الثلاثاء، ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

في انتظار الكارثة!

وقد أيقنتُ أن لن يكون هناك اجتماع بعد اليوم، فقررت أن أترك عملي وأسافر إلى بلدتي

في انتظار الكارثة!
عصام حسنين
الاثنين ٠٤ نوفمبر ٢٠١٣ - ١٨:٢٠ م
2798
1-محرم-1435هـ   4-نوفمبر-2013      

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

حقًّا إن التاريخ ذخر، ووعاء للعبر والدروس، وما زلتُ مع كتاب "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ"؛ هذا الكتاب التاريخي الخطير الذي أجد فيه كثيرًا من الأحداث تشبه أحداث حاضرنا، وفيها الحل والمخرج لكثير من الورطات التي ورطنا فيها قيادة لم تدرس تاريخها جيدًا، وما زال مسلسل التوريط مستمرًا!

وكنت أظن بعد مقالِي "لقاء عاصف مع حبيب" أن القيادة ستغير من موقفها! لكني فوجئت بأنهم يسوقون جماعتهم إلى الحتف سوقًا، ومن ورائهم يضرون الدعوة عامة! فتخرج الفيديوهات من آن لآخر من المخبأ -بأوامر وبيانات هي أوهام لا تمت للواقع بصلة- تطالب بالمسير في الطريق نفسه دون التفكير في بدائل واقعية للخروج من المأزق!

ومن باب التذكير والنصح للمسلم أستكمل الجزء الخاص بما بعد لقاء الأستاذ "محمود عبد الحليم" وإخوانه مع "عبد الناصر"؛ لعله يكون مخرجًا أيضًا من هذه الذروة التي وصلت إليه الورطة!

يقول الأستاذ محمود -رحمه الله-: "أذكر أن اجتماعنا بجمال عبد الناصر كان قبل اجتماع الهيئة التأسيسية بيومين أو ثلاثة على الأكثر، وكنت متفائلاً بعد خروجنا من بيت جمال لثقتي في أن يؤدي اجتماع الهيئة إلى معاونتنا في تحسين الموقف أو في التخفيف من حدته للأسباب الآتية:

أولاً: أن الوفد الذي مثل الإخوان في الاجتماع بجمال كان فوق الشبهات إذ يضم أعرق الإخوة في الدعوة، وأعلاهم ثقافة، وأشدهم غيرة، وأقدرهم على تقدير الموقف، وهم موضع احترام الجميع.

ثانيًا: أن الذي سيرأس الجلسة ويدير النقاش فيها هو الدكتور خميس نائب المرشد وهو أحد أعضاء الوفد.

ثالثًا: أنني اتفقت مع الدكتور خميس في ترتيب بنود جدول أعمال الجلسة أن يكون عرض مذكرتي أول هذه البنود، وأن يتيح لي فرصة قراءة هذه المذكرة وشرحها، وكان هو واثقًا بأن قيامي شخصيًّا بهذا الدور كافٍ أن يقنع إخوان الأقاليم وهم الكثرة الغالبة من أعضاء الهيئة، وكان ثقة الدكتور خميس هذه مبنية على ما كان يَعرف من حب هؤلاء الإخوان لي، وتقديرهم لآرائي لحسن ظنهم بي في عزوفي عن المناصب، وإيثاري البعد عن مواطن الشهرة، ولأنهم يعلمون أنني ملم من أسرار الدعوة بما لا يلم به أكثر قادتها؛ هذا هو ما كان يبعث في نفسي التفاؤل بما قد يتمخض عنه هذا الاجتماع.

أما العقبات التي كانت ماثلة أمامي ولابد من اقتحامها لإنجاح الاجتماع فهي:

أولاً: أن إخوان الأقاليم من أعضاء الهيئة التأسيسية يكادون أن يكونوا في عزلة عن حقائق ما يجري في القاهرة فهم خالو الأذهان عنها، وكل ما يصل إلى أسماعهم هو نشرات تشحنهم شحنًا يعدهم لدخول معركة فاصلة.

ثانيًا: أن الظروف لم تتح لنا فرصة للمرور على هؤلاء الإخوان في الأقاليم لشرح حقائق الموقف لهم حتى يحضروا الجلسة وهم ملمون بكل أطراف الموضوع، وكان هذا الإجراء ضروريًّا لولا أن ما وصلنا إليه من نتائج لم نصل إليه إلا قبل يومين فقط من موعد انعقاد الهيئة المحدد من قبل.

ثالثًا: أن المرشد العام مستمر في إصدار النشرات والبيانات من مخبئه لتزيد النار اشتعالاً، ومعلوماته ناقصة عن حقائق الموقف وما استجد بعد اختفائه من معلومات تدل على أننا مكشوفون للطرف الآخر دون أن ندري!

رابعًا: أن الإخوة المسيطرين على المركز العام والمتصلين بالمرشد في مخبئه لا يريدون أن يقتنعوا بوجهة نظرنا، بل إنهم يرون في تحركنا تخاذلاً وانحرافًا، وإن كانوا لا يبدون به، ولكن تصرفاتهم إزاءنا كانت توحي بذلك، كما توحي بانعقاد عزمهم على أن يخوض الإخوان المعركة على أساس من معلوماتهم القاصرة، ولا قِبل لهم بسماع آراء أخرى، ولا بالسماح بتوصيل هذه الآراء إلى المرشد العام؛ اعتقادًا منهم بأن هذه الآراء تفت في عضد الإخوان، وتعوق الخطة التي وضعوها لشحن الإخوان وإعدادهم لخوض المعركة!

مفاجأة المفاجآت أو انفجار اللغم:

كنا قد أبلغنا إخواننا المسئولين بالمركز العام بنص ما تم الاتفاق عليه من قرارات في اجتماعنا بجمال عبد الناصر فور انتهائنا من هذا الاجتماع، وكان أملنا أن يعاوننا إخواننا هؤلاء في النهوض بما يخصنا نحن الإخوان من هذه الشروط أو القرارات، وأهم ما فيها: "إيقاف النشرات"، وهم وحدهم القادرون على تنفيذ هذه الشروط؛ لأنهم هم المتصلون بالأستاذ المرشد، ولكن الذي حدث كان عكس ما توقعناه...

ففي الليلة المقرر عقد جلسة الهيئة التأسيسية فيها، وفي أثناء توارد وفود إخوان الأقاليم، وقبل موعد الاجتماع بنحو ساعة - فوجئنا بمنشور صادر عن المرشد العام يوزَّع على هؤلاء الإخوان يحرضهم فيه على مواجهة رجال الثورة ويرميهم بما يشبه الكفر، ومع أن هذا المنشور كافٍ أن يقوض كل ما بنيناه؛ فإننا لم نيأس لأن آمالنا كانت معقودة على جلسة الهيئة التأسيسية التي نشرح للأعضاء فيها الموقف شرحًا يبصرهم بما خفي عنهم من جوانبه ونواحيه، ثم نكلهم بعد ذلك إلى عقولهم وضمائرهم... وهم نعم الأكفاء.

رأينا الأخ الأستاذ "عبد القادر عودة" يصعد هو الآخر إلى المنصة وينحي الأخ الدكتور "خميس" -رحمهما الله- في غير رفق، ويقول له: أنا أحق منك بإدارة الجلسة، ولشدة المفاجأة، وهول المباغتة، وخشية أن يُؤَوَّل الموقف على أن الإخوان يتنازعون المناصب تنحى الدكتور خميس... وسكتنا -نحن الحاضرين- ونحن في ذهول من هذا التصرف المفاجئ وما فيه من تعدٍ على الحقوق، وخروج على النظام! وقلنا في أنفسنا: ربما كانت في نفس الأخ الأستاذ عبد القادر بقية من تأثر لما اتخذه الأستاذ المرشد إزاءه حين كان مفتونًا برجال الثورة؛ فلعل تبوأه منصب رياسة هذه الجلسة يمحو من نفسه هذه البقية.

خطة مدبرة:

ولكن ما لبثنا بعد برهة أن فهمنا أننا قد تورطنا بحسن الظن، وعلمنا أن المسألة لم تأت عفوًا، ولا جاءت بدافع شخصي، وإنما هي خطة مدبرة... تكشف لنا أن إخواننا المسئولين في ذلك الوقت عن المركز العام لما يئسوا من أن أسحب مذكرتي أو أن أتراجع عن خطتي رتبوا خطة أخري لإحباط جهودي وجهود من معي... وكما كان الأخ الأستاذ عبد القادر -رحمه الله- هو رسولهم إليَّ في محاولتهم الأولى فقد اتخذوا منه هو نفسه الأداة المنفذة للخطة الجديدة، وهي خطة مضمون لها النجاح؛ لاسيما وقد احتفظوا لها بالسرية التامة، وأحاطوها بستار كثيف من الكتمان.

كما أنهم كانوا واثقين من أننا مهما قلبنا الأمور، واستعرضنا مختلف الاحتمالات -لأننا في استعراضنا للاحتمالات لم ولن نخرج بها عن حدود ما يمكن أن يحدث في المجتمع الإخواني القائم على المثل العليا والخلق الرفيع- فلن يخطر ببالنا هذا الذي بيتوه، ولكن يبدو أن إخواننا هؤلاء في هذه المرة -وإني أعدها منهم سقطة- قد استباحوا القاعدة الميكافيلية التي تقول: "إن الغاية تبرر الوسيلة!"، فأمام ما اعتقدوا أنهم على الحق وأن طريقهم هو الطريق الأمثل لمصلحة الدعوة، وعلى أساس أن التيار المخالف لهم صار من القوة بحيث لا يستطيعون التصدي له بالأساليب المشروعة... لجئوا إلى أسلوب "وإن كان غير كريم"؛ إلا أنه يضمن لهم تحقيق ما يأملون.

"قلتُ -عصام حسنين-: لا يجوز في أخلاق الإسلام هذه القاعدة الميكافيلية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ(رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وإنما المشروع هو التعامل بأخلاق الإسلام وتعليم الناس السياسة الشرعية "لاسيما المسئولون منهم" من الصدق والأمانة، والحرص على المصلحة العامة، وإنزالهم منازلهم، واستعمال الرفق واللين معهم وإن جفوا فإن ذلك سيأتي بنتائج طيبة -إن شاء الله-، ثم الملاحَظ أن هذه القاعدة بدأت كذلك، ثم مع الزمان صارت تطبق على الجميع!".

تفاصيل الخطة:

والذي أكد لنا أن هذا الذي فوجئنا به إنما هو خطة مدبرة، وخطوات مدروسة، وأسلوب تمخض عن بحث مستفيض - هو أن الأستاذ عبد القادر حين استوى على المنصة تناول من الدكتور خميس الورقة المكتوب فيها جدول الأعمال، وكان أول بند فيها عرض مذكرتي وقيامي بشرح الموضوع من جميع جوانبه، ويلي هذا البند بنود أخري عادية، فإذا بالأستاذ عبد القادر يبدأ مخاطبة أعضاء الهيئة بقوله: "يشتمل جدول الأعمال على البنود الآتية: بند موضوع العلاقات بيننا وبين رجال الثورة، وهناك لجنة وكل إليها أمر الاتصال بهم منذ قامت الثورة ويجب أن نسمع منها ما تم في هذا الصدد.

فقام بعض أعضاء الهيئة القاهريين الذين يعلمون أهمية قراءة مذكرتي وقالوا: نسمع أعضاء اللجنة، ولكن يجب أن نسمع مذكرة فلان أيضًا؛ لأنها في غاية الأهمية. فقام آخرون قاهريون -وهم من الإخوة المسئولين عن المركز العام في ذلك الوقت- وقالوا: لا داعي لقراءة مذكرة فلان... وكانت نبرات صوتهم توحي بأن زمام المبادرة أضحي في أيديهم.

ويبدو أن اتصالاً كان قد تم بين هؤلاء وبين إخوان الأقاليم ألقى في روعهم أن مذكرتي ومَن يؤيدها ليست في مصلحة الدعوة، وإذا لم يكن قد تم هذا الاتصال فيكفي لإثارة شعورهم ولإشعال حماسهم ضد كل ما فيه معنى تقريب وجهات النظر ما تلقوه صادرًا عن الأستاذ المرشد ساعة حضروا لي المركز لحضور الاجتماع، وطال الخلاف بين أعضاء الهيئة، واحتدم النقاش، وتعالت الأصوات حول موضوع المذكرة، وكان الفصل الأخير من المسرحية التي وُضعت بدقة، وأُخرجت بإحكام أن قال الأستاذ عبد القادر واثقًا: "حسمًا للخلاف نلجأ إلى الهيئة ونأخذ الأصوات: هل تقرأ مذكرة فلان أم لا تقرأ؟" وأخذت الأصوات فكانت الأغلبية في جانبهم، وهو ما كانوا واثقين منه، وإلا لما لجئوا إلى هذا الأسلوب.

تم إجهاض جهودنا:

وبذلك تم إجهاض جهودنا، وبدأ اليأس يدب إلى نفوسنا، وفكرنا في مغادرة الاجتماع، ولكننا خشينا أن يؤخذ ذلك على أنه نوع من التمزق في صفوف الإخوان، ومع أننا نحن وحدنا دون بقية إخوان الهيئة الذين كنا نعلم ما سوف يحيق بالإخوان من التنكيل بعد إهدار آخر سهم في جعبتنا لإنقاذ الموقف، فإننا قررنا ألا ننجو دونهم من أن نكون معهم حطامًا لنيران أوقدوها أو ساعدوا على إيقادها ثم حالوا بيننا وبين محاولة إطفائها، وقد يسأل سائل: ما الذي قيل في الاجتماع وما القرارات التي انتهي إليها؟! ونجيب هذا السائل فنقول: إنك تستطيع أن تستنتج كل ذلك من اجتماع كانت مقدماته ما عرفتَ... !

الأسلوب الحكيم:

لما تم الفصل الأول من المسرحية وانتقلت إلى فصلها الثاني، وعنوانه: "التهاتر بين الممثلين والمشاهدين" الذي لم يخرج عن كونه تراشقًا بالألفاظ -وإن كانت الصحف ظهرت في صبيحة اليوم التالي تصوره على أنه كان تماسكًا بالأيدي!- اقترح عليَّ بعض إخواننا أن أطلب الكلمة وأعرض فكرتنا، ولكنني رفضت، وكان رفضي يقوم على الحجة التالية: كان الجو في أعلى درجة من درجات التوتر... وفي مثل هذا الجو لا ينبغي لصاحب رأي معارض أن يعرض رأيه ارتجالاً، وإنما لابد من أن يكون العرض عن طريق مذكرة مكتوبة، وهو ما قصدت إليه من كتابة المذكرة، ومن أن أبدأ عرضي لرأيي بقراءتها عليهم؛ لأن المذكرة حين كتبتها راعيت فيها تنظيم الأفكار وتسلسلها، ومراعيًا فيها مخاطبة العواطف تارة، ومخاطبة العقول تارة أخرى، كما راعيت أن تكون موجهة مني للمرشد العام وفي هذه طمأنة للسامعين.

ويبدو أن هذه المعاني كانت بعض ما دفع إخواننا هؤلاء إلى الحيلولة دون سماع إخوان الهيئة هذه المذكرة مني، فلا يكون أمام إخواننا المناصرين لفكرتنا في الإصلاح إلا الارتجال الذي -في هذا الجو- لا يكاد يبين، وقد تنبهت لهذا فرفضت أن أتكلم في هذا الجو مرتجلاً.

القـرار:

وخلاصة ما كان أن ظل الاجتماع ما ظل... لا تسمع إلا تهاترًا؛ هذا يطلب محاولة الإصلاح، وآخرون يردون عليه بصوت أعلى يرفضون الإصلاح! ثم كان القرار وهو: "تكليف اللجنة التي كان موكولاً إليها الاتصال برئيس الحكومة، وإخطار الهيئة بنتائج هذا الاتصال في اجتماع الهيئة التأسيسية القادم"، ولا أذكر التاريخ الذي حدد له.

معنى هذا القرار:

ومعنى هذا القرار هو أنك تريد أن ترغم الجانب الذي أضحى بيده زمام المبادأة على التحدث مع لجنة أعلن رفضه الاتصال بها من قبل، متهمًا أعضاءها بتهم مختلفة، منها: سوء النية، ومنها: عدم الأمانة في نقل الأحاديث... تريد أن ترغمه على استقبالها والتحدث معها؛ وإلا فلا كلام معه!

وأنا أعود هنا وأقرر أنني شخصيًّا لا يخامرني شك في هؤلاء الإخوة -أعضاء لجنة الاتصال- في حسن نيتهم وفي أمانتهم في النقل، ولكنني مع ذلك أرى أن هناك بواعث نفسية لا يمكن إغفالها تتدخل في العلاقات بين الناس بعضهم مع بعض، فتجعل إنسانًا مقبولاً عند شخص من الأشخاص ولا تجعله هو نفسه مقبولاً لدى شخص آخر... وكل من الشخصين ينتحل أسبابًا يبرر مسلكه نحو هذا الإنسان، وقد لا تمت هذه المبررات إلى الواقع بصلة.

أما في الصلات الفردية فقطع الفرد صلته بفرد آخر لا يقبله أمر سهل، فقد يجد الفرد عشرات من الأفراد آخرين يقبلون ويرحبون، وفي هذا يقول الشاعر:

كلانا غني عن أخيه حياته                ونحن إذا مـتنا أشد تغـانيا

أما أصحاب الدعوات في علاقاتهم مع الحاكم -إذا ما أريد تحسين العلاقات أو التخفيف من التوتر أو تفادي أزمة- فعليهم أن يكونوا من المرونة بحيث لا يصرون في جميع الظروف ومختلف الأحوال على أن يكون الاتصال مقصورًا على أشخاص معينين، مهما أظهر الحاكم ضيقه بهؤلاء الأشخاص، بل عليهم أن يبادروا من تلقاء أنفسهم باختيار آخرين وآخرين حتى يصادف وفد منهم قبولاً نفسيًّا من الحاكم فيصل معه إلى حلول للمشاكل المستعصية.

وأذكر في هذا المقام ما سبق لي قوله في الجزء الثاني من هذه المذكرات حين كنت أتحدث عن "حسن البنا" فقلت: إنه كان من المرونة وسعة الأفق بحيث كان لديه لكل موقف الكثير من البدائل، وحسبك أن تعلم أنه أمام محنة 1948م لم يكتفِ بتوسيط الأحباب والأصدقاء بينه وبين الحكومة، بل لجأ في بعض الأحيان إلى الأعداء متغاضيًا عن سابق مواقفهم، وأعتقد أن المرشد العام "حسن الهضيبي" لو أن الظروف أتاحت له أن يلم بما جدَّ من تطورات لما وافق على سياسة الجمود التي مثَّلها قرار الهيئة، ولوجد في "سياسة البدائل" ما يعين على الخروج من المأزق.

الفصل الثاني: في انتظار الكارثة:

لم يكن إخواننا هؤلاء ولا إخوان الأقاليم يتوقعون ما كنا نتوقعه من أهوال ستنصب على رءوسنا صبًّا؛ لأنهم حجبوا أنفسهم عن الحقائق، ورضوا أن يعيشوا سابحين في الأوهام، ولم يصدقوا ما أنذرتهم من أن أسرارنا مكشوفة لهؤلاء الناس، وأرادوا أن يفرضوا على الواقع ما تخيلوه من أوهام!

والتضحية بالنفس والمال لا تغلو على الدعوة، بل إنها أمنية ترنو إليها نفوسنا جميعًا، ولكن ليس معنى هذا أن يطالب الإخوان بتقديم تضحيات دون مبرر، فإذا كانت هناك مندوحة لإرجاء هذه التضحيات أو لتقليص حجمها؛ فيجب أن نضن بكل قطرة دم، بل وبالخدش "مجرد الخدش" يصيب أخًا من الإخوان، ما لم يكن الضن به عقوقًا للدعوة، وتضييعًا لحقها، وفي الحديث: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إِلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (متفق عليه).

ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على حقن دماء أصحابه، فلم يقاتل بهم مكشوفين للعدو، ولم يقدهم إلى زحف إلا بعد أن يتحسس لهم الطريق، ويرسل السرايا لتعرِف له قوة العدو، ومواضع الضعف فيه، وقد يبعث إليهم من يعطيهم معلومات مضللة عن جيش المسلمين، فإذا اطمأن بعد كل ذلك باغت العدو بالزحف باذلاً من جيش المسلمين أدنى حد من التضحية، محققًا أعظم قدر من النصر.

وهكذا كان يفعل الإمام الشهيد، وسبق أن أوضحت في أبواب سابقة إلى أي حد كان حرصه على دماء الإخوان، وعلى مالهم ووقتهم، وما إخال المرشد العام "حسن الهضيبي" إلا كان فاعلاً مثلما فعل الإمام؛ إلا أن اختفاءه حال دون تزويده بمعلومات لو أنه علمها لما اتخذ من الإجراءات ما اتخذ.

غادرنا اجتماع الهيئة التأسيسية، ونحن نقول: وداعًا أيتها الدار... كنا نعرف ما نحن مقبلون عليه، وما ينتظر الإخوان في كل مكان مِن ظلم وعسف وتنكيل، ولكننا أو أقول في نفسي بالذات: إنني كنت مرتاح الضمير؛ لأنني بذلت آخر ما في وسعي لدفع النكبة عن إخوان لي في القاهرة والأقاليم، ولكنهم رفضوا... فكنتُ وإياهم كما قال الشاعر العربي:

أبتغـي إصلاح سُعـدى بجهـدي           وهي تسعى جهدها في فسادي

وقد أيقنتُ أن لن يكون هناك اجتماع بعد اليوم، فقررت أن أترك عملي وأسافر إلى بلدتي "رشيد" أطلب إجازات حتى أستنفذها ثم أظل بها حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وسافرت إلى رشيد أنتظر ما تتمخض عنه جهود إخواننا الذين نجحوا في إجهاض مساعينا، فكان أول خطوة قاموا بها أنهم ذهبوا يطلبون مقابلة جمال عبد الناصر، ولكنهم انصرفوا حين جاءهم رسول منه يقول لهم: إن الرئيس يرفض مقابلتكم!" (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ 3/ 385-394).

وإنا لله، وإنا إليه راجعون!

وإلى مقال آخر -إن شاء الله- أذكر لكم فيه موقفًا من التاريخ يبيِّن صواب مشاركة "حزب النور" في "لجنة الخمسين" ولو بواحد.

والله المستعان!


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً