الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (2)

وإذا كان هؤلاء يشغلوننا بنظرية "داروين" وغيرها مما هو إلى الأساطير أقرب منها إلى أن تكون حتى محاولة تفسير جادة؛ فلا أقل مِن

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (2)
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٣١ أكتوبر ٢٠١٤ - ٠٩:٢٦ ص
2706

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (2)

دلالة الوحي على إثبات الخالق

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد بيـَّنَّا في المقالة السابقة أن أدلة وجود الله -عز وجل- متنوعة، ومنها ما يرجع إلى النقل، وعلى الرغم مِن إنكار الملاحدة للوحي فقد قدَّمنا أن الوحي يصلح حجة على منكره.

وذلك من جهتين:

الأولى: أن استعمال الحجج العقلية الواردة في القرآن لا يختص بالمؤمن به فقط، وفي قضيتنا هذه عندما تتلو على ملحد قوله -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)، فأنت في واقع الأمر تستعمل تلك الحجة العقلية في المناقشة بغض النظر عن المصدر الذي أخذتَ منه هذه الحجة، نعم سيكون هناك أثر يتجاوز إقامة حجة عقلية مجردة حال الاقتناع، بل غالبًا ما سيمثـِّل اشتمال الوحي على مثل هذه الحجج العقلية الملزمة شاهدًا لدى المتلقي على صدق ذلك الوحي.

الثاني: أننا في كل قضية أثبتها الوحي يمكننا أن نُلزِم الخصمَ بسماع الدعوى والبرهان العقليين بخصوص صدق الوحي على اعتبار أنه متى ثبتت صحة الوحي (عقلاً) لزم (عقلاً) ثبوت كل ما في هذا الوحي.

ووفق هذه الطريقة الثانية يمكن أن تتصدر موضوعات، مثل: "دلائل النبوة، وإعجاز القرآن بكل صوره البلاغية والتشريعية، ودلائل عظمته... " مناقشتَنا مع الملاحدة شاءوا أم أبوا.

وكما أسلفنا فإن مسألة إفحام الخصم لا ينبغي أن تكون هي الهدف الرئيسي مِن مثل هذه المناقشات، وإنما المطلوب هداية الحق بالفعل وتحصين مَن يتعرض للشبهات؛ فعلى طالب الحق أن يستجيب للحوار في أي برهان تعرضه، ومِن ثَمَّ فإن إقامة البرهان على صدق الوحي في كل ما جاء به هي أقصر طريق للإجابة عن كل التساؤلات التي تشغل بال الإنسان عن وجوده وعن مصيره.

وإذا كان هؤلاء يشغلوننا بنظرية "داروين" وغيرها مما هو إلى الأساطير أقرب منها إلى أن تكون حتى محاولة تفسير جادة؛ فلا أقل مِن أن ينصتوا -لو أرادوا الإنصاف- ويسمعوا للبرهان مهما بدا في نظرهم طويلاً أو غير مباشر.

خصوصيتان لقضية الوحي في الشريعة الإسلامية:

وقد سبق أن قدَّمنا خطورة التعامل في قضية الإلحاد على أننا نتحدث عن جميع الأديان (وربما توسع البعض فقال: "المؤمنون" يعني بوجود الله -عز وجل-! مع أنهم لا يستحقون وصف الإيمان الشرعي بمجرد الإقرار بالربوبية، بل لابد معه بالإقرار والتسليم بالألوهية، وبرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-).

ومصدر الخطر: أن هذه الأديان تتضمن أمورًا هي بذاتها أحد أسباب فتنة الإلحاد، ولكنَّ ثمة أمورًا يمكن أن يَشترك في الاستدلال بها على وجود الله -عز وجل- كل مَن يؤمن بوجوده، مثل: "الاستدلال بإتقان الخلق على وجود الخالق"، ولكن فيما يتعلق بقضية الوحي على وجه الخصوص لابد مِن الكلام على الإسلام "وفقط".

حيث يتميز دليل "الوحي" عند المسلمين بخاصيتين مهمتين:

الأولى: أنه لا يوجد مِن بيْن الكتب السماوية ما هو وحي خالص من عند الله لا يشوبه شائبة إلا القرآن، وأن الكتب التي بين أيدي أهل الكتاب اليوم لن تصمد أمام برهان أنها من عند الله؛ لما فيها من التناقض والاضطراب.

الثانية: وهي فرع على الأولى أن دعاة النصرانية اُضطروا أمام غموض عدد مِن قضايا العقيدة عندهم ومناقضتها للمعقول "وعلى رأسها: الصلب والفداء والتثليث" إلى استعمال سلاح التسليم الإيماني في الرد على أي تساؤل في هذه الأبواب؛ مما رسَّخ مفهوم "تعارض العقل والنقل" أو تعارض "العقل والوحي" حتى إن هذا المفهوم قد تسرب إلى الكثير مِن المنتسبين إلى الإسلام، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يرتدي ثوب الإيمان في حياته العامة ثم يرتدي ثوب الزندقة والإلحاد إذا خاض في مثل هذه الفلسفات البحث.

ولابد هاهنا من التأكيد على الأمور الآتية:

أ- مبدأ الإيمان بوجود الله ووحدانيته، وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن القرآن وحي مِن عند الله قضايا قام الدليل عليها مِن الفطرة والعقل، وقد أرشد القرآن إلى أحد أهم الاختبارات التي تُجرَى للكلام المنسوب إلى الله -عز وجل- ليُعلم: هل صحت نسبته أم لا؟ فقال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء:82)، فدعوة المسلم لغيره أن يعتقد أن هذا القرآن وحيٌ مِن عند الله ليست قائمة على مطالبة ذلك الغير بالتسليم تقليدا أو تبعًا لتسليم غيره، وإنما هي دعوة للتسليم لمقتضى العقل والفطرة.

ب- إن استناد بعض القضايا الإيمانية على دليل الفطرة ليس معناه أن مطالبة مَن تغيرت عنده هذه الفطرة بالرجوع إليها تعني إلزامه بنظر غيره؛ فإن إلزامه بما يجده كل الخلق في قلوبهم مِن الإقرار بوجود الله يُشبِه إلزام مَن أفسدته السفسطة أن يعود إلى اعتقاد أن الكل أكبر مِن الجزء وغيرها من البديهيات العقلية أو الفطرية -وهو ما سيتم مناقشته عند مناقشة دلالة الفطرة بإذن الله تعالى-.

ج- مما سبق نعلم أن الإسلام استَعمل في إثبات صحة مصادره أدلة فطرية وعقلية، وأن التسليم للوحي بعد ذلك يأتي كفرع على إثبات صحة الوحي، فإن العقل والفطرة أيضًا يلزمان بهذا التسليم، وهذا الأمر يختلف تمامًا عن دائرة التسليم المفرغة التي يدور فيها دعاة النصرانية ويستثمرها دعاة الإلحاد في الترويج لإلحادهم.

د- ولا يقتصر الأمر على أن التسليم للوحي يأتي في الإسلام فرعًا على إثبات صحة الوحي ذاته بأدلة فطرية أو عقلية، بل أيضًا ومِن باب: أن الأدلة الصحيحة في ذاتها لا يمكن أن تتعارض، فإن المسْلم يلتزم مِن حيث المبدأ أن الوحي (الثابت) والشرع (الصحيح) لا يمكن أن يأتي بما يعارض العقل ويطالبك بالتسليم له، وهي القضية التي خصص شيخ الإسلام لها جزءًا كبيرًا من حياته، وله فيها مؤلف كبير بعنوان: "درء تعارض العقل والنقل"، وهي قضية في غاية الأهمية فيما يتعلق بمعالجة موضوع الإلحاد؛ لأن دعوى احتواء الأديان على خرافات تناقض العقول تعتبر البوابة الكبرى التي يدخل منها الإلحاد، وهي قضية تنطبق على عامة كل هذه الأديان عدا الإسلام بفضل الله -تعالى-.

ولكن دعاة الإلحاد أو غيرهم يزعمون -أو يتوهمون- وجود ذات العيب في الإسلام لأسباب، منها:

1- التعميم: وهي الآفة الكبرى لمعظم مَن يدرس الإسلام كدين مِن الأديان فتراهم لا يلتفتون إلى خصوصيته العقدية والتشريعية؛ فيزعم بعضهم -مثلاً-: أن الأديان ما هي إلا علاقة خاصة بين العبد وبين ربه، وهي قاعدة قد تنطبق على "الدين النصراني" وفق التفسير الرائج له لا سيما بعد الثورة الفرنسية، في حين أنها لا تنطبق نهائيًّا على "الإسلام"، وكذلك هنا؛ فالبعض يتوهم أن الدين يطالبك بأن تحشو عقلك بأمور تخالفه، بل لا حرج عليك أن تصرِّح بأنها متناقضة ما دمتَ أعلنتَ أنك مؤمن بها! وهو أمر لا ينطبق إطلاقًا على دين الإسلام.

2- أن يُنسب إلى الدين ما ليس منه مِن الخرافات والأباطيل: وهو ما حدث مع الرسالات السابقة على بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وحدثت مع رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- مع فارق جوهري، وهو حفظ المصادر الأصلية للإسلام من الكتاب والسنة؛ مما سهل بيان الأصيل مِن الدخيل.

3- أن يستنكف بعض مَن يزعم الإيمان بالوحي عن إثبات قضية انفرد الوحي بإثباتها ولم يوجد عليها دلائل عقلية: فيكذب بها مدعيًا أنها من الأمور التي اختلف فيها الوحي والعقل، وتكون الصورة أن صاحب هذا الادعاء مضطرب ومتردد، وشاك في موقفه من الوحي، بل حقيقة موقفه التكذيب ثم يستر هذا بادعاء الخلاف بين العقل والوحي، ومن المهم هنا أن نؤكد مرة أخرى أن هذا الموقف المتردد الذي يؤول بالبعض إلى الإلحاد المحض له ما يبرره فيما يتعلق بالأديان الأخرى، وليس له ما يبرره على الإطلاق فيما يتعلق بدين الإسلام.

ويقول شيخ الإسلام مبينًا أن مثل هذا النوع يأتي في الشرع ولا يمثل مناقضة للعقول: "إن الدين يأتي بمحارات العقول، ولا يأتي بمحالات العقول".

فإن قيل: ولِمَ يأتِ الشرع بمثل هذه الأمور التي يحار العقل في تفسيرها؟!

فالجواب: إن ذلك لحكم كثيرة، منها: اختبار صحة التسليم والانقياد؛ فالانقياد لما لم تُعلم علته انقياد حقيقي بخلاف مَن لا ينقاد إلا لما استبانت له علته، كما أن هناك أمورًا لا يستطيع العقل إدراكها فلا حيلة أمامه إلا الرجوع للوحي فيها، وما يأتي به الوحي في هذه الأبواب هو إخبار عن غيب مِن مصدر دل الدليل العقلي على تمام مرجعيته.

ومعظم مَن يلحد يُؤتَى مِن هذا الباب حيث يَطلب علم أمور لا تدركها حواسه ولا يطيقها عقله، ولا يقنع في الوقت ذاته أن يأتيه فيها جواب مبني على التسليم، كما أن التطور العلمي قد أرشدنا إلى أمور تصلح عللاً لبعض الأحكام لم يكن العقل ليستوعب في حينها مثل هذه العلل، مثل ما ثبت مِن ضرر الميتة، ومِن ضرر الخنزير حيًّا وضرر لحمه ميتًا، وغيرها من الصور...

فائدة: هل يمكن مع اكتشافنا العلة في تحريم شيء أن نتعاطاه مع تفادي هذه العلة؟!

كفرع على ما أسلفنا يحاول البعض أن يترخص في كثير مِن المحرمات؛ بدعوى أننا عَلِمنا العلة، وعلمنا كيفية تفاديها! كمن يتحدث أن "الطهي الجائر" يقضي على ضرر لحم الخنزير!

وللرد على هذا نَذكُر ذلك المثال الذي ذكره الشيخ "عبد الحليم محمود" نقلاً عن الإمام الغزالي -رحمه الله-: أن رجلاً شيَّد قصرًا جميلاً، وتوسع في زراعة نوع معين مِن النباتات الطيبة الرائحة في حديقته، ووصى ابنه بعده أن يهتم باستمرار بزراعة هذه النبتة؛ فلما مات الأب ظن الابن أن أباه إنما أوصاه بهذا النبات لطيب رائحته فاستعاض عنه بنباتات أخرى أزكى رائحة ففوجئ بانتشار الثعابين في الحديقة حيث كان الدور الرئيسي لهذه النبتة هو طرد تلك الثعابين.

وبالطبع فإن هذا المثال للتوضيح "ولله المثل الأعلى"، وفي حالة البشر يمكن أن يقال: إن هذا الأب كان يمكن أن يعلِّم ابنه العلة التامة، وأما في الشرع: فيحصل هذا أحيانًا فيُقال في مثل هذه الحالة إن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ويحصل أحيانًا غير ذلك؛ ابتلاءً وامتحانًا أو لعجز البشر مطلقًا "أو وقت نزول الحكم" عن إدراك العلة التامة.

خاتمة:

وإذا تقرر هذا علمنا أهمية إشباع موضوع إثبات صحة الوحي، ومِن المعلوم أن أدلة صحة الوحي بعضها متضمَّنة فيه، مثل: "صور إعجاز القرآن المختلفة - ومثل كمال النظام التشريعي، والنظام الأخلاقي".

وبعضها مِن خارجه، ومِن أبرزها: "المعجزات"، ولكن الملاحدة الذين عاصروا المعجزات لم يعدموا شبهات يلقون بها في وجه المعجزات؛ فمن لم يشهدها مِن باب أولى، ومِن ثَمَّ فينبغي للتركيز بصورة أكبر في الحوار مع الملاحدة حول أدلة إعجاز الوحي من الكتاب والسنة، وبعضها مما يختص به القرآن وهو إعجاز نظمه، وبعضها مما يوجد في القرآن والسنة: كالإعجاز العلمي والإخبار بحوادث وقعت، ومثل الكمال التشريعي والأخلاقي، وهذه الموضوعات تزخر المكتبة الإسلامية القديمة والمعاصرة بكثير من المؤلفات فيها؛ إلا أن ثمة ظاهرة تحتاج إلى تنبيه خاصة في الحوار مع الملاحدة، وهي ظاهرة تعسف البعض في ادعاء نسبة وجود بعض الحقائق العلمية في القرآن!

وفي هذا العديد مِن المخاطر، منها:

أ- أن في ذلك عدوانًا على النص القرآني ذاته.

ب- أن البعض يصل في توسعه إلى درجة نسبة أمور للقرآن لم تزل في طور النظرية بعد؛ مما يعرضه مِن حيث المعنى لهزة شبيهة بتلك التي وقعت للكتب السابقة، وإن كان مِن فضل الله علينا أن القرآن يبقى محفوظـًا بنصه، ويبقى أيضًا معناه الصحيح ظاهرًا مهما تأول الناس مِن معانٍ غير صحيحة.

ج- ويجب في هذا الصدد أن ندرك أن القرآن كتاب هداية وليس كتابًا علميًّا، وأن الإشارات التي فيه هي مِن باب إقامة الحجة على الأجيال التي شهدت تقدمًا علميًّا، ويكفي في ذلك الأمثال الواضحة السالمة عن المعارضة، مثل: "مراحل تكوين الجنين"، والمنصف يكفيه مثال واحد، وأما المعاند؛ فلن تزيده الأمثلة الملتبسة إلا عنادًا.

وللحديث بقية -إن شاء الله-...

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com