الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

نظرية صدام الحضارات والمشاريع المنبثقة عنها (1)

والتي تمثل أهم الأخطار التي تهدد العالم الإسلامي بصفة عامة ، والصحوة الإسلامية بصفة خاصة

نظرية صدام الحضارات والمشاريع المنبثقة عنها (1)
عبد المنعم الشحات
الأحد ٢٣ فبراير ٢٠١٤ - ١٩:٠٨ م
4412

نظرية صدام الحضارات والمشاريع المنبثقة عنها (1)

مقدمات تاريخية

 

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فهذه دراسة مختصرة لنظرية صدام الحضارات التي يتبناها الغرب الآن ، وبيان لأهم المشاريع التي دشنها الغرب متأثراً بهذه النظرية ، والتي تمثل أهم الأخطار التي تهدد العالم الإسلامي بصفة عامة ، والصحوة الإسلامية بصفة خاصة .

ونتناول في هذا العدد المقدمات التاريخية منذ بعثة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى احتلت هذه النظرية موقعها في قيادة الفكر الغربى .

1 – معنى الحضارة

الحضارة، والثقافة، والهوية مصطلحات تطلق ويختلف العلماء في ما يعد منها أعم من الآخر، وغالباً ما يتم استعمالها جميعًا بمعنى واحد، وإن كان الأشهر في هذا أن يستعمل لفظ «الحضارة» على أنه أعم من غيره، ولا يعني به بطبيعة الحال المعنى اللغوي المباشر وهو «العيش في الحضر» ، وإنما يعنون به كل جوانب النشاط الإنساني العقلي والخلقي، وما قام به في شأن الدين والدنيا ... إلخ

وغالباً ما تنسب الحضارة إلى الأمم التي تركت أثرًا كبيرًا في تاريخ البشرية فيقال الحضارة اليونانية، الحضارة الرومانية، الحضارة الفارسية، والحضارة الإسلامية .

2- الحضارة الإسلامية

وبناء على التعريف السابق يمكن أن نقرر أن الحضارة الإسلامية تشمل من الناحية المنهجية جميع شرائع الإسلام، وتشمل من الناحية المادية جميع ما أبدعه المجتمع المسلم في علوم الدنيا وتطبيقاتها ويدخل في هذا الجانب المادي ما أنتجه المسلمون أو ما أنتجه أهل الذمة لأن هذا الإبداع المادي لا يتأتى إلا بجهود المجتمع كله (ومن باب أولى فلا بأس بأن يضم في حضارة المسلمين جهوداً علمية لأفراد مسلمين ولكنهم لم يكونوا على عقيدة أهل السنة).

ورغم أن المسلمين قدموا للدنيا خدمات جليلة في العلوم المادية، إلا أنه يبقى أن السمة الأكثر بروزاً في الحضارة الإسلامية أن «الإنسان» يحتل بؤرة الاهتمام بينما تأتي وسائل حياة الإنسان في مرتبة تالية بخلاف الحضارات التي توصف بأنها مادية حيث تأخذ وسائل الحياة جانبا أكبر من الاهتمام.

وحضارة الإسلام تنطلق من أساس عقلي يستعمل للدلالة على وجود الله، وعلى وجود الوحي ، وعلى أن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول من عند الله ، مرسل بالقرآن، وبالسنة شارحة له، ومنهما يبني المسلم تصورًا كاملاً عن نفسه من أين جاء ولماذا جاء وإلى أين المصير، وتصور عن الكون من حوله بدايته ونهايته، ويتبع تشريعاً يضع الإطار الذي يمكنه من حسن توظيف الكون لمصلحته، ويبين له الطريق لإدارة العلاقات الإنسانية بكل صورها سواء ما يتعلق منها بتكوين الأسرة، أو بالمعاملات المدنية أو الجنائية.

ثم إن حضارة الإسلام فيما يتعلق بوسائل الحياة من زراعة وصناعة وطب وهندسة حضارة منفتحة تترك الباب لكي تنقل وينقل عنها ولذلك نجح المسلمون في استخلاص علوم الأمم التي سبقتهم، ثم طوروها وذهبوا بها عدة قفزات للأمام وبذلوها لكل الأمم الأخرى وعنهم أخذت أوربا أساس نهضتها المعاصرة.

3- موقف الإسلام من الحضارات الأخرى

ومما سبق يتضح أن الحضارة الإسلامية ليست كلها على درجة واحدة من اللزوم وأن ما يتعلق منها بالمنهج يعتقد المسلمون فيه بطلان ما يخالف دين الإسلام «إن الدين عند الله الإسلام»، «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً».

ويجب على المسلمين أن ينشروا هنا المنهج وأن يدعوا جميع الأمم إليه وأن الوسيلة الرئيسية في ذلك هي الحوار «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».

وأما المخالفون منهم نوعان :

النوع الأول: رعايا الدولة الإسلامية وهؤلاء نظمت الشريعة الإسلامية أحكاما تضمن لهم الإقامة في دار الإسلام متى أرادوا دونما إكراه على الدخول فيه «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».

النوع الثاني: الدول التي ترفض ممثلة في نظام الحكم فيها الدخول في الإسلام وهؤلاء شرع الإسلام جهادهم ولكن اشترط له الحوار أولاً ، بالإضافة إلى أن الشريعة أجازت المعاهدات والصلح، وأوكلت هذا للقيادة السياسية للدولة المسلمة.

مما يعني أن الإسلام جاء بمبدأ الجهاد من أجل نشر الحق، كما جاء بآليات للتعايش مع دول غير مسلمة متى كانت المصلحة تقتضي هذا، والذي يهم الطرف الآخر هو وضوح الرؤية حول متى يمكن للمسلمين أن يحاربوا، ومن جهة أخرى للالتزام بالعهد متى عاهدوا وهذا حاصل في دين الإسلام.

3- الحضارة الغربية الحديثة

الحضارة الغربية الحديثة هي حضارة امتزجت فيها عدة حضارات هي:

الحضارة اليونانية القديمة، وهي حضارة اهتمت بالإنسان وبمحاولة الوصول إلى إجابة شافية عنه وعن الكون من حوله وعن معايير الإنسان الصالح والمجتمع الصالح (المدينة الفاضلة) وهي بهذا تلتقي مع الحضارة الإسلامية، وإن كانت تفارقها في أن نتاجها في ذلك كان نتاج بشري فلسفي، بينما حضارة المسلمين قائمة في هذا الجانب بالذات على «الوحي» .

الحضارة الرومانية، وهي حضارة مادية تعشق القوة، وتفرط في العصبية وتعتبر «اللذة» هي أسمى الأهداف، وبالتالي فحينما سيطرت على أوربا، بعد الحضارة اليونانية استعملت الفلسفة كأداة لتقرير هذه النظريات.

الحضارة الرومانية (في عصر النصرانية)، وهي مرحلة تم فيها التزاوج على يد (بولس) بين تعاليم عيسى عليه السلام وبين الحضارة الرومانية، والذي أسفر دينا جديداً كما اعترف بذلك «بندكت» البابا السابق للفاتيكان، وإن كان قد قال هذا في سياق الفخر.

الحضارة الرومانية (في عصر العالمانية) وكنتيجة الإدعاء الكنيسة أن ما أدخلته على دين عيسى عليه السلام  جاء بوحى من الروح القدس فقد أغراها هذا بتكرار هذا الادعاء في العلوم الدنيوية ، وهو ما قاد إلى صدام بين الدين والعلم والذي صاحبه مظاهر أخرى من الفساد الكنسي والذي أدى بدوره إلى انفجار تيار العالمانية أي فصل الدين عن الحياة، وقد قسمها أصحابها إلى ثلاثة أنماط:

الأول: ضد الدين (وهي أكثر انتشاراً في الدول الشرقية) وفي فرنسا من الدول الغربية.

الثاني: لا دينية وهي الأكثر انتشاراً في معظم أوربا.

الثالث: عالمانية تفصل الدين عن الحياة ولكنها تحترم الدين وهي الأكثر شيوعاً في الأوساط الأمريكية.

وغني عن الذكر أن كل هذه الأنواع لا تصلح للمسلمين ولا تتلقى مع الإسلام الذي يأمر أتباعه «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين» .

4- سيادة النمط الأمريكي

بعد اكتشاف كولومبس للقارة الأمريكية نزح الكثير من الأوربيين إلى القارة الجديدة وأسسوا مستعمرات كل منها تتبع الدولة الأم التي جاءوا منها، وظل الأمر كذلك حتى نشبت حرب بين المستعمرات الإنجليزية والمستعمرات الفرنسية انتهت بهيمنة الإنجليز على وسط القارة ، ثم تعارضت مصالح زعماء الأرض الجديدة مع سياسات انجلترا فخاضوا حرب استقلال ساعدتهم فيها فرنسا (ومن ثم اقترنت الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال الأمريكية، وكانت الحرية أحد أهم شعارات الحدثين لا سيما وأنهما كانا متزامنين، وتحررت كل الولايات الأمريكية والتي دشنت اتحاداً فيما بينها كان هشافي بدايته، وحاولت الولايات الجنوبية تكوين اتحاد خاص بها، فنشبت حرب الشمال والجنوب وأسفرت عن قيام دولة اتحادية ذات نظام رئاسي (خلاف لما كان سائداً من سيطرة البرلمانات في أوربا).

ودخلت أمريكا إلى الساحة الدولية برفق، وكانت هي من دعت إلى إنشاء عصبة الأمم في أواخر الحرب العالمية الأولى، ثم كانت هي من تزعمت تطويرها إلى «الأمم المتحدة» في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

وقد أسهمت الحرب العالمية الثانية في أن تكون أمريكا حامية أوربا الغربية والدولة الإسلامية التي كانت واقعة تحت احتلال أوربا الغربية قبل الحرب، فبينما أصبحت روسيا هي حامية أوربا الشرقية ، وحاولت التواجد في بعض البلاد الإسلامية ونجحت في ذلك إلى حد كبير.

 وتبني الإتحاد السوفيتي سياسات غاية في التطرف حيث اعتنقت الدولة الإلحاد، ومن ثم طبقت أكثر صور العالمانية تطرفاً كما طبقت أقصى درجات "الدولة  البوليسية" ، واعتنقت أكثر المذاهب الاقتصادية شمولية، مما جعلها تهوى في تعسينات القرن الماضي، وهو ما فتح شهية أمريكا لكي تنفرد بصدارة العالم وساعدها على ذلك عدة أمور:

أنها تبنت أكثر صور العالمانية تصالحاً مع الدين، مما جعلها تبدو عالمانية حتى أرادت ودينية إذا رغبت.

أنها عظمت الحريات الشخصية وحققت درجة جيدة من المساواة وتكافؤ الفرص في حين أبقت على ضوابط لا بأس بها (بالنسبة للغرب طبعا) لممارسة الحريات.

أنها تبنت المذهب الاقتصادي الحر مع الاهتمام بالعدالة الاجتماعية واعتباره أحد مهام الدولة مما جعلها تبدو اقتصاديا أكثر عدالة من كل من روسيا وأوربا.

وهي في ذلك تقترب بعض الشيء من الإسلام ولكن مع وجود فوارق جوهرية من أهمها أن العدالة الاجتماعية عندهم مرهونة بموارد الدولة ، ولا يحمل الأغنياء أي جزء منها حتى ولو عجزت موارد الدولة، وأن الضرائب التي يدفعها الأغنياء هي نظير خدمات تقدمها الدولة لهم، وليس لتمويل مصارف العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى أنها حافظت على مشروعية (الربا - الميسر) ولم تقترب منهما، وإن كانت قد عرفت تجارب ناضجة في مقاومة الاحتكار، و فى وضع ضوابط أخلاقية للإعلانات عن السلع وغيرها.

وثمة عوامل كثيرة أخرى جعلت المفكرين الأمريكان يحلمون بأن دولتهم لن تسقط كما سقط من قبلها إنجلترا وفرنسا، ومن قبلهم الدولة العثمانية والنمسا وأسبانيا، ومن قبلهم الفرس والروم وهكذا، فبدأوا يضعون النظريات التي تؤكد هذا المعنى، وإن لم يفتهم أن يقدموا النصائح اللازمة لكي يتحول هذا الحلم إلى حقيقة ومن هنا نشأة نظرية «صدام الحضارات» والتي تولد عنها مشاريع قدمتها المراكز البحثية لضمان حصول النتائج التي توقعوها (أو بالأحرى تمنوها) من هيمنة الحضارة الغربية في طبعتها الأمريكية ودوام  تلك الهيمنة إلى ما لا نهاية.

5- مختصر تاريخ الصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية

جاء الإسلام بدعوة عبر عنها ربعي بن عامر رضي الله عنه في حواره مع رستم قائد الفرس بقوله « إن الله إبتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة» وواجهه المسلمون الإمبراطورية الفارسية والتي سقطت  في عقر دارها فانتهى أمرها وتشتت شملها (عقوبة لملكهم الذي  مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمزق الله ملكه).

ولم يبق أمام الفرس إلا تكوين «حركات باطنية» ومنها الشيعة والصوفية الفلسفية ولهذا قصة أخرى ليس هذا مجالها، بينما أخذت المواجهة مع الروم  طابعا عسكريا محضا في بعض الأحيان وضمت إليه الطابع الفكري في أحيان أخرى وأنه في هذه الأحوال تمت الاستعانة بالحركات الباطنية و لو كانت ذات اصول شرقية للطعن في منهج الاسلام الصافى و الذي يمثل أهم دعائم «الحضارة الإسلامية»

ويطول بنا المقام لو أردنا أن نتتبع تاريخ الصراع بين المسلمين والروم ولكن يمكن إيجازه ، في أن المسلمين الأوائل قد استطاعوا هزيمة الروم في مصر والشام مما يعني إعادتهم إلى حدود وطنهم الأصلي وهذا بخلاف الفرس الذين سقطوا في عقر دار دولتهم، ومنذ الفتح الإسلامي لمصر وبدأت مراحل من الصراع لخصها الأستاذ محمود شاكر في رسالة الطريق إلى ثقافتنا في أربعة مراحل:

مرحلة غضب مكتوم ممزوج بخوف من الاقتراب من تخوم الإسلام.

مرحلة غضب متفجر مثمثلة فى الحروب الصليبية (ولعل مما ساهم فى إغرائها بغزو ديار الاسلام ثم فى نجاحها فى بادئ الأمر سيطرة الحركات الباطنية على سواحل الشام)

مرحلة غضب مكتوم وخوف أشد بعد انكسار الحملات الصليبية.

مرحلة فتح القسطنيطينية وهي التي دفعت الغرب إلى تعلم علوم المسلمين وإلى إرسال المستشرقين لأنهم شعروا أن وجودهم كأمة صار ممهداً ، وأيقنوا أن الحملات العسكرية لن تجدي نفعا، واعترفوا أنهم أمام حضارة فيها أسرار للقوة لابد من دراستها قبل المواجهة.

ونتج عن المرحلة الرابعة التي ذكرها الأستاذ محمود شاكر أن نقل الغرب كل ما يستطيع من حضارة المسلمين وشمل هذا العلوم التجريبية كما شمل الكثير من النواحي التشريعية (ما تماشى منها مع ماديتهم)، وصادف هذا اغتراراً بالنصر في الدولة العثمانية بالإضافة إلى عوامل ضعف كثيرة جدا ، أدت إلى انهيار الدولة العثمانية وتوزيع تركتها على الدول الأوربية.

6- انهيار الدولة العثمانية ولعبة التقسيم

مرت الدولة العثمانية بمراحل قوة ثم ضعف ثم انهيار وكانت مرحلة القوة هي المراحل التي واجهت تحديات النشأة وحماية بلاد الإسلام من خطر الصليبين ، وقطع آمالهم في العودة مرة أخرى ، وفي تأديب الصفويين وفي إيقاف التفاف البرتغاليين بحرياً حول العالم الإسلامي ثم توج ذلك بفتح القسطنطينية، ومعها بدأت مراحل الضعف والتي كان من أهم أسبابها:

زوال الدوافع التي كانت قاطرة مرحلة القوة.

ضعف العلم الشرعي في الدولة العثمانية وانتشار الطرق الصوفية.

اقدام الخلفاء بقتل أخوتهم لمنع النزاع على الخلافة و هو ظلم رأت الأمة عاقبته فى إدالة أعدائها عليها

جمود حركة العلوم التجريبية.

مناوئة الفرسان لتحديث الجيوش العثمانية بالأسلحة النارية (البارود، الديناميت) و التى كانت الفجوة فيها بين أوربا و الدولة العثمانية آخذة فى الاتساع

وثمة عامل أخرى غاية الأهمية، وهو تأثر الدولة العثمانية بالتيارات الفكرية الواردة من الغرب وأهمها لاعجاب بالنظام (دستوري) و التأثر بنمط "الدولة القومية"


 

7- الاتحاد والترقي من مطالب (الدستور) إلى إلغاء الخلافة

مع بداية دخول الصحافة إلى الدول العثمانية بدأت الصحف تنقل ما يدور من حركات إصلاح سياسي في أوربا منذ الثورة الفرنسية، ومنها الدعوة إلى الدولة القومية، كبديل للتوسع الإمبراطوري  الذي كان سبب فى عدة حروب داخلية فى أوربا ا، ولكن هذه الدعوى لم تلق القبول الكافي في بداية الأمر لأن الإمبراطورية العثمانية لم تكن تعاني مما تعاني منه الإمبراطوريات الأوربية التي لا يمكن لواحدة منها أن تتوسع إلا على حساب الأخرى بينما كانت كل بلاد المسلمين تشعر بوحدة حقيقة

بينما لقيت الدعوة إلى اقامة حكم دستورى  قبولا عاما  لدى عامة المصلحين من أتراك وعرب، ومن هنا نشأت جمعية الإتحاد والترقي ونادت بالحكم الدستوري ، ولكنها ضمت بين عناصرها دعاة للقومية التركية إلا أنهم تستروا بهذا الفكر فى بادئ الأمر و قد اتضح فيما بعد أن عددا غير قليل منهم على علاقة بالمخابرات الإنجليزية.

وقد استطاع هؤلاء أن يحققوا أحلامهم وصدر الدستور العثماني سنة 1908 وهى الخطوة التى اعتبرها معظم الإصلاحيين في العالم الإسلامي ذلك إنجازاً عظيماً.

ولكن الاتحاديين الذين وصلوا إلى البرلمان والوزارة وفق الدستور الجديد قاموا بأمرين كان لهما أكبر الأثر في انهيار الدولة العثمانية :

الأول: إظهار الدعوة إلى القومية التركية واحتقار العرب حتى المشاركين لهم في برلمان الخلافة ومنهم الشريف حسين الذين عين فيما بعد أميرا لمكة فقام بالدعوة إلى القومية العربية وحارب الدولة العثمانية جنبا إلى جنب مع الانجليز كرد فعل لدعاة القومية التركية

الثاني: أجبر الاتحاديون  السلطان على دخول الحرب العالمية الأولى بجوار ألمانيا رغم أنه كان يسعه الوقوف على الحياد وهو الموقف الذي أخذته الدولة العثمانية من الحروب الأوربية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، بل أن أمريكا رغم أنها جزء من العالم الغربي إلا أنها اختارت الحياد في الحرب العالمية الأولى ، وأختارته  كذلك في الحرب العالمية الثانية إلى أن اضطرتها اليابان على خوض الحرب.

وبعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا والدولة العثمانية استثمر الاتحاديون  مفاوضات الصلح مع الحلفاء لإعلان سقوط الخلافة و الاتفاق على  ترسيم حدود تركيا تاركين باقي الدولة ولايات الدولة العثمانية

و من جهة أخرى فقد كانت انجاترا و حلفاؤها قد وعدوا الشريف حسين باقامة دولة عربية كما كانوا قد اتفقوا على الحاق الدول العربية فى الشمال الافريق بالدول الاوربية

و فى سبيل ذلك اخترعت عصبة الأمم نظام الانتداب كمرحلة تأهيلية لاستقلال هذه الدول ففرضت على كل دولة وصاية من إحدى الدول ، و لما كانت معظم ولايات الدولة العثمانية واقعة تحت احتلال فعلى فقد تم  تغيير مسماه إلى انتداب كما في حالة مصر مع إنجلترا.

8- الثورة العربية ضد الدولة العثمانية

سوف يظل التاريخ يذكر هذه الثورة كنموذج للغفلة  المفرطة والثقة البلهاء في الأعداء مدفوعة بالكراهية المتبادلة بين بعض ابناء الأمة  ، وقد ذكرنا أن الشريف حسين كان في غاية الاستياء فترة وجوده في الأستانة من ازدراء الكمالية للعرب ولما عين شريفا لمكة (ويقال أن هذا التعيين جاء بضغوط من الكماليين على الخليفة مما يفتح بابا لتطبيق نظرية المؤامرة) أظهر عداء للخليفة العثماني والتقطه المخابرات الإنجليزية (أو قل أنها هى من أعدت  السيناريو مسبقاً) وأرسلت أحد رجالها ليتقرب منه ومن أبنه فيصل وهو رجل عرف فيما بعد بلقب "لورانس العرب" ، لأنه تعلم العربية وتربى بزي الأعراب فلم يكن يعرف حقيقة أمره إلا القليلون، وقد اقنع لورانس العرب الشريف حسين بأن إنجلترا عازمة حال خروجها من الحرب العالمية منتصرة أن تنصبه خليفة على الجزيرة العربية والعراق والشام لأنه مستحق للخلافة لكونه هاشمي وأن بريطانيا تريد مساعدته على استعادة حق سلبه العثمانيون الظلمة من البيت النبوى الشريف ،

و  هذا يعني تقسيم الدولة العثمانية إلى :

دولة تركية.

دولة عربية تشمل الجزء الأسيوي من العالم العربي.

توزيع الجزء الأفريقي من العالم العربي على الدول الأوربية لكي يلتحم بها.

و غالب الظن أن هذا القدر من التقسيم كان أقصى طموحات انجلترا آنذاك إلا أنها  وبعد ضغوط ورشاوى من يهود أوربا أصدرت وعد بلفور مما يعنى استقطاع فسلطين من الدولة العربية التى وعدوا بها الشريف حسين والذي أنزعج  فأرسل مستفسراً فأجابوه أنه لا يعني إلا حرية إقامة اليهود في فلسطين دون أن يكون لهم الدولة (فرقوا له بين مصطلح الدولة و الوطن و يمرة أخرى يبدو أن هذا كان هو سقف آمالهم إلا أن الكرم الحاتمى للشريف حسين قد اغراهم برفع سقف الآمال).

ويبدوا أن صدام المصالح بين إنجلترا وروسيا وفرنسا وسعة صدر الشريف حسين قد أغرى إنجلترا بأن تعيد النظر في التقسيم المزمع و فاتفقوا على أن تتقاسم بريطانيا وفرنسا بلاد الشام، لتتقلص الدولة العربية إلى الأردن والعراق، والحجاز (والتي انتزعتها الدولة السعودية لاحقا) كما كان الانجليز مسيطرين بالفعل على معظم سواحل الخليج

 ونأخذ من هذا أن الحرص على تقطيع أوصال البلاد الإسلامية لا يقف عند حد وأن الذي يحكمه فقط هي حدود الممكن

و قد وقعت إنجلترا وفرنسا هذا الاتفاق بواسطة روسية بما عرف باتفاقية (سايكس- بيكو) نسبة إلى الرجلين اللذين عقداها

9-  قيام إسرائيل أولى نماذج الفوضى الخلاقة:

ظهر مصطلح الفوضى الخلاقة على لسان "كونداليزا رايس" حال كونها وزيرة لخارجية أمريكا، ولكن ظهوره من الناحية العملية كان أسبق من هذا بكثير فقد طبق في إنشاء دولة إسرائيل وخلاصة الأمر أنه بنهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وقيام عصبة الأمم واختراعها لما عرف "بالانتداب" ووقوع فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي (تمهيداً لتنفيذ وعد بلفور) و التى تلخصت سياساتها في النقاط الآتية:

السماح بهجرة اليهود إلى فلسطين بأعداد كبيرة.

تمليك الكثير من الأراضي لليهود.

تسهيل عملية وصول السلاح لليهود.

منع وصول السلاح للعرب.

غض الطرف عن أي صراع يكون الغلبة فيه لليهود بما في ذلك عمليات التهجير القسري وحرمة المزارع ومثل الماشية، والتدخل السريع في أي نزاع تكون الغلبة فيه للعرب.

وفي النهاية جاء مسلسل " الفوضى الخلافة" بإعلان إنجلترا وبصورة مفاجئة (للعرب طبعاً) إنهاء الانتداب البريطاني عن فلسطين ، لتتحرك العصابات اليهودية التي كانت قد أعدت عدتها وأعلنت قيام دولة إسرائيل.

ورد عليها العرب بإعلان حرب 1948 والتي تعرض العرب فيها للخداع عدد مرات من قبل " الأمم المتحدة" وريث (عصبة الأمم) أو صدرت قرارات بهدنة أو إيقاف إطلاق نار احترمها العرب في حين استثمرتها إسرائيل في تحسين مواقعها العسكرية حتى استقر وجودها.

10- الحرب الباردة :

بانتهاء الحرب العالمية الثانية وجد في العالم قطبان رئيسان الولايات المتحدة الأمريكية غرباً والإتحاد السوفيتي شرقاً، وكل منها قد خاض الحرب العالمية الثانية بشيء من التحفظ مما ساهم في خروجهم من الحرب أقوى دولتين ، وهو ما أسهم في أن تدير الدولتان أمورهما بشيء من التعقل و كلما وصلت الأزمات بينهما إلى حافة الهاوية سارعا إلى مفاوضات تبعدها عن حافة الهاوية و لو بخطوات، وما زال الأمر كذلك حتى انهار الإتحاد السوفيتي كما أسلفنا ووجد ما عرف باسم "النظام العالمي الجديد".

وهي ما فتح المجال أمام محاولات الحفاظ على الهيمنة الأمريكية والتي دشن أساسها الفلسفي من خلال نظرية « صدام الحضارات» وهو ما سنتناوله فى المرة القادمة إن شاء الله

 www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي