الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

العلاقة بيْن الدين والدولة في الدولة المصرية الحديثة (1)

وإذا أخذنا في الاعتبار أن الإسلاميين الذين وصلوا بالفعل إلى الحكم لم يستطيعوا أن يتجاوزوا قضية

العلاقة بيْن الدين والدولة في الدولة المصرية الحديثة (1)
عبد المنعم الشحات
السبت ٢٤ مايو ٢٠١٤ - ٢٣:٤٤ م
3714

العلاقة بيْن الدين والدولة في الدولة المصرية الحديثة (1)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد سبق لنا في سلسلة مناهج الإصلاح أن بيَّنـَّا أنه لابد لكل حركة إصلاحية مِن أمرين:

الأول: نموذج الصلاح الذي تسعى إلى إيجاده.

الثاني: المعرفة الدقيقة بالواقع، ومدى انحرافه عن حال الصلاح المنشود.

ومِن خلال هذين الأمرين ينتج المنهج الإصلاحي الذي ينبغي أن تسير عليه.

ويجب أن نراجع أنفسنا دائمًا فيما يتعلق بكل مِن هذين الجانبين، ولن نطيل الكلام هنا كثيرًا على الجانب الأول على اعتبار أن درجة إدراكنا له أحسن حالاً بكثير من الجانب الثاني؛ وهو ما نريد أن نتعرض له في هذا المقال فيما يتعلق بموقع الدين في مصر على مستوى الدستور والقانون والثقافة، ونعني بها: "الفكر والقيم والأخلاق السائدة في المجتمع".

ويمكننا أن نقول: إن الحركة الإسلامية تأثرت بخطاب أحد فصائلها، ولم تحاول أن ترسم الخريطة التفصيلية لكل قطر من أقطار العالم الإسلامي لتضع الحلول المناسبة له، وإنما غلب عليها خطاب سياسي أخذ أكثر نماذج الدول الإسلامية تطرفًا في تطبيق العلمانية، وهي "تركيا"، واجتهد بعد ذلك في محاولة إثبات أن كل الدول لا تختلف عن "تركيا" إلا في قشرة ظاهرية، وأن كل القادة لا يختلفون عن "أتاتورك" إلا بهذا المقدار الظاهري، وأخذوا يعممون هذا الوصف حتى على تلك الدول التي تطبق الشريعة على المستوى الدستوري والقانوني "وإن وجدت انحرافات على مستوى الفكر والثقافة".

ونستطيع أن نقول: إن الحركة الإسلامية كانت دائمًا ما تنظر إلى نصف الكوب الفارغ، والأدهى من ذلك أنها كانت دائمًا ما تقطع بأن نصف الكوب المليء ليس إلا خداعًا استراتيجيًّا من صاحبه للحركة الإسلامية، وأن كل حاكم هو "أتاتورك" وإن صلى وصام وأعطى الحرية للدعوة الإسلامية.

ومن أجل ذلك خسرت الحركة الإسلامية فرص تعاون كبيرة مع كثير مِن الحكام الذين يوجد بينهم وبين الحركة الإسلامية "أرضية مشتركة" لدرجة تصل أحيانًا إلى حد التطابق ولو مرحليًّا.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن الإسلاميين الذين وصلوا بالفعل إلى الحكم لم يستطيعوا أن يتجاوزوا قضية إبراز الجانب الدستوري والشعبي لتدين الدول التي حكموها كل بحسب ما يسمح به دستور بلاده؛ ومِن ثَمَّ تفاوت هذا الأمر تفاوتًا كبيرًا من بلد مثل "تركيا" إلى بلد مثل "تونس" إلى أخرى مثل "مصر" - علمنا مقدار التجاوز في تعميم وصف العلمانية على كل مَن لم ينتمِ إلى الحركة الإسلامية.

وغني عن الذكر أن التعاون مع أي أحد كائنًا مَن كان في أمر مِن الخير لا يلزم منه السكوت عن أي خطأ عنده، والقاعدة الشرعية في ذلك: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2).

