الثلاثاء، ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مناهج الإصلاح (5) معالم صلاح الدولة

فنتحدث في هذا المقال عن معالم صلاح الدولة، ونذكِّر بيْن يدي هذا الموضوع بهذه الفقرة التي سبق وأن ذكرناها في المقال الثاني من هذه السلسلة عن علاقة الفرد والمجتمع والدولة

مناهج الإصلاح (5) معالم صلاح الدولة
عبد المنعم الشحات
السبت ٠٩ نوفمبر ٢٠١٣ - ١٦:٤٨ م
2864
6-محرم-1435هـ   9-نوفمبر-2013      

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنتحدث في هذا المقال عن معالم صلاح الدولة، ونذكِّر بيْن يدي هذا الموضوع بهذه الفقرة التي سبق وأن ذكرناها في المقال الثاني من هذه السلسلة عن علاقة الفرد والمجتمع والدولة.

أولاً: حاجة البشرية إلى صلاح "الفرد - والمجتمع - والدولة":

عند التأمل في تراث العلوم الإنسانية لا سيما الاجتماع والسياسة، سوف نجد أن هناك حقيقة تكاد تجمع عليها البشرية عبر تاريخها، وهي الحقيقة القائلة: إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وإنه لا يستطيع العيش منفردًا، وإن الأفكار القائلة بالفردانية تبقى مجرد أفكار فلسفية لا تجد تطبيقات عملية لها؛ إذ أن التجارب الاجتماعية أثبتت دوام انتماء الإنسان إلى جماعة.

وحياة الفرد لا تستوي طبيعيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، إلا ضمن مجتمع ينتمي إليه بالولادة أو بالاختيار, وكون الإنسان جزءًا من جماعة يعني خضوعه لبعض القيود والواجبات، إذ لابد لكل مجتمع أيًّا كان نوعه وأيًّا كانت درجة تطوره "أسرة - قبيلة - عشيرة - دولة" مِن نظام يحكمه، ومن سلطة تتولى قيادته.

والمجتمعات المستقرة جغرافيًّا على مدار الزمان عادة ما تستطيع أن تفرز نظام حكم ثابت لينتج من هذه الثلاثة ما يُسمى بالدولة.

ونعني بهذه الثلاثة:

1- مجموع الأفراد المتعايشين معًا (المجتمع).

2- الحدود الجغرافية.

3- نظام الحكم.

ومع اطراد هذا الأمر انشغل عامة المصْلحين عبر التاريخ بوضع نموذج للصورة المثالية التي ينبغي أن يكون عليها:

1- الفرد من تصورات عقلية، وسلوكيات عملية.

2- العلاقات الاجتماعية بيْن الأفراد.

3- الصورة المثالية لنظام الحكم، لا سيما فيما يتعلق بعدم طغيان الدولة على حريات الأفراد، وقدرتها على تحقيق العدالة بأنواعها من التوزيع العادل للثروات العامة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والقضائية.

إذن، عندما نتحدث عن صورة صلاح إنساني فلابد أن نتحدث عن الفرد والمجتمع والدولة, وإغفال أي جانب من هذه الجوانب يساوي ترك ثغرة للفساد.

ثانيًا: الأدلة على وجوب إقامة نظام للحكم في الإسلام:

1- فمن الكتاب: قوله -تعالى-: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ(النساء:59)، وأولو الأمر: هم الأمراء، وأدخل بعضهم في مفهوم أولي الأمر: العلماء أيضًا.

2- ومن السنة القولية: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وإن كان واردًا في إمارة السفر؛ إلا أنه على وجوب إقامة الحكم الإسلامي من باب أولى، وفي الحديث: (لتُنقَضَنَّ عُرَى الإسْلامِ عُرْوَةً عرْوَةً، فَكُلَّمَا انتُقِضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثُ الناسُ بِالتي تَليها، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًَا الحُكْمُ، وآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ(رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

والمقصود بالحكم: الحكم على النهج الإسلامي، ويدخل فيه بالضرورة وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم، ونقضه يعني التخلي عنه وعدم الالتزام به، وقد قُرن بنقض الصلاة وهي واجبة، فدل على وجوبه.

3- ومن السنة الفعلية: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أقام أول دولة إسلامية في المدينة بعد أن مهَّد لها وهو في مكة، وصار هو -صلى الله عليه وسلم- أول رئيس لتلك الدولة الإسلامية التي قامت في المدينة، وما معاهداته -عليه الصلاة والسلام- مع يهود المدينة ثم مع غيرهم إلا مظهر من مظاهر السلطان، الذي أخذ يباشره بصفته رئيسًا لدولة الإسلام.

ثالثًا: معالم نظام الحكم الإسلامي:

1- سيادة الشريعة:

لقوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا(الأحزاب:36)، وسيادة الشريعة لا تصادِر على الحكومة أمر التنظيم؛ لأن النصوص قليلة، والحوادث غير متناهية، وحياة الناس تتطلب نوعًا من التنظيم في المرور والجوازات، وغيرها من أمور الحياة التي تحتاج إلى تنظيم، فمن حق الحكومة وضع تنظيمات لا تخالف الشريعة.

2- الشورى:

وهي الرجوع إلى أهل الرأي والاختصاص في الأمور التي لا يوجد فيها نص شرعي واضح؛ للوصول إلى الأصلح للأمة والأنفع لها, وقد وردت الشورى بمعناها العام المتعلق بنظام الحكم في الإسلام في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(الشورى:38).

فائدة نطاق الشورى في النظام السياسي الإسلامي:

أ‌- النصوص الشرعية التي تكون دلالتها محتملة وغير قطعية على المراد، ويحتاج المسلمون للوصول فيها إلى رأي راجح رافع للخلاف؛ يحال الأمر فيها للفقهاء في الشريعة الإسلامية.

ب‌- ما يتعلق بالأمور الدنيوية التي لم تتطرق لها الشريعة بصورة مفصلة، ويكون مدار قبولها أو رفضها على تحقيق المصالح أو درء المفاسد: كالمعاهدات الدولية, وتنظيم الاقتصاد والسياسات المالية, ووضع الأنظمة للمباني والطرق... وغير ذلك من المسائل، فهذه ينظر فيها أعضاء مجلس الشورى, وهم في الغالب يستعينون برأي أهل الخبرة والاختصاص.

3- العقد الاجتماعي في النظام الإسلامي عقد حقيقي:

إذا كان النظام الديمقراطي قد افترض عقدًا وهميًّا بين أفراد المجتمع ككل، وبين الحكام والمحكومين على وجه الخصوص، فإن هذا العقد في الإسلام عقد حقيقي مكتمل الأركان، بيَّن الله حدوده في قوله -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(النساء:58-59).

4- العقد بين الحاكم "الحكومة" والأمة عقد وكالة:

خاطب الله -سبحانه- الأمة بتنفيذ أحكام الشرع وإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقامة المجتمع الإسلامي الفاضل في نصوص كثيرة، منها: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنْكَرِ(التوبة:71)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ(النساء:135)، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا(المائدة:38)، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ(النور:2)، فهذه النصوص وأمثالها كثير... تدل على مسئولية جماعة المسلمين عن تنفيذ أحكام الإسلام.

وما دامت الأمة مسئولة عن تنفيذ أحكام الإسلام ومطالبَة بها؛ فهي تملك -بداهة- السلطة على هذا التنفيذ "بتمليك من الشارع"،وحيث إن جماعة المسلمين لا تستطيع أن تباشر سلطانها بصفتها الجماعية لتعذره في الواقع؛ فقد ظهرت النيابة في الحكم والسلطان بأن تختار الأمة الحاكمَ (الحكومة) لينوب عنها في مباشرة سلطاتها لتنفيذ ما هي مكلفة بتنفيذه شرعًا؛ لأن إنابة المالك غيره في مباشرة ما يملكه أمر جائز كما هو معروف في نظرية النيابة في الفقه الإسلامي.

رابعًا: قيم نظام الحكم الإسلامي:

يختلف الحكم الإسلامي عن غيره اختلافًا جذريًّا في أن دوره هو حفظ الدين وسياسة الدنيا بالدين، بينما تهدف بقية الأنظمة إلى سياسة الدنيا بما تجتهد فيه البشرية، فيصيبون حينًا ويخطئون أحيانًا مع أن القيم التي تدَّعي هذه النظم تحقيقها لا تُحقق على الوجه الصحيح وبدون أن تتعارض مع بعضها البعض.

وهذه القيم والمقاصد، هي:

1- العدل:

العدل مِن أهم الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام, وتحقيق العدل يحقق الأمن والاستقرار في أي مجتمع من المجتمعات، وجاء الأمر بالعدل في القرآن الكريم في كثير من الآيات، منها: قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(النساء:58). والأمر بالعدل هنا للوجوب.

وقد جاء في السنة ما يدل على عظم فضل العدل: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا(رواه مسلم)، وقد عظَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- خطورة عدم إقامة العدل، فقال: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً, يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلِيْهِ الْجَنَّةَ)(متفق عليه). وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله- في شرح هذا الحديث أن هذا وعيد شديد على أئمة الجور.

والسبب في عناية علماء الإسلام بهذه القاعدة: أنها أساس صلاح الإنسانية وسعادتها، فإن تحقق العدل في حياة البشرية سعدت واستقرت، وهو واجب في كل نواحي الحياة: السياسية, والاقتصادية, والاجتماعية, وكذلك واجب التطبيق على مستوى المؤسسات: كالقضاء، والجيش، والتعليم, وعلى مستوى الأفراد بدون استثناء.

2- المساواة:

المساواة هي عدم التفرقة بين الناس في الحقوق والواجبات على أساس قِبَلي أو إقليمي أو اقتصادي... إلى غير ذلك من الأمور التي هي خارجة عن إرادته وسعيه.

وهناك نصوص كثيرة تقرر مبدأ المساواة في الإسلام، منها: قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(الحجرات:13)، وهي مِن القيم التي اشتطت فيها معظم النظم؛ لا سيما "الليبرالية المعاصرة"، والتي بالغت في معنى المساواة "خاصة بين الرجل والمرأة" حتى كادت أن تجعل كلاً منهما مسخًا، لا هو بالرجل ولا بالمرأة!

وفي الواقع: إن الشريعة تأتي بالمساواة حال التشابه، وبالعدل القائم على تقابل الحقوق والواجبات حال الاختلاف، فتسوي بين الرجل والمرأة في "أصل التكريم، وأصل التكليف"، وتجعل الأصل: (إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، ثم عند الاختلاف الذي ما خلقه الله إلا للتكامل، تجعل هذا التكامل قائمًا على تكافئ الحقوق والواجبات (وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ(البقرة:228).

3- الحرية:

وهي الإذن للإنسان بالتصرف في شئونه كلها بما لا يخالف الشريعة الإسلامية.

معنى الحرية السياسية: "هي الحالة التي تمكِّن الفرد من أن يكون له الحق في اختيار الحاكم ومراقبته أو محاسبته سواء أكان عن طريق مباشر أم عن طريق ممثله، وممثل الأمة من أهل الحل والعقد".

وقد يطول بنا المقام لو أردنا أن نفصِّل في ذكر النظام السياسي في الإسلام، ولكن المسألة الأكثر إلحاحًا في العصر الحديث، هي مدى شرعية المشاركة السياسية في النظم الدستورية الحديثة التي يُعمل بها الآن في كل دول العالم إلا النذر اليسير، وقد ذكرتُ شيئًا من هذا في مقال: "الإسلام والديمقراطية... مواطن الاتفاق ومواطن الاختلاف" فليراجعه مَن شاء.


موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com