد شكل السلطات الثلاث والعلاقة بينها.

وهذا يجعل مادة الشريعة جديرة بأن توضع دون أن يُعترض عليها بخوف الإطالة، بل لو اعتمد الدستور المصري على الأسلوب شديد الاختصار لوجب وضع هذه المادة.

وهذه المادة أهم في دساتير البلاد الإسلامية من المادة التي تتحدث عن أن الشعب هو مصدر السلطات، وهي أهم مادة في أي دستور ديمقراطي، حيث تكشف هذه المادة عن السلطة المنشئة للدستور، وهي السلطة التي ترسم مسارات السلطات الثلاث وتوضح اختصاصاتها.

وإذا كانت النظم الديمقراطية في البلاد غير الإسلامية والتي تدين بأديان وصفها أصحابها بأنها تمثِّل علاقة خاصة بين العبد وربه قد ارتضت سلطة تأسيسية هي سلطة الشعب؛ فإن النظم الديمقراطية المنضبطة بالإسلام لابد أن تقرر سيادة أعلى، وهي سيادة الله على البشر، وسلطة أعلى هي سلطة الشريعة، ثم تأتي بعد ذلك سلطة الشعب فيما لا يوجد فيه حكم شرعي.

وإذا كان لا يتصور وجود دستور ديمقراطي لا ينص على أن الشعب هو مصدر السلطات؛ فكذلك لا يوجد دستور موافق للشريعة لا ينص على مرجعيتها.

نعم، كان يمكن أن يكتفى بنص دستور "1923م" بأن "الإسلام دين الدولة" لو أنه ترك المجال لهذه المادة أن تفسَّر التفسير الشرعي والقانوني اللائق بها.

فإذا كانت الدولة لا تصلي ولا تصوم؛ فإن النص على أن لها دينًا ليس له معنى إلا أن سياساتها وقوانينها تنبع من هذا الدين، ولكن السماح بمخالفة هذا التفسير لتلك المادة الدستورية في القانون المدني المصري وما تلاه من قوانين أوجد الحاجة إلى النص عن الشريعة، فكان نص دستور "71"، والذي أضاف فقرة: "ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع"، ثم كان الاحتيال على هذا المعنى بأن كون الشريعة الإسلامية مصدرًا أساسيًّا لا يمنع من وجود مصادر فرعية، فقام مجلس الشعب في "1980م" بإدخال "ال" على كلمة: (مصدر)، لتصبح (المصدر).

ونصت "مضابط الجلسات" على أنهم ما أرادوا من هذا التعديل إلا التطبيق الشامل للشريعة، ومع هذا الوضوح التام في المضابط، ومع إطلاق مجلس الشعب لمشروع تقنين الشريعة تزامنًا مع هذا التعديل الدستوري؛ إلا أن القضاء -سواء أكانت محكمة النقض أم المحكمة الدستورية العليا- كان مضطربًا في تحديد مدلول هذه المادة رغم أن كلامه كان يمكن قبوله؛ لولا التفسيرات التي خرجتْ من بعض الرموز السياسية، ومنهم بعض رجال القضاء؛ مما يؤكد أن كلمة "مبادئ" هذه تفتح باب تأويل وتهرب وتنصل، ومِن ثَمَّ بدأنا بأسئلة حول مرجعية الشريعة، وعامة القوى السياسية الآن يقولون أنهم يقرون بها، فإذا كانوا يقرون بها وثمة صياغة أثارت الكثير من اللغط؛ فلماذا التمسك بالصياغة المبهمة طالما أن المعنى متفق عليه؟!

ولمزيدٍ من الإيضاح سوف نستعرض رأي المحاكم المصرية بِشأن هذه المادة:

أولاً: رأي محكمة النقض:

جاء في "الطعن رقم 5124 - لسنة 52 ق - تاريخ الجلسة 14-4-1983م": "لما كان ما نص عليه الدستور في المادة الثانية منه أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ليس واجب الإعمال بذاته وإنما هو دعوة للشارع كي يتخذ الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًّا فيما يستنه من قوانين، ومِن ثَمَّ فإن أحكام تلك الشريعة لا تكون واجبة التطبيق بالتعويل على نص الدستور المشار إليه إلا إذا إستجاب الشارع لدعوته، وأفرغ هذه الأحكام في نصوص تشريعية محددة ومنضبطة تنقلها إلى مجال العمل والتنفيذ، وبالتالي فإنه لا مجال للحكم بأحكام الشريعة الإسلامية ما دام أن السلطة التشريعية لم تفرغ مبادءها في تشريع وضعي".

ومن الواضح أن محكمة النقض في هذا الحكم لا ترى فرقًا بيْن "الشريعة - مبادئ الشريعة - أحكام الشريعة"، ولو استقر القضاء المصري على هذا لما احتاجت المادة أي تعديل.

ثانيًا: رأي المحكمة الإدارية العليا:

جاء في حكم "المحكمة الإدارية العليا" دائرة توحيد المبادئ بالجلسة المنعقدة علنًا في يوم السبت الموافق "9-6-2007م" والخاصة بتوحيد المبدأ في قضية منع المنقبات من دخول المدارس والجامعات: "ومن حيث إن المستفاد من الشريعة الإسلامية -التي هي المصدر الرئيسي للتشريع حسب نص المادة الثانية من الدستور- أن زي المرأة المسلمة يجب ألا يكون وصَّافـًا يفصِّل أجزاء الجسم ولا شفافـًا أو لافتًا للنظر، وأن يكون ساترًا للجسم كله ما عدا الوجه والكفين، أخذًا بقول الله -تعالى- في سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ... ) (الأحزاب:59).

أما نقاب المرأة التي تغطي به وجهها، وقفازها التي تغطي به كفيها فجمهور الفقهاء على أن ذلك ليس واجبًا، وأنه يجوز لها أن تكشف وجهها وكفيها؛ أخـذًا من قوله -تعالى-: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا... (النور:31)، حيث فسَّر جمهور الفقهاء من السلف والمعاصرين ما يظهر من الزينة بالوجه والكفين؛ لأن الغالب هو ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فلزم أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما، ولو كانت المرأة مفروضًا عليها شرعًا إخفاء وجهها بنقاب، وكفيها بقفاز ما كان هناك حاجة لأن يأمر الله -تعالى- المؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم في قوله -تعالى-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ(النور:30)؛ إذ ليس ثمة ما يبصر حتى يغض عنه.

ومن حيث إنه متى كان ما تقدم، وإذ لم يقم دليل صريح من القرآن والسنة بوجوب إخفاء الوجه والكفين؛ ومِن ثَمَّ فإن ارتداء النقاب ليس محظورًا ولا منهيًّا عنه؛ فهو من المباحات، ولا يجوز إخراجه من أصل الإباحة إلى الحظر المطلق والمنع التام؛ وعليه فإن ستر الوجه والكفين للمرأة المسلمة ليس فرضًا، وإنما يدخل في دائرة المباح! فإن سترت وجهها وكفيها فهو جائز، وإن كشفتهما لاختلاف الأحوال واحتياجها للخروج لبعض شئونها أو للعمل خارج بيتها والتعامل مع جميع الجهات فقد أتت بما رخص لها به في حدود الحاجة والضرورة، وبرأت ذمتها... ".

ومن الواضح أن محكمة القضاء الإداري هنا لا ترى فرقـًا بين المبادئ والأحكام، وأنها رأت أن نقل الجهة الإدارية "النقاب" من رتبة "المباح" -كما تراه!- إلى رتبة "الحظر" غير جائز.