وبالتأمل في دعوة مثل دعوة الإخوان المسلمين نجد أنها دارت حول فكرة إعادة تكوين الخلافة الإسلامية بدءًا من دولة محورية تمثِّل نواة لإعادة الخلافة، وكان الأستاذ "حسن البنا" يقارن بيْن السعودية ومصر، وبين الملك "عبد العزيز" ملك السعودية آنذاك، والملك "فؤاد" ملك مصر آنذاك؛ ومِن ثَمَّ أفرط في الثناء على الثاني بصورة أزعجت الحركة الوطنية التي كانت تحاول أن ترسِّخ صلاحيات للأحزاب في مواجهة القصر، وكذلك بالغ الإخوان في الثناء على الملك "فاروق" في بداية حكمه، وأقاموا مؤتمرهم الرابع في القصر احتفالاً بجلوسه على العرش!

إلا أن تغيرًا طرأ على فكر الأستاذ "حسن البنا" بأن هذه الدولة النواة لابد وأن يقيمها الإخوان أنفسهم؛ ومِن ثَمَّ تغير موقفهم من الحكام، ولم يقتصر التغير على بيان ما عند الحكام مِن أخطاء، أو بتطبيق القاعدة الشرعية: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) كما هو الواجب، بل تعدى الأمر إلى الحرص على توصيف الواقع الدستوري للدول والحكام بأنها كلها نسخة من "تركيا العلمانية"، وأنهم كلهم نسخ مِن "أتاتورك!".

وبقي أن نشير إلى أن أصحاب هذا الخطاب لديهم مرونة حركية كبيرة تجعلهم يتعاونون ويتحالفون أحيانًا مع كثير من هؤلاء "والوقائع كثيرة لا تُحصَى"، وهم مع تحالفهم هذا لا يغيرون من رؤيتهم لهم قدر شعرة "ويظهر ذلك جليًّا في أول خلاف!".

ويبقى "السلفي" الذي اعتمد على هذا الفصيل من الإسلاميين في توصيف الواقع السياسي المعاصر حائرًا مضطربًا؛ إذ إنه حين يصدق أن كلهم "أتاتورك" يلزمه حينئذٍ أن يكون في موقف البراءة التامة منهم، في حين أنه يجد أن مَن أخذ عنهم هذا التوصيف يتقلبون في مواقفهم مِن الحكام تقلبًا يخضع للمواقف الآنية، ولا يعبِّر عن موقف رفض إستراتيجي!

ومِن هنا كانت الحاجة إلى دراسة الموقف في بلادنا دراسة دقيقة محايدة لا تجمِّل الواقع، وفي ذات الوقت لا تلصِق به كل نقيصة لتجعل مِن المجتمع أو من الدولة شرًّا محضًا!

لقد عصم الله السلفيين بما تعلموه مِن قواعد أهل السنة والجماعة في باب الإيمان والكفر، وبما درسوه أن مِن خصائص أهل السنة: رحمة أهل البدع والمعاصي، وأنهم يجمعون بين معرفة الحق ورحمة الخلق؛ فعصمهم الله بذلك من الانزلاق في وصف مجتمعات المسلمين المعاصرة بأنها مجتمعات جاهلية أو التعالي عليها.

وفي ذات الوقت: لم تداهن "الدعوة السلفية" أو تقر باطلاً، وإنما تعاملتْ مع أخطاء الأفراد والمجتمع والدولة بالحكمة والموعظة الحسنة، رغم ما يبدو مِن اتساع الهوة بين نمط الالتزام الديني الذي تدعو إليه وبين نمط الالتزام الديني الشائع "فضلاً عن أنماط الانحراف"؛ إلا أن الدعوة حافظت -بفضل الله- على بقائها في قلب المجتمع المصري المسلم، وتفاوت موقفها من الدولة بحسب وجود فرصة الاشتراك في تحديد شكل الدولة سواء من الناحية الدستورية أو القانونية، أو هويتها الأخلاقية والفكرية والثقافية.

ويبقى لنا أن نعالج النظرية الموروثة، وهي: "أن كل الدول الإسلامية قد تحولت إلى دول علمانية بعد سقوط الخلافة، وأن كل حكام المسلمين من حينها ما هم إلا نسخة من أتاتورك!"، والغرض ليس الدفاع عن أحد، وبالطبع ليس الهجوم على أحد، وإنما الغرض أن نعرف الواقع مِن حيث هو واقع؛ لكي نتعامل معه بما يصلحه، وبحيث يجعلنا بالفعل عونًا للجميع أن يقتربوا من الله -عز وجل- أكثر، كما قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لابنه: "والله لقد وددتُ أن هؤلاء القوم أطاعوا ربهم، وأن جسمي قد قرض بالمقاريض".

العلاقة بيْن المجتمع والدستور والقانون بيْن المثال والواقع المصري:

وقبل أن نبدأ في وصف الواقع المصري، نود أن نشير إلى سبب مِن أهم أسباب الالتباس في واقع البلاد الإسلامية "ومنها مصر" بعد سقوط الخلافة الإسلامية، وهو أن نظامها لا يسير على القواعد الطبيعية حيث تتحول القيم الحاكمة للمجتمع إلى دستور؛ ومِن ثَمَّ تخرج المنظومة القانونية محققة لهذا الدستور، وأما في بلادنا فالمنظومة القانونية تخالف الدستور حيث يمنع الدستور منذ 1980م من مخالفة الشريعة "وإن شئنا الدقة: فإن التفسير الصحيح لدستور 1923م أنه يمنع من مخالفة الشريعة"، في حين أن القوانين المخالفة للشريعة كانت قد دشنت بالفعل قبل هذا التاريخ بمائة عام، كما أنك تجد انفصامًا كبيرًا بيْن مَن يسمون بالنخبة المثقفة وبين الثقافة السائدة في عموم الشعب.

والأمانة تقتضي وصف الواقع على ما هو عليه بكل تناقضاته، وإن كان ولابد مِن تحيز؛ فليكن للجانب الحسن، فمثلاً: إذا كان الدستور يمنع مخالفة الشريعة في حين يوجد عدد لا بأس به من القوانين المخالفة للشريعة فينبغي أن نقرر أن وضع هذه القوانين هو وضع مخالف لدين الغالبية العظمى مِن الشعب، ولثقافة الشعب ولدستوره؛ ومِن ثَمَّ فهي واجبة التغيير مع الاحتفاء بمنع الدستور من مخالفة الشريعة.

إلا أن البعض يرى أن التهوين مِن شأن الصواب والتركيز على الجوانب المخالفة قد يعطيه قوة مواجهة أكبر، وهذا فرع على الانحياز لخيار المواجهة ولشعور باطن بأن الإسلام لن يُنصَر إلا على يديه! وهي التصورات التي عطلت على الأمة الكثير مِن التقدم في اتجاه ترسيخ هويتها.

وبعبارة أخرى: نريد أن نرسِّخ نصف الكوب المليء، وأن نسعى بالحكمة والموعظة الحسنة لملء النصف الآخر بدلاً من سياسة إفراغ الكوب لإعادة ملئه، فضلاً عن محاولة كسره!

ومِن الجدير بالذكر: أن الأستاذ "حسن البنا" -رحمه الله- كان يؤصِّل لهذا الفرق بين الدستور الذي قرر أنه غير مخالف للشريعة وبين القانون الذي يخالفها، مع الأخذ في الاعتبار أنه قرر هذا الكلام في ظل دستور 1923م، والذي تطور إلى الأحسن في دستور 1971م، ثم في تعديل 1980م، و في دستوري: 2012م و 2014م.

الأطوار التي مرت بها الدولة المصرية الحديثة:

مصر تمثِّل إقليمًا ذا طبيعة جغرافية وتركيبة سكانية خاصة منذ آلاف السنين؛ مما جعلها رغم تعاقب الأنظمة السياسية التي حكمتها والإمبراطوريات التي كانت مصر جزءًا منها دولة ذات وضع خاص، وتكاد تكون حدودها ثابتة على مر التاريخ حتى في الفترات التي انصهرت فيها ضمن إمبراطوريات أخرى، ومنها بالطبع وجودها في قلب الدول الإسلامية المتعاقبة، ومِن آخرها: "الخلافة العثمانية" التي لعبت مصر دورًا محوريًّا في فترات ازدهارها، وكان في استقلال مصر عنها أثر كبير في إضعافها.

ويؤرخ الكثيرون لوجود درجة من درجات استقلال مصر عن الدولة العثمانية بالحملة الفرنسية على مصر "1789 - 1801م"، وهي وإن كانت ذات تأثير على وضع مصر في الدولة العثمانية، إلا أننا لا نستطيع أن نؤرخ به؛ لأنه كان حدثًا على غير إرادة المصريين كشعب، وعلى غير إرادة الدولة العثمانية وولاتها في مصر؛ ومِن ثَمَّ قاومها الجميع.

ولكن الأولى أن نعتبر فترة حكم "محمد علي" لمصر هي بالفعل الفترة التي دشنت لاستقلال مصر عن الدولة العثمانية، وإن لم يكن هذا مقصودًا لـ"محمد علي".

1- فترة حكم "محمد علي" مِن "1805 - 1848م":

ويجب مِن باب الإنصاف "أو مِن باب معرفة الواقع على ما هو عليه"، أن نفرِّق بين الآثار التي ترتبت على وجود دولة "محمد علي" وبيْن المشروع الذي كان يحمله، ومِن العسير أن تجد دلائل على ما يذهب إليه كثير من مؤرخي الحركة الإسلامية بأن "محمد علي" كان يحمل مشروعًا تغريبيًّا رغم أن حركة التغريب قد بدأت في عصره.

ولكننا نميل أكثر إلى أن "محمد علي" كان يحمل مشروعًا عثمانيًّا، وأنه عندما وجد أن الدولة العثمانية في الأستانة تنتقل مِن ضعف إلى ضعف؛ طمح -أو بالأحرى طمع- إلى أن ينقل مركز الخلافة إلى مصر.

ومِن أجل ذلك سعى لتكوين جيش قوى في مصر، وكان يفضِّل أن يعتمد فيه على المماليك والأتراك، إلا أن الظروف اضطرته إلى أن يشكل جيشه مِن المصريين.

لقد استطاع "محمد علي" بالاعتماد على المصريين في تكوين جيشه أن يتفادى السبب الرئيسي في ضعف الدولة العثمانية عسكريًّا، وهو رفض فرسانها للتدريب على الأسلحة الحديثة لركونهم لما اعتادوا عليه من الفروسية، وتماشيًا مع روح العصر أرسل "محمد علي" الإرساليات إلى أوروبا.

ويلاحَظ أنه أرسل المبعوثين ليتعلموا العلوم التقنية، وليست العلوم الإنسانية؛ مما ينفي عنه تهمة القصد إلى التغريب وإن كان لم ينزعج منه، ولم يتخذ التدابير الكافية لمنع تسلل التغريب إلى قلوب وعقول مَن يرسلهم؛ فاكتفى في كبرى بعثاته بإرسال واعظ أزهري مع البعثة "الشيخ رفاعة الطهطاوي"، فأوتيت تلك البعثة مِن خلال هذا الواعظ.

ويمكن أن نلخِّص ملامح موقع الدين في دولة "محمد علي" مِن خلال محاور ثلاثة: "الدستور - القانون - الفكر والثقافة".

أ‌- الدستور:

لم يكن في عهد "محمد علي" دستورًا مكتوبًا، ولكن يمكننا أن نقول: إن العقد الاجتماعي بين الوالي والشعب في ذلك الوقت كان على ما هو عليه مِن أن الوالي يكتسب شرعيته بصفة أساسية من كونه ممثلاً للخلافة الإسلامية في حكم إقليم مصر.

ب‌- القانون:

كان العمل في مصر كما هو في غيرها من الولايات العثمانية بالقضاء الشرعي.

ج - الفكر والثقافة والأخلاق "ونتعرض له على ثلاثة مسارات":

أولاً: الطبقة الحاكمة:

يعتبر "محمد علي" ذاته نموذجًا لشخصية "الحاكم المدير" الذي يَعنَى بإدارة الدولة أكثر مما يعنى بهويتها أو أيديولوجيتها؛ وهذا لا يعني الحياد التام، فإنه في غاية الندرة في البشر، ولكن نعني أن يكون الجزء الأكبر من اهتمامات الحاكم -والذي غالبًا ما يصبغ أجهزة الدولة بصبغته حتى بعد عصر الدساتير المؤسسية- موجهًا إلى الإدارة.

وهذا النوع من الحكام هو الأكثر رواجًا في مصر منذ هذا التاريخ، مع وجود ميل لدى بعض الحكام إلى لون فكري أو نمط ثقافي، وغالبًا ما يتشكل هذا التوجه من حالة الثقافة السائدة في النخبة والحالة الثقافية الشعبية، كما يتأثر بصورة أو بأخرى بالعلاقات الخارجية.

 ثانيًا: النخبة المثقفة:

كانت الحملة الفرنسية قد خلَّفت وراءها أقوامًا من المثقفين قد أصابتهم الهزيمة النفسية وشعروا بالدونية أمام ما شاهدوه من تقدم الفرنسيين، ويا ليت همتهم قد تحركت لنقل ما عند الفرنسيين مِن تقدم تقني، ولكنهم عموا عن هذا أو تعاموا! وانصرفوا عنه إلى الترويج لمناهج الحياة الغربية؛ وقد بدا هذا التيار الاستغرابي غريبًا منبوذًا من عامة الشعب.

وإذا كان تيار التغريب "الصريح" قد عانى عزلة شعبية، فإن تيار الانبهار بالغرب مع قدر مِن التحفظ الأخلاقي "والذي مثـَّله رفاعة الطهطاوي" يبدو أنه مر دونما ممانعة شعبية؛ لا سيما أن علماء الأزهر كانوا حيال هذا التيار بين راضٍ أو عاجزٍ عن المواجهة، أو منشغل عنها.

ثالثًا: الجمهور:

اتسمت الحالة الفكرية والثقافية في هذه الحقبة بالخمول والانفصال التام بين الجمهور والنخبة بكل توجهاتها؛ سواء دعاة التغريب أو معارضيه، مع شيوع نمط مِن التدين مغرق في البدع والخرافة، بعيد عن تشكيل النمط السلوكي والأخلاقي للفرد.

وكانت "الدعوة الوهابية" قد بذلت جهودًا في مقاومة هذا النمط مِن التدين الذي كان شائعًا أيضًا في شبه الجزيرة العربية، وتجاوب معها بعض مصلحي مصر: "كالجبرتي، والزبيدي"، إلا أن "الدولة العثمانية" قد رأت في ازدياد نفوذ الدعوة الوهابية خطرًا عليها، وأنابت "محمد علي" في حربها؛ مما أخر تأثيرها الحقيقي في مصر إلى بداية القرن العشرين على يد "محمد رشيد رضا".

فائدة: "القائد المدير والعوامل المؤثرة في توجهاته الفكرية":

ذكرنا أن "محمد علي" دشَّن لنموذج الحاكم المعني بتدبير شئون الدولة أكثر مِن اهتمامه بتوجهها الفكري، وأن هذا النوع من القادة غالبًا ما لا يفرض توجهه الفكري بقدر ما تكون توجهاته نتيجة لمحصلة توازنات القوى الفكرية.

ومن هنا تظهر أهمية مساندة مَن يوجد لديه توجه نحو الحفاظ على هوية الدولة من هؤلاء، وإلا شكَّلت التيارات الفكرية الأخرى وسطًا فكريًّا سيبدو بصورة كما وكانت مجمعًا عليها، وربما حدثت مؤثرات خارجية، وقد حدث أن جاء الخديوي "عباس حلمي الثاني" وكانت توجهاته مناهضة للاحتلال الإنجليزي وللثقافة الوافدة؛ حتى إن "كرومر" كتب عنه في بداية حكمه: "إن "مبادئ الثورة العرابية عادت مرة أخرى، ولكن عن طريق الخديوي"، ولكن القوى الوطنية فشلت في مساندته حتى رضخ للإنجليز في نهاية أمره، ومع هذا أجبره الإنجليز على التخلي عن الحكم.

فائدة: "رفاعة الطهطاوي كنموذج لأسلوب تقييم مَن جمع بين حق وباطل":

مِن الحقائق التاريخية التي لا تخطئها العين أن "رفاعة الطهطاوي" قد فتح باب التغريب على مصراعيه بانبهاره بتقدم الغرب، والذي امتد إلى الإعجاب التام بنظم إدارتهم وسياستهم؛ مما أضعف السياسة الشرعية رغم تقدمها على سياسة الغرب أمام أعين الأجيال الجديدة، لا سيما وأن الطهطاوي قد ظهر وسط حالة جمود فكري؛ فلم ينتبه -أو لم يستطع- علماء الأزهر آنذاك أن يواجهوه، وإن بدا من مذكراته أنهم لم يكونوا مرتاحين بشكل كبير لأطروحاته.

وتأتي المشكلة الأكبر لدى "الطهطاوي" أنه حكى عادات الغرب الأخلاقية بطريقة محايدة أحيانًا، وربما حاول تبريرها في أحيان أخرى، ولكن هل يكفي هذا أن نصفه بأنه دعا إلى العلمانية؟

يجب قبل أن نقرر هذا أن نقف عند نصائحه المباشرة للمسلمين؛ فقد طالبهم بأن يتمسكوا بأخلاقهم، مِن الحجاب والعفة، وغيرها من الأخلاق الإسلامية (يُراجَع كتاب: "رفاعة الطهطاوي بيْن العلمانية والإسلام").

2- الفترة من نهاية حكم "محمد علي" إلى الاحتلال الإنجليزي 1882م:

أولاً: الحالة السياسية والفكرية العامة "الفكر والثقافة":

لم تتغير الحالة الفكرية والثقافية كثيرًا عن تلك التي كانت سائدة في عصر "محمد علي"، ولكن تفاوتت أحوال الولاة بعده على النحو الآتي:

لم يطرأ على كل مِن "إبراهيم باشا"، و"عباس الأول"، و"محمد سعيد" تطورات تُذكَر في هذا الجانب، وإن كان كل منهم كان أضعف مِن سلفه في الجوانب الإدارية.

وبدأ الميل إلى الثقافة الأوروبية يظهر بوضوح لدى "إسماعيل باشا" الذي حصل على درجة استقلالية أعلى عن الدولة العثمانية، وفى الوقت نفسه أكثر مِن الاستدانة مِن الغرب والتبذير في الإنفاق؛ ومن ذلك أنه زاد من الضريبة المدفوعة للسلطان العثماني مقابل الحصول على لقب "الخديوي"؛ ونتيجة لديونه تدخلت الدول الأوروبية كثيرًا في الشأن المصري، وعندما أبدى امتعاضه من هذا الوضع أجبروه على تسليم الحكم لابنه "توفيق" الذي شهد عصره تطلع المصريين إلى تطبيق نظام حكم نيابي.

وقامت الثورة العرابية وتجاوب مع مطالبها في أول الأمر؛ إلا أن إنجلترا وفرنسا قد تدخلتا لإيقاف هذه الإصلاحات رغم أنها تتماشى مع مناهجهم، وحرصوا على إذكاء الخلاف بين "الخديوي توفيق" وقادة الحركة العرابية؛ ليجبروا "توفيق" على القبول بتدخلهم، وقد حدث وقامت إنجلترا باحتلال مصر عام 1882م تحت دعوى أنها جاءت بطلب من "الخديوي توفيق" لدحر الحركة العرابية.

ثانيًا: الدستور:

رغم أن هذه الفترة قد شهدت ميلاد أول وثيقة لتنظيم العمل النيابي التي يعدها البعض بمثابة أول دستور للبلاد "والبعض يرى أن بعض الوثائق التي صدرت في عهد محمد علي أولى بهذا الوصف"، ولكن كل هذه الوثائق لم تتعرض لأساس قيام الدولة، والأساس الذي يتولى الحاكم بناءً عليه "وهو أن مصر جزء من الخلافة العثمانية".

ثالثًا: القانون:

في هذه الفترة وقعتِ الدولة العثمانية ككل "والدولة المصرية بالتبع" في أدنى وهداتها حيث شهدت تلك الفترة "الامتيازات الأجنبية" التي أدت في النهاية إلى تحكيم القوانين الوضعية على الرغم من بقاء الأساس الدستوري الذي قامت عليه البلاد على ما هو عليه من اعتبار الدولة العثمانية خلافة إسلامية، واعتبار مصر إحدى ولاياتها؛ ولكن للأسف كانت الدولة العثمانية الأم أسبق في تقديم التنازلات للدول الأوروبية في جانب القوانين، ومن خلال تبعية مصر للدولة العثمانية عرفت مصر الامتيازات الأجنبية، ثم أنشأت المحاكم القنصلية التي تتبع قنصليات الدول الأجنبية للنظر في المنازعات بين المصريين ورعايا تلك الدول الأجنبية؛ حيث يُقضَى في تلك المنازعات بما تراه هذه المحاكم لا بمقتضى الشريعة الإسلامية.

وفي عهد "الخديوي إسماعيل" حُوِّلت المحاكم القنصلية إلى محاكم مختلطة تابعة للدولة المصرية يلتزم الجميع "أجانب ومصريون" بالوقوف أمامها، ولكن قوانينها كانت مأخوذة من القانون الفرنسي، وكان ذلك بمشورة "نوبار باشا" للتخلص من المحاكم القنصلية، وبعد دخول الإنجليز مصر أنشأت المحاكم الأهلية بجوار المحاكم المختلطة ليتحاكم إليها المصريون أنفسهم في منازعاتهم الداخلية، وقوانينها أيضًا مأخوذة من القانون الفرنسي "وذلك في نوفمبر 1883م"، وهي كما ترى محاكم غير شرعية؛ إذ لا تلتزم بالشريعة الإسلامية، وسميت "بالأهلية" أي "محاكم وطنية غير أجنبية".

فكان إنشاء هذه المحاكم تعميمًا لتحكيم القوانين الوضعية في مصر "هذا وقد أُلغيت المحاكم المختلطة بعد ذلك عام 1949م، وألغي القضاء الشرعي المتعلق بأحكام الأحوال الشخصية، وأدمجت في دوائر تابعة للمحاكم الأهلية القائمة على القانون الوضعي في عام 1955م"، وبهذه الخطوة حصل الانحراف الأكبر في تاريخ مصر المعاصِر، وهو فرض القوانين الوضعية وتنحية الشريعة الإسلامية.

رغم مخالفة ذلك لأمرين هامين:

الأول: الاعتقاد الديني والإرادة الحقيقية للغالبية العظمى من الشعب المصري.

الثاني: العقد الاجتماعي الإسلامي المنشأ للدولة سواء الدولة العثمانية أو الولاية المصرية.

فائدة: "التدخل الأجنبي لمساندة الشريعة... مفتاح الاحتلال":

القبول بالتدخل الأجنبي في بلاد المسلمين تحت دعوى مساندة حاكم شرعي هو بعينه خطأ "الخديوي توفيق"، وهو الذي أبقى مصر تحت الاحتلال البريطاني نحوًا من 75 سنة، ومَن يفكر فيه مجرد تفكير؛ فهذا ينم عن جهل بالتاريخ والواقع "وجهل بالشرع قبل كل ذلك"، وعدم المعرفة بقواعد الشريعة.

الاحتلال الإنجليزي ونقطة التحول في الصراع على الهوية الإسلامية لـ"مصر":

كانت الأمور كما ترى تسير مِن سيئ إلى أسوأ من حيث الجملة، ومَن يقارن الحال الثقافي والدستوري والقانوني لمصر في عصرنا يجد أنه أفضل على كل هذه الأصعدة من الحال في بدايات الاحتلال الإنجليزي؛ فمتى بدأ المنحنى في التحسن؟!

وما هي نقطة التحول في اتجاه هذا المنحنى؟!

وبالطبع نحن لا نتعامل مع دالة رياضية نستطيع أن نحدد نقاط تحولها بدقة، وإنما نحن نتعامل مع مجتمع بشري، ولكننا نستطيع أن نقرر أن: "لحظة دخول الاحتلال الإنجليزي مصر هي نهاية السقوط وبداية الصعود".

نعم، جاء الإنجليز وجاءت معهم صحف وأغدقت أموال، وأسست أحزاب دعت بشكل سافر للتبعية الفكرية للغرب، ولكن هذه الدعوات الصريحة أوجدت دعوات مناوئة أكثر صراحة، بخلاف حالة تسلل الغزو الفكري الذي نتج عن تجربة "رفاعة الطهطاوي".

بل ونتج عن هذا أن صار الشعب معنيًّا بهذه المعركة، وتقاسمت الأحزاب الرافضة للوجود الإنجليزي "الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، وحزب الوفد وجماعة الإخوان المسلمين" الجماهير فيما بينها "على تفصيل يأتي ذكره في المقالة المقبلة -بإذن الله-"، في حين عانت الأحزاب المهادِنة للإنجليز "مثل: حزب الأمة، وحزب الأحرار الدستوريين، وحزب السعديين" مِن العزلة الشعبية.

وإذا كانت إنجلترا قد استطاعت سلخ مصر عن الدولة العثمانية بإعلان الحماية عليها سنة 1914م، فإن الشعب المصري قد رد على هذا بثورة 1919م التي أجبرت إنجلترا على الاعتراف الشكلي على الأقل باستقلال مصر سنة 1922م، وتلاه صدور أول دستور للبلاد سنة 1923م ينص على أن: "دين الدولة الإسلام"، في الوقت الذي كانت فيه "تركيا" بلد الخلافة تتجه إلى العلمانية الغالية!

وأعجب مِن هذا أن مصر التي سلخت مِن الخلافة رغمًا عنها، وأصبحت مملكة مستقلة، كان أدباؤها وعلماؤها هم أكثر أهل الأرض بكاءً على إلغاء الخلافة سنة 1924م.

وعلى الصعيد القانوني جاءت إنجلترا إلى مصر، وقد فرغت مصر مِن تطبيق القانون الفرنسي بحذافيره، وفى ظل وجوده صدر الدستور المدني المصري وهو أحسن حالاً من سابقه، وإن ظل القانون الفرنسي هو مصدره الأول "ولهذا الأمر قصة سوف نتناولها في المرة المقبلة -إن شاء الله-".

إذن كانت هذه هي نقطة التحول تبعتها خطوات تحول على المستوى الدستوري بتقرير أن الإسلام هو دين الدولة، وتحول قانوني وإن كان في غاية البطء نحو التحرر من القانون الفرنسي في قانون 49، ثم في إلغاء البغاء بعد ثورة 52، وأما الثقافة فماجت أمواجها عاتية كموج البحر، وإن سارت في الجملة في اتجاه وعي الشعب وتمسكه بهويته.

وخلاصة ما نريد أن نقرره هنا "وما سنكمل حلقاته في المرة المقبلة -إن شاء الله-": أننا لا ينبغي لنا أن نتبرع -ولو مِن باب التحفيز- فنقر بأن مصر تخلت عن هويتها الإسلامية حينًا مِن الدهر، بل إن العرض السابق يوضح لنا بجلاء أن مصر -على الأقل- مِن الناحية الدستورية كانت دائمًا إما جزءًا من الخلافة الإسلامية، أو مملكة دينها الرسمي الإسلام، أو جمهورية دينها الرسمي الإسلام "دستور 56"؛ فضلا عن دساتير: 71 و 2012م و 2014م.

كما أنه لا ينبغي لدعاة التمسك بهذه الهوية أن ينكمشوا؛ فيتمدد غيرهم...

فما زال الشعب رغم الأخطاء التي اُرتكِبت "باسم الإسلام" حريصًا على هويته، متمسكًا بها.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل!

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي