الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

أفكارنا بين الحياة والقبور

وكم مِن فكرة دُفِنت مع صاحبها فلم ينتفع بها، ولم ينفع غيره بها، وكم مِن فكرة غيَّرت مجرى التاريخ، بل ربما أحيا الله بها أمة بأسرها

أفكارنا بين الحياة والقبور
مصطفى دياب
الثلاثاء ١٨ فبراير ٢٠١٤ - ١٤:٣٥ م
3023

أفكارنا بين الحياة والقبور

كتبه/ مصطفى دياب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأفكارنا تحمل حلولاً لمشاكلنا، لكنها من خارج الصندوق الذي يفكر في إطاره وحدوده معظم الناس، والمبدعون هم الذين يُلهمهم الله الحلول من خارج الإطار المحدود، وقليل ما هم، ومع ذلك نجد مَن يتميز في قتل الأفكار، بل وأدها!

وكم مِن فكرة دُفِنت مع صاحبها فلم ينتفع بها، ولم ينفع غيره بها، وكم مِن فكرة غيَّرت مجرى التاريخ، بل ربما أحيا الله بها أمة بأسرها... ألم يكن مشروع "ذي القرنين" فكرة أنقذ الله بها أمة من الهلاك، (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) (الكهف:94-97).

تخيل لو أن أحدهم حطم الفكرة أو احتقرها وشكك في نتائجها، أو طالب ذا القرنين بأن يضمن لهم النجاة إذا قاموا معه بالبناء، وتعطلت الفكرة "أو قل ماتت الفكرة"؛ فما مصيرهم اليوم؟!

ربما كانوا في بطون يأجوج ومأجوج!

ومشهد آخر تبوء فيه محاولات الملك وأفكاره بالفشل، فيحاول قتل الغلام من فوق الجبل فيفشل، ويحاول قتله بقذفه في الماء في عرض البحر فيفشل، ثم يأتي الغلام بالفكرة التي يهديها إلى الملك، (فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي) (رواه مسلم).

نعم، مات الغلام بفكرته، ولكن أحيا الله بموته أمة، فقد (قَدْ آمَنَ النَّاسُ)، وتخيل لو أن مَن حوله ثبطوه وأثنوه عن عزمه، وحقَّروا له من شأن فكرته... أعتقد أن النتائج التي حدثت ما كان لها أن تحدث!

إن الفكرة مع صاحبها تكون محل دراسة، وتحتاج مَن يدعُم أو يُوجه أو يُصوِّب، لا مَن يقتل الأفكار الوليدة التي بعد حين تكون أفكارًا عظيمة؛ فأي اختراع بدأ صغيرًا، ثم هو قد صار الآن عملاً عملاقًا عظيمًا يقبل التطور ويُحدث تغيرًا.

وانظر كيف بدأت فكرة الطيران برجل يضع جناحين كالطائر، ثم الآن ترى طائرة أسرع من الصوت، وأخرى بدون طيار تتحرك بأجهزة التحكم من الأرض، ونظرة بسيطة لكل ما نراه اليوم من أجهزة وتقنيات وكيف بدأت فكرتها كحبةٍ ثم صارت شجرة؛ فلو أنها صادفت مَن يقتلها لما تمتعنا بها اليوم، وباتت هي وأقرانها في القبور.

ونظرة خاطفة إلى الرعيل الأول لنسمع الحباب بن المنذر -رضي الله عنه- في بدر، وهو يعرض فكرته بعد أن رأى أن المكان الذي نزل به النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس هو بالمنزل المناسب، فيتأدب أولاً مع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ليعرف هل هو وحي أم رأي؟ فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلا يَشْرَبُونَ"، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأيه.

ولم نسمع أحدًا قال للحباب: كيف تقول فكرة بعد رأي النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ ولم نسمع تحقيرًا للفكرة، ولا إجهاضًا لها، بل رأينا تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنصافه، وقبوله للرأي الأفضل، بل والتحرك به، وترك فكرته هو لفكرة الصحابي.

هل رأينا قائدًا يسمع لأفكار أتباعه؟!

هل رأينا قائدًا يعترف بحسن فكرة قدمها أحد جنوده، بل وحولها إلى عمل؟!

أشعر أن هناك حساسية بين القادة وبين الأفكار التي لا تأتي عن طريقهم، ولابد للقادة من التجرد والنظر في الأفكار المطروحة، ودراستها ووضعها محل الانتفاع، وليس شرطًا أن تُطبق الفكرة في حينها، بل ربما يرى القائد أن موعدها ليس الآن، وهذا لا بأس به، فتقدير القائد مطلوب.

أما أن تدفن الأفكار في حينها، ثم تخرج بعد فترة باسم القائد لا باسم صاحبها، فهذه إضافة جديدة "سرقة" فالأفكار كالبشر معرضة للخطر؛ إما تُقتل أو تُدفن أو تُسرق أو تُسجن... وإلى الله المشتكى.

ونظرة أخرى إلى الرعيل الأول، حيث يتتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- تحرك اليهود في المدينة وسفرهم إلى مكة؛ لتأليب غطفان وقريش على المسلمين ويدرك أنها الحرب، فيجتمع بأصحابه ليسمع أفكارهم وآراءهم، وبعد حوار يأتي سلمان -رضي الله عنه- بفكرته الجديدة، فقال: إنا إذا كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين، ولم نسمع مَن يقول إنها لم تُجرب في بلادنا؟ ولا مَن يقول إنها مرهقة ومكلفه، ولا من يقول هل تضمن لها النجاح؟! ولا من يقول ليس لدينا وقت، ولا سمعنا من يحقر من شأنها ويقول هذه مجرد فكرة فارسية لا تصلح هنا في جزيرة العرب.

بل وجدنا الجدية، ودراسة الموضوع، رغم أنه شاق، لكنه سيكون سببًا للنصر -بإذن الله-، ويتبنى المسلمون كلهم الفكرة، ويُقسّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أعمال الحفر بين الصحابة، ففوض كل أربعين ذراعًا لعشرة من الصحابة، ووكل بكل جانب جماعة يحفرونه، وظل هو -صلى الله عليه وسلم- يتابع العمل كله، بل ويشارك في تطبيق الفكرة، وقد كانت فكرة جديدة صدمت قريش وغطفان؛ إذ تحرك الصحابة بسرعة وسرية لأداء المهمة، فغيَّر الخندق خُطط العدو، وتحطمت أمام الخندق آمال وأحلام عشرة آلاف مقاتل من قريش وغطفان.

ونظرة أخيرة إلى الرعيل الأول، إلى نهاوند، إلى أفكار النعمان بن مُقَرِّن الذي وجهَه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لملاقاة 150 ألف مقاتل من الفرس في نهاوند، فلما أقبل النعمان وأرسل طلائعه نحو معسكر الفرس وجدوا أن الخيول توقفت، فنزلوا عنها فوجدوا الأرض قد مُلِئَت بحَسَكِ الحديد -مسامير- فكانت فكرة النعمان أن تُظهر الطلائع هزيمتها، وأن تُوقد النار وتجلس قريبًا من معسكر الفرس، فلما اطلع الفرس عليهم أرسلوا رجالهم ليكنسوا الحسك ويهجموا على المسلمين، ولما فعلو ذلك وجدوا جيش المسلمين يرتد إليهم وكانت الهزيمة لهم والنصر للمسلمين.

فلا تدفنوا أفكاركم، ولا تقتلوا أفكار غيركم، ولكن قيدوا الأفكار ودونوها، وتعاونوا على تحقيقها وتنميتها، أو إنشاء بنك الأفكار أو مؤسسة لجمع الأفكار ودعمها حتى تكون واقعًا يخرج من الرؤوس إلى الواقع الملموس؛ لعل الله أن ينفع الأمة بفكرة من أفكارك، يرفعك الله بأجرها أعظم الدرجات.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً

ممنوع الاقتراب!
193 ١١ أكتوبر ٢٠٢٢
أحبك يا رب
128 ٢١ فبراير ٢٠٢٢
هل لك منارة؟
203 ١١ ديسمبر ٢٠٢١
اضبط البوصلة
252 ٣٠ نوفمبر ٢٠٢١
صناعة النموذج
214 ٠٦ نوفمبر ٢٠٢١
اترك أثرًا (4)
123 ٠٢ نوفمبر ٢٠٢١