ثالثـًا: المحكمة الدستورية العليا:

الحكم الأول:

تعرضت المحكمة الدستورية العليا للمادة الثانية بعد التعديل في حكمها الخاص بمدى دستورية الفوائد الربوية، والذي حكمت فيه بالجلسة العلنية المنعقدة يوم 4 مايو سنة "1985م"، وجاء فيه: "وحيث إنه يبين من صيغة العبارة الأخيرة من المادة الثانية من الدستور -بعد تعديلها على نحو ما سلف- أن المشرع الدستوري أتى بقيد على السلطة المختصة بالتشريع قوامه إلزام هذه السلطة -وهي بصدد وضع التشريعات- بالالتجاء إلى مبادئ الشريعة لاستمداد الأحكام المنظمة للمجتمع، وهو ما أشارت إليه اللجنة الخاصة بالإعداد لتعديل الدستور في تقريرها إلى مجلس الشعب، والذي أقره المجلس بجلسة "19 يولية سنة 1979م" وأكدته اللجنة التي أعدت مشروع التعديل وقدمته إلى المجلس.

فناقشه ووافق عليه بجلسة "30 إبريل سنة 1980م" إذ جاء في تقريرها عن مقاصد تعديل الدستور بالنسبة للعبارة الأخيرة من المادة الثانية بأنها: "تلزم المشرع بالالتجاء إلى أحكام الشريعة الإسلامية؛ للبحث عن بغيته فيها، مع إلزامه بعدم الالتجاء إلى غيرها، فإذا لم يجد في الشريعة الإسلامية حكمًا صريحًا فإن وسائل استنباط الأحكام من المصادر الاجتهادية في الشريعة الإسلامية تمكِّن المشرع من التوصل إلى الأحكام اللازمة، والتي لا تخالف الأصول والمبادئ العامة للشريعة".

ولما كان مفاد ما تقدم أن سلطة التشريع اعتبارًا من تاريخ العمل بتعديل العبارة الأخيرة من المادة الثانية من الدستور في "22 مايو سنة 1980م" أصبحت مقيدة "فيما تسنه من تشريعات مستحدثة أو معدلة لتشريعات سابقة على هذا التاريخ" بمراعاة أن تكون هذه التشريعات متفقة مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وبحيث لا تخرج -في الوقت ذاته- عن الضوابط والقيود التي تفرضها النصوص الدستورية الأخرى على سلطة التشريع في صدد الممارسة التشريعية، فهي التي يتحدد بها -مع ذلك القيد المستحدث- النطاق الذي تباشر من خلاله المحكمة الدستورية العليا رقابتها القضائية على دستورية التشريعات.

لما كان ذلك، وكان إلزام المشرع باتخاذ مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع -على ما سلف بيانه- لا ينصرف سوى إلى التشريعات التي تصدر بعد التاريخ الذي فرض فيه الإلزام بحيث إذا انطوى أي منها على ما يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية يكون قد وقع في حومة المخالفة الدستورية، أما التشريعات السابقة على ذلك التاريخ فلا يتأتى إنفاذ حكم الإلزام المشار إليه بالنسبة لها؛ لصدورها فعلاً من قبله، أي في وقت لم يكن القيد المتضمن هذا الإلزام قائمًا واجب الإعمال، ومِن ثَمَّ فإن هذه التشريعات تكون بمنأى عن إعمال هذا القيد، وهو مناط الرقابة الدستورية.

ويؤيد هذا النظر ما أوردته اللجنة العامة في مجلس الشعب بتقريرها المقدم بجلسة "15 سبتمبر سنة 1981م"، والذي وافق عليه المجلس من إنه "كان دستور سنة 1971م أول دستور في تاريخنا الحديث ينص صراحة على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، ثم عدِّل الدستور عام 1980م لتكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا يعني عدم جواز إصدار أي تشريع في المستقبل يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، كما يعني ضرورة إعادة النظر في القوانين القائمة قبل العمل بدستور سنة 1971م، وتعديلها بما يجعلها متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية".

واستطرد تقرير اللجنة إلى أن: "الانتقال من النظام القانوني القائم حاليًا في مصر والذي يرجع إلى أكثر من مائة سنة إلى النظام الإسلامي المتكامل يقتضي الأناة والتدقيق العملي، ومِن هنا فإن تقنين المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تكن مألوفة أو معروفة، وكذلك ما جدَّ في عالمنا المعاصر وما يقتضيه الوجود في المجتمع الدولي من صلات وعلاقات ومعاملات، كل ذلك يستأهل الروية ويتطلب جهودًا، ومِن ثَمَّ فإن تغيير النظام القانوني جميعه ينبغي أن يتاح لواضعيه والقائمين عليه الفترة الزمنية المناسبة حتى تجمع هذه القوانين متكاملة في إطار القرآن والسنة، وأحكام المجتهدين من الأئمة والعلماء".

ومن الواضح اتجاه المحكمة الدستورية في هذا الحكم إلى عدم التفريق بين المبادئ والأحكام، وإن قضتْ بدستورية الفوائد الربوية بناءً على قرائن أفادت أن هذه المادة خطاب للمشرع وليست مادة نافذة بذاتها، بحيث تبطل جميع التشريعات المخالفة لها تلقائيًّا، بل رأت أنها تبقى نافذة إلى أن يسقطها المشرع بنفسه.

الحكم الثاني:

تعرضت المحكمة الدستورية العليا للمادة الثانية في أثناء نظرها لمدى دستورية حظر النقاب في المدارس، وقضت فيه بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت "18 مايو 1996م"، وجاء فيها: "وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا مطرد على أن ما نص عليه الدستور في مادته الثانية -بعد تعديلها في سنة 1980م- من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يتمحض عن قيد يجب على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تتحراه وتنزل عليه في تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل -ومن بينها أحكام القرار رقم 113 لسنة 1994م، المفسر بالقرار رقم 208 لسنة 1994م المطعون عليهما- فلا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعًا؛ لأنها تمثِّل من الشريعة الإسلامية مبادءها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً.

ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعًا لتغير الزمان والمكان؛ إذ هي عصية على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها.

وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها على مراقبة التقيد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها، ذلك أن المادة الثانية من الدستور تقدم على هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية؛ إذ هي إطارها العام، وركائزها الأصيلة التي تفرض متطلباتها دومًا بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها، وإلا اعتبر ذلك تشهيًا وإنكارًا لما علم من الدين بالضرورة، ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معًا؛ ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها، وهي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها تنظيمًا لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعًا، ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة على أن يكون الاجتهاد دومًا واقعًا في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزمًا ضوابطها الثابتة، متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على: "الدين - والنفس - والعقل - والعرض - والمال".

وحيث إن إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه تطويرًا لقواعد عملية تكون في مضمونها أرفق بالعباد وأحفل بشئونهم وأكفل لمصالحهم الحقيقية التي تشرع الأحكام لتحقيقها وبما يلائمها، مرده أن شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض، وانغلاقها على نفسها ليس مقبولاً ولا مطلوبًا، ذلك أنها لا تمنح أقوال أحد من الفقهاء في شأن من شئونها قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها.

فالآراء الاجتهادية في المسائل المختلف عليها ليس لها في ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعًا ثابتًا متقررًا لا يجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهيًا عن التأمل والتبصر في دين الله -تعالى-، وإنكارًا لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد، بل إن من الصحابة من تردد في الفتيا تهيبًا؛ ومِن ثَمَّ صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سندًا أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفًا لآراء استقر عليها العمل زمنًا، وتلك هي الشريعة الإسلامية في أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة، نابذة الجمود، لا يتقيد الاجتهاد فيها -وفيما لا نص عليه- بغير ضوابطها الكلية، وبما لا يعطل مقاصدها التي ينافيها أن يتقيد ولي الأمر في شأن الأحكام الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور لآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعًا قد جاوزتها.

وحيث إن من المقرر -على ضوء ما تقدم- أن لولي الأمر أن يشرع بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، مستلهمًا في ذلك أن المصالح المعتبرة هي تلك التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة، متلاقية معها، وهي بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتحدد -مضمونًا ونطاقًا- على ضوء أوضاعها المتغيرة؛ يؤيد ذلك أن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين كثيرًا ما قرروا أحكامًا متوخين بها مطلق مصالح العباد طلبًا لنفعهم أو دفعًا لضرر عنهم أو رفعًَا لحرجهم باعتبار أن مصالحهم هذه تتطور على ضوء أوضاع مجتمعاتهم، وليس ثمة دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها.

وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخومًا لها لا يجوز اقتحام آفاقها أو تخطيها سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها، ذلك أن إهدار الحقوق التي كفلها الدستور أو تهميشها عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها، ولا يجوز بالتالي أن يكون تنظيم هذه الحقوق مناقضًا لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفًا ومبررًا".

ومن الواضح في هذا الحكم أن المحكمة أذعنت لما وصفته بقطعي الثبوت قطعي الدلالة، بينما اضطربت غاية الاضطراب في غيرها مما قد يحمل على الالتزام بقواعد الشرع في الاجتهاد فيها، أو قد يحمل على التحلل التام طالما لم يكن قطعي الثبوت والدلالة.

الحكم الثالث:

كما تعرضت المحكمة الدستورية العليا لهذه المادة أثناء نظر دستورية "قانون الخلع" في الجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت "18 مايو 1996م"، وجاء فيه: "إن المادة الثانية من الدستور -بعد تعديليها في سنة 1980م- إذ نصت على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، فإن مقتضى ذلك لا يجوز لنص تشريعي يصدر في ظلها أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها التي يمتنع الاجتهاد فيها؛ لأنها تمثِّل من الشريعة الإسلامية ثوابتها التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، وليست كذلك الأحكام الظنية في ثبوتها أو في دلالتها معًا؛ فهذه تتسع دائرة الاجتهاد فيها تنظيمًا لشئون العباد، وضمانًا لمصالحهم التي تتغير وتتعدد مع تطور الحياة وتغير المكان والزمان.

وهو اجتهاد وإن كان جائزًا ومندوبًا من أهل الفقه؛ فهو في ذلك أوجد وأولى لولي الأمر، ويبذل جهده في استنباط الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي، ويعمل حكم العقل فيما لا نص فيه توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بعباده، وتسعها الشريعة الإسلامية التي لا تضفي قدسية على آراء أحدٍ الفقهاء في شأن من شئونها، ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدال غيرها بها بمراعاة المصلحة الحقيقية للجماعة التي لا تنقض المقاصد العليا للشريعة.

ويكون اجتهاد ولي الأمر بالنظر في كل مسألة بخصوصها بما يناسبها إخمادًا للسائرة وإنهاءً للتنازع والتناحر، وإبطالاً للخصومة، مستعينًا في ذلك كله بأهل الفقه والرأي، وهو في ذلك لا يتقيد بالضرورة بآراء الآخرين؛ بل يجوز أن يشرع على خلافها، وأن ينظم شئون العباد في بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان حق عليه عند الخيار بين أمرين مراعاة أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فلا يضيق على الناس أو يرهقهم من أمرهم عسرًا؛ وإلا كان مصادمًا لقوله -تعالى-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ(المائدة:6).

ومن الواضح أن تفسير المحكمة الدستورية العليا للمادة الثانية كان أجود ما يكون في عام "1985م"؛ حيث فسَّر المبادئ بالأحكام، ثم في عام "1996م" جاء التأكيد التام على التفريق بين قطعي الثبوت والدلالة وغيره، وإن اشترط في ذلك الغير أن يكون في حدود الاجتهاد السائغ.

وأما الخطير فكان حكم "2002م"؛ الذي أطلق يد المشرع في أن يأخذ بما يراه وإن خالف أقوال الفقهاء، وهذا قد يفتح الباب للأقوال الشاذة سواء المأخوذة عن مذاهب منحرفة أو عن اجتهادات ممن لا يملكون أدوات الاجتهاد!

فإذا أضفتَ إلى هذا كلام الكثير من القانونيين والمثقفين حول تفسير المبادئ بأنها العدل والمساواة، وغيرها من المبادئ التي حاصلها عدم الالتزام حتى بقطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ فمن هنا كان ولابد مِن مادة تُلزِم بعدم الخروج عن فقه الأئمة، وهو في غاية الاتساع، وحتى مسائله المعاصرة تبحثها المجامع الفقهية.

كما كان من المناسب إغلاق باب الفقه على "فقه أهل السنة"، وهو في غاية التنوع والاتساع، ولا يقف عند الأئمة الأربعة الذين لا يمثلون أربعة رجال، بل أربع مدارس في كل واحدة منها مئات المجتهدين على مر العصور.

هذا وقد واجهتْ هذه المادة اعتراضات بعضها موضوعي وبعضها شكلي، فأما الاعتراض الموضوعي فبني على عدم فهم مصطلح "أهل السنة والجماعة"، فقد ظن البعض أنه يعني الجماعات الإسلامية! في حين أنه يطلق في مواجهة "مذاهب الشيعة"، وهو ما يمثله "الأزهر" الذي يعتبر أكبر الهيئات الممثلة لأهل السنة في العالم.

وظن بعضهم أن هذا سوف يضيق باب التشريع على المذاهب الأربعة، متناسيًا أن مجتهدي أهل السنة أكثر بكثير من هؤلاء الأربعة، وإن كانوا الأشهر والأثبت، كما أن لكل مذهب من هؤلاء علماءه المعاصرين في "الأزهر"، وفي غيره.

فتبيَّن مِن هذا أن قصر الأمر على مذاهب أهل السنة والجماعة فيه "حماية مصر من أخطار تهدد الأمن القومي"، كما أن مذاهب "أهل السنة" متنوعة تنوعًا ثريًّا، ومتجددة عبر فقهاء هذه المذاهب في "الأزهر الشريف".

وأما الاعتراض الشكلي عليها بأنه لا يوجد دستور فيه مادة تشرح الأخرى فغير مُسلَّم به؛ بل يوجد في دساتير العالم شروح لألفاظ ملتبسة، بل الدستور المصري يحتوي على مواد تعتبر شروحًا وتفصيلات لمواد أخرى، ومنها: "المادة الثالثة" التي لم تتعرض لها لجنة الخبراء رغم أنها لا تعدو أن تكون حكمًا من أحكام الشريعة المقررة في المادة الثانية، وتم وضعها هي و(219) في ظل فلسلفة واحدة وهي توضيح الغامض في المادة الثانية، وعلى أي فيمكن التغلب عليه بإدماجها في "المادة الثانية" كما في الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المؤقت، وهو رجل دستوري.

وهذا يقودنا إلى قضية هامة، وهي: هل يجوز لـ"لجنة العشرة" أو حتى "لجنة الخمسين" أن تخالف مادة وجدت في الدستور المعطل، وفي الإعلان الدستوري المؤقت؛ مما يعني محوريتها لدى السلطة التأسيسية للمرحلة الانتقالية، وهذا الأمر ناشئ عن عهود ومواثيق من كل عناصر السلطة المؤقتة، بالإضافة إلى "الكنيسة"؛ فضلاً عن "الأزهر" الذي اقترحتْ "هيئة كبار علمائه" هذه المادة على تأسيسية "2012م"؟!

هذا بالإضافة إلى أنه وفق اقتراح لـ"جنة الخبراء" فقد تكرر ذكر مبادئ الشريعة مرة أخرى، فقد اقترحت زيادة فقرة في المادة (11) من مشروعها المقدم نصها: "ومساواتها بالرجال في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون إخلال بمبادئ الشريعة الإسلامية".

ومع هذا تصر على حذف تفسير كلمة المبادئ!


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي