السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (3

أفحكم الجاهلية يبغون؟- أهداف الحملة الفرنسية- أوروبا وثنية ملحدة- القوانين الوضعية- قضية الحل البرلماني

(الحاكمية (3
عبد المنعم الشحات
الخميس ٢٩ يناير ٢٠١٥ - ١٢:١٤ م
1883

الحاكمية (3)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

 [خلاصة المحاضرة السابقة:]

ما زلنا في ذكر نقولًا عن بعض العلماء في تفسير بعض الآيات المتعلقة بقضية الحكم لما أنزل الله، وذكرنا بعض النقول عن الشيخ الشنقيطي / تعالى في بيان أن النظام الإداري يختلف عن النظام الشرعي، بمعنى أن هناك أمور للشرع فيها حكم مبين مفصل، لا يجوز لأحد العدول عنه.

وهذا النوع عنه من الشرك بالله تعالى، وتفضيل شريعة غيره عليه، وأن النظام الإداري فيه سعة مع التزام الضوابط الشرعية العامة التي وردت في دين الله تبارك وتعالى، فلا ينبغي الخروج عن هذه القواعد العامة، وإن كان يسع الأمر فيها.

وذكرنا أن العلماء يمثلون لهذا بكتابة عمر ت أسماء الجند في الدواوين، وغير ذلك من الأنظمة الإدارية التي قد يصدق هذا الوصف في زماننا على قوانين المرور، وعلى الأنظمة الإدارية التي يراد بها ضبط الأمور، وتحقيق العدل، كاشتراط توثيق العقود مثلًا، كعقود الزواج، والطلاق، والبيوع، وغيرها، بهيئة معينة، وأمام جهة معينة.

كل هذه من أنواع الأمور الإدارية التي ينطبق عليها هذا الوصف الذي ذكره، وهذا التفصيل الذي أشار إليه العلامة الشنقيطي / تعالى.  

يقول الشيخ ياسر: «وقال / (7 / 162) في تفسير سورة الشورى: «الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه  الله،  فكل تشريع من غيره ـ باطل، والعمل بتشريع بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه، وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به» ا.هـ.

وقال /: «اعلم أن الله ﻷ بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع؟، سبحان الله تعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون-؛ فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقينًا أنهم أحقر، وأخس، وأذل، وأصغر من ذلك؛ فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوز بهم إلى مقام الربوبية، سبحان الله أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه، أو ملكه» ا. هـ.

الشرح:

ذكرنا أن هذه القضية لها تعلق بتوحيد الربوبية، ولها تعلق بتوحيد الإلهية، وهنا يؤكد الشيخ الشنقيطي / هذا المعنى، وهو أن ينظروا في أحوال هؤلاء هل لهم من صفات الربوبية: من صفات العلم، والإحاطة، والتدبير، وغير ذلك من صفات الربوبية؟!، ويقارن إن كان هؤلاء شابهوا، أو قاربوا صفات الله تعالى، والعياذ بالله، ولن يجد ذلك جزمًا، فإن وجد شيئًا من هذا فليتبعه، وإلا فإن علم أن المخلوق عند حده عاجز، جاهل، ضعيف، فلا يجوز حينئذ أن يقدم رأي هذا المخلوق على شرع الله تعالى، وما يشرعه هذا المخلوق عما يشرعه الله تعالى.

يقول الشيخ ياسر: «وقال / (1/293): «وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت؛ وذلك في قوله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾[النساء:60] فالكفر بالطاغوت الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية شرط في الإيمان، كما بينه تعالى في قوله تعالى : ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ﴾ [البقرة: 256] يفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت؛ لم يستمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يستمسك بها؛ فهو متردٍ مع الهالكين» ا.هـ.

وقال / (7/ 169): «إن غير الله لا يتصف بصفات التحليل والتحريم، ولما كان التشريع، وجميع الأحكام - شرعية، أو كونية قدرية- من خصائص الربوبية؛ كان كل من اتبع تشريعًا غير تشريع الله؛ قد اتخذ ذلك المشرع ربًا وأشركه مع الله» ا.هـ.

الشرح:

وهذه قضية مهمة جدًا، ولذلك ذكرنا أن من أوجه اعتراضنا على مشاركة الإسلاميين في تلك المنازلات التي يخوضونها من التجارب البرلمانية وغيرها، وأن فيه ضرر على أصل القضية، ناهيك عن التنازلات الكثيرة والثمن الذي يدفعونه من دينهم من: موالاتهم لأعداء الله، ومن تمييعهم لكثير من القضايا لعل من أفحشها تمييع قضية المرأة.

ولعلهم قد يعتذرون في معظم القضايا التي اضطروا إلى تمييعها بأن هذه مداهنة، مع أن هذا غير مقبول في مقام الدعوة أن تذكر كلامًا على وجه المداهنة، ثم لا تضمن ماذا يفهم الناس من هذا الكلام؟ أيفهمون ما صرحت به أم يفهمون غيره؟! ولكن القضية الخطيرة جدًا أنهم في قضية المرأة من حيث السلوك العملي قد تنازلوا تنازلًا كبيرًا.

فجعلوا النساء يواجهن أنواعًا من المخاطر التي كان ينبغي أن ينأى عن النساء بها، من مواجهة أنواع من الأذى النفسي، والبدني من سماع السب، والبذاءة ومن الاعتداء على الأبدان، بل إنهم لا يخجلون من الاعتراف بأن النساء قد تعرضن للتحرش الجنسي، أو غير ذلك، مما يذكرونه على وجه التباكي على ما فعل بالنساء!!.

والواقع أن الإنسان الذي يعلم أن هذا الثمن سيدفع شاء أم أبى فما الذي يرغمه على أن يدفعه؟! إذن فهناك أثمان كثيرة تدفع، فصارت قضية الولاء والبراء في حد ذاتها أيضًا من الناحية النظرية قد قدم فيها كثيرًا من التنازلات، ومن الناحية العملية قدم فيها تنازلات أيضًا يحار الإنسان في شأنها، فربما تجد أحيانًا تحالفات مع بعض العالمانيين وغيرهم، ويوفى بهذه التحالفات كما حصل في بعض الأماكن، وظل الإسلاميون على عهدهم مع من تحالفوا معهم حتى حينما اختلت الموازين ببعضهم ساندوهم إلى النهاية، بينما يتخلون مثلًا كما حدث مع أحد الرموز الإسلاميين.

عمومًا ما دام أنه لا يحمل نفس الفكر، وتم التخلي عنه مع أنه له على الأقل سبق، وباع كبير في تجسيم اتجاه المشاركة البرلمانية فتم التخلي عن رمز كبير من رموز التيار الديني عمومًا لأنه لا يحمل نفس اللافتة، وترك وحيدًا بلا أتباع وبلا النظام العالي، وهو الذي يفرز هذا الأمر فنحن نتساءل على أي موازين تمت هذه القضية؟!  بحيث أنه يدعم من ينتمي إلى اتجاهات عالمانية أو على الأقل أقصى طموحاته أن يقدم أنشطة خدمية، ويُوفَى بالعهد معه إلى النهاية، بينما يتخلى عمن هو محسوب عند كل الناس على الاتجاهات الدينية إلا أنه لا يحمل نفس اللافتة.

وهذا يجعلنا نتساءل عن الكلام الذي يتكرر كثيرًا عن السلبية وأن الذي لا يشارك في هذا الاتجاه يتسم بالسلبية، ماذا يريدون؟ هل التبعية التامة لكل ما يرون؟ أم ترى هل يرحبون إذا ما فكر أي أحد في أن يكون إيجابيًا إيجابية كاملة بأن يكون له كيانًا مستقلًا ؟ لا أظن.

بل تبين الممارسة العملية أنه تم التحالف مع من يحملون لافتات علمانية أو على الأقل خدمية، وتم الوفاء لهم بهذا الحلف، بينما تم التخلي عن أفراد معلوم أنه محسوبين على الاتجاه الديني بصفة عامة، بل كما ذكرنا يعدون من رموز من خاض هذه التجربة، فيتم التخلي عنه، ولا يدعم الدعم الكافي حتى لم يستطع أن يستمر.

فكل هذه مفاسد، ومخالفات، واختلال في الموازين، ولكن هذا كله قد يكون هينًا بجوار المفسدة الكبرى مفسدة تمييع أصل القضية، فالقضية ليست إحراز نصر مؤقت، وانشغال جزئي بقضايا جانبية أو فرعية، بل ولا حتى تطبيق كامل، وهذا من المفترض أنه في أقصى الأوهام الآن فهو معدود من ضمن الأوهام، فيقول: نحن لن نستطيع أن نفرض قوانين، ولن نستطيع أن نعرقل قوانين نرفضها فماذا تنتظر إذن؟.

سيقول : الرقابة على الفساد, فهذه أقصى طموحات هؤلاء، فنقول: لو الأمر سيصل إلى أبعد من هذا فسيبقى أن الأصل وهو أن نسأل: من أين أتى هذا الكلام؟ وما مرجعيته العليا؟ فإذا كان الشرع لن يطبق إلا بمرجعية عليا أعلى منه وهي إرادة الجمهور، فلا ينبغي أن نتنازل عن القضية النظرية الكلية؛ لأن الكلام النظري يعيش ويبقى.

فالله تعالى يعز من يشاء ويذل من يشاء، والأمور دول، فالقضايا العملية، والأسباب المادية تتفاوت تفاوتًا كبيرًا عبر العصور والأزمان، فالأصول العقدية النظرية هي التي تبقى، فهل نتنازل عن أصل عقدي؟!؛ ولمن المرجعية العليا: هل هي للشرع أم للناس؟ هذه هي القضية المحورية.

وهذا الأمر تم التنازل عنه منذ زمن بعيد, فالقضية أنهم اضطروا إلى أن يعترفوا أن المرجعية العليا للناس، وليست لشرع الله تعالى، فكلام أهل العلم يرجع الموضوع إلى قضية الربوبية، فهذا هو الأصل أن هذه من صفات الرب؛ لأنه هو الآمر الناهي الذي له حق الطاعة.

يقول الشيخ ياسر: «قال الحافظ ابن كثير : في تفسيره (2 / 67) في تفسير قوله تعالى: ﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ [المائدة: 50] ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء، والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات، والجهالات مما يضعونها بآرائهم، وأهوائهم.

وكما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة من ملكهم «جنكيز خان» الذي وضع لهم «الياسق» وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى: من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكِّم سواه في قليل أو كثير، قال الله تعالى: ﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ أي: يبتغون، ويريدون».

الفرق بين النوع والعين:

كثيرًا ما نؤكد على أن الكلام على النوع يختلف عن الكلام على المعين، فهذا الكلام كأحكام عامة عند تطبيقها على المعين ينظر هل له تأويل؟، أو هل ثمَّ جهل؟، أو هل هناك غير ذلك من موانع التكفير المعروفة؟ ولا ينبغي أثناء تقرير الحكم أن يضمن هذه الضوابط؛ لأن هذه الضوابط في الكلام على الفتوى، في تطبيق الحكم على المعين، وهذه مسألة سوف نتعرض لها بوضوح حيث إن البعض يقول طالما أنك عندما تطبق على المعين في زمان معين مثلًا ينتشر فيه هذا الأمر فتقول: هناك جهل أو تأويل، وبالتالي لن نجري حكم الكفر على هذا الفعل فلتسمه من أول الأمر كفرًا أصغر!!.

فنقول هذا خطأ؛ لأن هذا تغيير للحكم ذاته، وليس تغييرًا للفتوى، وليس تغييرًا لتطبيقها على المعين، إذن فنحن نقول مثلًا من طاف بغير الكعبة فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، فهذا كلام من حيث العموم، ولم ننقله من الأكبر إلى الأصغر فهو أكبر بطبيعته، والأدلة تقرر أنه شرك أكبر، فإذا أتي بشخص معين جاهل أو متأول، فنقول: هو في حق هذا الرجل لم يطبق عليه الحكم؛ لوجود الجهل أو التأويل أو الإكراه إذا وجد إكراه معتبر شرعًا، أو غير ذلك من الموانع المعروفة، ولكن لا يمكن أن نغير الحكم نفسه، كما هو واضح من كلام أهل العلم.

فهنا ابن كثير : يذكر هذه النماذج من كلام التتار مما أحدثه ملكهم جنكيز خان، ووضع لهم كتاب الياسق، وقد كان في كتابه أحكام في غاية الشدة، والقسوة، والغلظة، ولذا نقول أن القضية ليست قضية شدة، ولا لين، إنما القضية قضية اتباع شرع الله تعالى، وشرع الله عدل كله، فيضع الشدة في موضعها، ويضع اللين في موضعه، ويضع كل شيء في موضعه، فالنظم الغربية الآن تطالب بدرجة من اللين مع المجرمين.

ويتصور الناس يتصورون أن الكلام على شرع الله تعالى كأنه ناتج من نتيجة حب الشدة ..لا ..هذا خطأ وإلا فقد وجد في أزمنة أخرى من كان شديدًا كالتتار، فقد كانوا أمة همجية بربرية فكانت عندهم همجية شديدة، وهذا يناسب دائمًا معها الشدة والغلظة، فلذا كان ما وضعوه من أمور تناسب ثقافتهم كما يقولون، فكان عقوبة معظم الجرائم عند التتار القتل في إفشاء السر مثلًا وغيره، فهذا من الشدة والغلظة.

فيقول ابن كثير إن هذه السخافات، ومن ترك شرع الله تعالى، فإذا نظرت في التطور الطبيعي لنمو هذا الياسق تجد أن التتار كانوا كفارًا قبل أن يغزوا بلاد المسلمين، وكان لهم شرعهم الذي وضعه ملكهم، وكان يحكم فيه ثم بعد ذلك بدؤوا يدخلون في الإسلام، ومع الجهل والعمى وتعظيم الآباء والأجداد بدؤوا يقتبسوا شيئًا من أحكام الإسلام ويلحقوه بأحكام ما كان عندهم من أحكام، فهم دخلوا في الإسلام، وهم على هذه الحالة، وحتى لما دخلوا في الإسلام لم يأخذوا تشريعاته كلها، ولكنهم أخذوا جزء منها ودمجوها في هذا الياسق، ومع هذا تجد هذا الكلام العنيف جدًا من الإمام ابن كثير : في وصف هذا الياسق بالضلال والغي والكفر المبين والعياذ بالله؛ لأنه إعراض عن شرع الله تعالى حتى وإن كان صاحبه كان يؤمن به قبل أن يسلم، وبالطبع مع الوقت ذاب التتار في الأمة الإسلامية فلم يقدروا حتى أن يفرضوا هذا الياسق فانتهى أمره بفضل الله تعالى.

عودة للكلام عن المجالس الإنتخابية :

يقول ابن كثير : لا بد لمن فعل هذا أن يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل أو كثير، فإن قيل: هناك أشياء كثيرة مطبقة، فنقول: قدمنا قبل هذا أننا عندما نتكلم عن الشرع نتكلم عن الشرع كمنهج للحياة، وليس مجرد منهج في العقوبات، أو في غيرها، أو حتى في النظام القضائي كله، ولكننا نتكلم عن الشرع كمنهج للحياة يحكم اجتماعيات الناس وعاداتهم، فضلاً عن عقائدهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم التي ينبغي أن تستقيم على شرع الله تعالى.

ولذلك سبق أن استشكلنا على من يحاول أن يقفز إلى  تطبيق الشرع عبر سلطة يطبقه بها، فهل الناس مهيئون؟ وهل الناس تربوا على هذا؟ فإذا كانوا بالفعل قد تربوا على هذا؛ فلماذا لا يطبقون ما يسعهم تطبيقه في أنفسهم؟ لماذا مثلًا لا تحتجب النساء من تلقاء أنفسهن؟ولماذا لا يصلي كل الرجال في المساجد في جماعة؟ ناهيك عمن يترك  الصلاة بالكلية، لماذا لا يترك التدخين؟ ناهيك عما هو أسوأ منه، لماذا لا يتركون سماع الأغاني، والموسيقى، ومشاهدة العري، والخلاعة، والفجور إلى غير هذا من الفساد؟.

بل إن من ضمن الأمور التي لا ينبغي أن تغيب عن الملاحظ المدقق المتفحص لما يدور من حوله كيف أنه يمكن أن يحصل واقعيًا مع كل هذه النشوى الموجودة عند أصحاب هذه الاتجاهات بما تحقق على أرض الواقع من مكاسب، كيف فاتهم أن يرصدوا ويحللوا كيف تمكن لاعب كرة سابق من أن يتغلب على مرشح الإسلاميين؟!، وهذه النتيجة لا ينبغي أن تمر بدون تدبر، فمن الذي وضع الإسلام في هذا الموضع السيئ؟! ومن المسئول عن ذلك؟!

فنحن قلنا أن الناس اختاروا هؤلاء في مقابل العالمانيين والسارقين والناهبين، فلماذا عندما كان الاختيار بين الإسلاميين واللاعبين اختاروا اللاعبين؟ من الذي قبل بهذه القاعدة؟ فالقاعدة تقول أنك طالما قبلت بقواعد اللعبة فلا يصلح لك تغييرها، والجمهور الذي تسعد به لأنه تعاطف معك هو الذي عندما يكون هناك مال فسيكون مع المال، وعندما يكون هناك عصبية وقبلية فسيكون مع العصبية والقبلية، وعندما يكون هناك أصحاب أهواء فسيكون مع أصحاب الأهواء، ورقم أربعة يكون مع الإسلاميين والشيء الذي يستحيل أن يكون معه مع السارقين والناهبين الذين هم شر من كل الجهات.

والذي يرصد بدقة فسيرى أن هذا هو الترتيب فكيف تقول ننزل الشارع؟ هذا كلام في غاية العجب، فهؤلاء لا يعول عليهم في أن منهم أناس يريدون أن يغيروا ما بأنفسهم، ويريدون أن يستقيموا على شرع الله، فالجنة قد حفت بالمكاره، فالذي يريد أن يلتزم سيترك كثيرًا من هواه، وأنت لا تقول له اترك هواك!! بل أن المسألة أنه يحب شخصًا مهرجًا، شخصًا صاحب لهو، وهذه شهرته في الناس، فصاحب اللهو رغم أنه ترك هذا اللهو واعتزل إلا إنه ما زالت له مكانة في القلوب تتقدم على مكانة الذي يرشدهم إلى دين الله تعالى!!.

ولم نقل أن الناس لا تريد دين الله ولكن هذا كلام إجمالي فأين التفصيل؟ فأين الذي يريد أن يترك هواه من أجل دين الله تعالى، ويريد أن يستجيب لشرع الله تعالى؟!.

في الواقع أن الخطاب الإعلامي الرنان يغفل كثيرًا من الظواهر التي تحتاج أن تراجع، ومنها ما أشرنا إليه أنه لماذا تم مساندة بعض العالمانيين، وتم التخلي عن بعض الإسلاميين الذين لم يرفعوا نفس اللافتة؟ والأمر الثاني: لماذا تقدم أصحاب اللهو واللعب على بعض الإسلاميين؟ إذن فهذا يدل على أن التحاكم إلى العامة والغوغاء مبدأ مجرد القبول به، ومجرد التفكير فيه، لا ينبغي أن يقدم عليه من يريد أن يغير أمة، فمن يريد أن يغير أمة ويرى ما آل إليه أمرها ثم يجعلها الحكم؟!! بل إنها موضوع دعوتي.

وهذا الأمر كمدرس يدخل فصلًا ثم يجدهم في قمة الانضباط والفهم للمادة، ثم قال لهم: طالما وجدتكم كذلك سوف أعطيكم امتحان والإجابة الأكثر انتشارًا في الفصل ستكون هي الصحيحة فهذا كلام لا يقره أحد أبدًا؛ لأنه من الممكن حتى ولو كان الفصل فصل متفوقين أن يحصل خطأ متكرر منهم، ويكون هذا تقرير لباطل، فكيف سيكون الحال لو دخل ووجدهم في غاية الجهل، والبعد عن الفهم، ثم يجعل هذا الامتحان وتكون نتيجة الامتحان أن النتيجة الأكثر انتشارًا ستكون هي الصحيحة؟!.

فهذا هو بالضبط الذي يفعله الناس فهذه هي نفس القضية  فمادام يكتب اسمه صحيحًا فإنه يصلح مثل هذا أن يحكم، أو يكتب المبادئ الأساسية جدًا، فهذا كما يقول أن الناس يقولون أنهم يرغبون في الإسلام، فهذا هو المبدأ العام، وهناك أشياء كثيرة واضحة، ولا تحتاج إلى  بحث ولا تحري أن الناس لا تريد أن تترك أهواءها، فالبعض يريد تحكيم الإسلام دون أن يتعارض مع أهواء الشعب الشخصية، وهذا في اللحظة القصيرة، ناهيك عن المدى الطويل، ففي هذه اللحظة القصيرة يقول: نعم من الممكن أن أكون معك ما لم يكن هناك من يدفع، وما لم يكن هناك قريب أو عصبية، ما لم يكن هناك شخص محبوب حتى لو أحبه على معصيته، فأنت من الممكن أن تكون في المرتبة الرابعة وقتها!!.

وللعلم أن الذي يفعل ذلك يرى أن هذا كرم بالغ منه، وأنه بذلك قد بذل جهده، وعليك أن تكمل المسيرة، فامش يمينًا أو يسارًا فلو جئت بعد قليل، وانقلبت عليك الأمور فأقصى شيء أن يضرب كفًا بكف إلى غير ذلك مما هو معلوم.

فمن الذي رضي بأن تنزل الدعوة من مكانها العظيم؟ ولا نقول أنها منعزلة عن الناس ولكن نقول: منعزلة عما عندهم من باطل، فينبغي أن تكون الدعوة واقفة على أرض نقية تمامًا ثم نقول للناس: هذا هو الحق فاتبعوه، وما على الرسول إلا البلاغ فمن يريد أن يقترب فليقترب، ومن يريد أن يبتعد فليبتعد وقد قال تعال :﴿ليس عليك هداهم﴾ وتبقى أنت لا تشارك في إقرار باطل، ولا في نشر باطل، ولا تقول للناس: ما رأيكم؟!.

ولذلك المفكرين العلمانيين - وإن كان ينطلقون من بغض للدين- ولكن هم عندهم إشكالية: هل أنت صاحب دعوة أم صاحب تجربة جماهيرية؟! لأن هذا شيء، وذاك شيء آخر، فالأفكار الدنيوية لا ترضى بالنزول لمعترك الجماهير إلا بعد أن تمارس دور الدعوة، فأي صاحب دعوة غير مقبولة جماهيريًا، يقول: أنا مصر على دعوتي حتى يحصل لها القبول يومًا ما، وهذه هي الحكمة في أن الشعار الذي يرفع هو شعار الإسلام لأنه ليس من الممكن أن يختلف أحد عليه لكن القضية أن المسلم الذي تريد أن تقول له: هل ترضى بالإسلام؟ سيقول: نعم بالطبع، فإذا قلت له: هل ترضى أن تدخل المسجد في اليوم خمس مرات؟ فسيقول: المفروض أن أدخل , لكن الرضا العملي والتطبيق العملي والانقياد العملي: هل ستفعل ذلك الآن؟ سيقول:لا، فإن قلت له :وماذا لو ألزمك أحد بذلك؟ فسيقول: ليس هذا هو ربي لكي يلزمني.

وكذلك المرأة لو سألناها: هل ترضين بالحجاب؟ستقول: نعم أرضى، فليس هناك مسلمة لا ترضى بالحجاب، فلو سألناها: هل ستطبقين ذلك على نفسك؟ ستقول: لا، ليس الآن، وماذا لو ألزمك أحد به؟فستكون نفس الإجابة: ليسوا هم أربابًا لكي يفرضوا هذا الأمر على المرأة.

فالرضا الإجمالي بالإسلام لم ننازع في أنه موجود عند عامة الخلق، ولكن الاستعداد لتطبيقه، ناهيك عن الاستعداد للبذل في سبيله فهذه قضية فيها كثير من الظواهر التي تحتاج إلى بحث.

فهنا كلام الإمام ابن كثير : عن الياسق الذي لفظته الأمة، فاضطر أصحابه إلى أن يرجعوا عنه، فكان هناك رفض حقيقي، فقد كان هناك أناس يبتلون لكي تقبل بهذا المنهج، ولكنهم يرفضونه، مع أن الأمة كانت في أشد فترات الاستضعاف،فكانت الأمة مهزومة عسكريًا وقد فعل بها التتار من الفظائع ما معلوم في كتب التاريخ من: انتهاك الأعراض، والعدوان على الدماء، فقد كانوا متعطشين للدماء، ومع ذلك ظلت الأمة رافضة لهم، ولمنهجهم لدرجة أنهم مع الوقت تنازلوا لأنهم ليس لديهم كبير إخلاص، ولا كبير ولاء لمنهجهم الذي هم عليه.

أفحكم الجاهلية يبغون ؟

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن ابن كثير :: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟!، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء» ا.هـ.

الشرح:

إذن فهذه قضية تربوية يجب نشرها، وهي أن لمن يستصعب شيئًا في الشرع: إن  الله  ـ عزوجل  ـ   أرحم بك من الوالدة بولدها، فالشيء الذي تراه صعبًا هو عينه الفلاح لك وللمجتمع كله، وقد قدمنا نماذج مما قد يتصور أنه شدة بينما واقع الأمر أن فيه رحمة للأمة كلها كما سبق، وستأتي نماذج لهذا إن شاء الله.

يقول الشيخ ياسر: «وقد نقل الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (13/128) شيئًا من سخافات هذا الياسق، ثم قال: «فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق، وقدمه عليه؟! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين»ا.هـ.

 ويعلق الشيخ أحمد محمد شاكر : في «عمدة التفسير» (4/173).

الشرح:

وهو محدث الديار المصرية، وكان آخر رئيس للمحكمة الشريعة قبل أن تلغى، وله كتاب في اختصار وتهذيب تفسير ابن كثير يسمى «عمدة التفسير» وتعليقات أحيانًا في بعض المواطن، ومنها هذا التعليق الذي قاله تعليقًا على كلام ابن كثير الذي نقلناه آنفاً .

يقول الشيخ ياسر: «ويعلق الشيخ أحمد محمد شاكر : في «عمدة التفسير» (4/173) قائلًا: «أقول أفيجوز -  مع هذا - في شرع الله أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس من تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟!!».

الشرح:

هذا الوصف قد أخذنا فيه وقتًا طويلًا جدًا لكي نثبت أن أوروبا وثنية نصرانية ملحدة، ومن الممكن أن تلغي المرحلة النصرانية من تاريخ أوروبا لأنها مرحلة لم تترك أثرًا واضحًا في تاريخ أوروبا، فإن المرحلة الأكثر أثرًا هي المرحلة اليونانية والرومانية، ثم مرحة العالمانية، مع بقاء النصرانية تعيش جنبًا إلى جنب مع العالمانية، ولكن كما ذكرنا فالمؤثر على الثقافة الأوروبية، والعقلية الأوروبية، والتشريعات الأوروبية هو أنهم وثنيون ملحدون، فهذا هو الذي يسيطر عليهم، والأمم الوثنية بطبيعتها ليس لها شرع كما ذكرنا عن التتار أنها أمة همجية، كانوا يعيشون في صحاري الصين، ثم قدر الله تعالى أن يتحرش بهم بعض الجنود المسلمين وكان ما كان مما قدره الله تعالى.

فهذه أمة همجية بربرية طبيعتها أن تكون التشريعات وليدة اللحظة فإذا انتشر شيء يثير قلقهم سيكون الحكم في هذا القتل، ولو أحبوا شهوة فإنهم يتركونها ويفتحون لها الباب على مصراعيه، وكان هذا حال أوروبا إلى أن جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، وكانت الحملة الفرنسية متعطشة تعطشًا كبيرًا جدًا أن تنهب تراث الدولة العثمانية، والدولة العثمانية هي الدولة التي اقتربت من أن تقضي على مجد الأوروبيين إلا أنه أيضًا قدر الله ما شاء من عوامل الضعف، فتوقفت، ولما ضعفت الدولة العثمانية وحل محلها القوى الأوروبية الحديثة، وكان من أبرزها: فرنسا.

أهداف الحملة الفرنسية:

كانت الحملة الفرنسية حملة استكشافية لذا فقد بقيت فترة وجيزة لأنه لم يكن في تخطيط نابليون آنذاك أن يبقى، ولأن الإمبراطورية الفرنسية لا تتحمل تكاليف البقاء في هذه البلاد في هذا الوقت، ولكن القضية أنه جاء معه بعلماء تاريخ، واقتصاد، واجتماع، يفتشون ويبحثون في هذا الدين، ومصر إحدى العواصم الكبرى للعالم الإسلامي عبر تاريخه وإلى يومنا هذا ما زال دورها محوري جدًا، واهتمام الأعداء بها في غاية الاهتمام سلبًا وإيجابًا، فيرصدون كل المظاهر, فإذا كان هناك انحلال، وإقبال على أفكارهم، وعاداتهم؛ تنشرح صدورهم، وإذا كان غير ذلك تضيق صدورهم.

فاختار نابليون هذا المكان، وكانت هناك جهود أخرى وجهت إلى سوريا وإلى العراق وإلى بلاد الحجاز، ولكن كان أكثر الحملات نجاحًا في دراسة المسلمين، ودراسة مواطن القوة والضعف هي الحملة الفرنسية على مصر، التي استطاعت أن تكشف بعض الظواهر السلبية الموجودة عند المسلمين التي يمكن أن يؤتوا من قبلها، وكان من أهمها أن المسلمين قل فيهم طلب العلم، فالحملة الفرنسية لما رصدت هذه الظاهرة قالوا: إن المسلمين الآن من الممكن أن تشككهم في كل شيء حتى في القرآن ذاته، فيقولون رغم أنهم يعظمون القرآن لكن لما تسأله معنى هذه الآية لا يعلم معناها، وقد مثلنا قبل ذلك أنهم الآن لا يقولون: فسر لي سورة البقرة وآل عمران، بل أقول لك: فسر سورة العاديات التي لا تفهمون معناها!! ويزعمون أنها ليس لها معنى أصلًا!!.

فهذا الأسلوب في الدراسة يدرس مواطن الضعف وجد أن المسلمين الآن يحفظون القرآن للتبرك ولا أحد يعرف تفسيره وأن المسلمين لا يعرفون من أين أتاهم الحجاب هل هو عادة تركية أم فارسية أم هو موجود من قديم الزمان؟! فرصدوا كل هذا الكلام ورجعوا مرة أخرى يقولون: أرسلوا بعثات إلينا نعطيهم هذا الكلام، فبدأ هذا الأمر، فكانت دراسة من أين يمكن أن يؤتى المسلمون؟!.

فكل هذا الكلام أعد، وما هي العناصر التي كانت سببًا لقوتهم قبل الانهيار الذي حدث؟ وهل ما زالت هذه العناصر؟ وهل من الممكن أن يأخذها أحد؟ فمن جملة هذا درسوا الحالة التشريعية لبلاد المسلمين، وكما ذكرنا استفادوا جدًا من التشريع الإسلامي، وبدؤوا يعرفون أن هناك مذاهب فقهية، وأن كل مذهب له قضاة يقضون به، فعملوا موازنة بين المذاهب، فوجدوا أن أكثر مذهب يستطيعون أن يأخذوه في أوروبا المذهب المالكي، فأخذوا هذا المذهب لأنه في أبواب المعاملات متوسع جدًا في قاعدة أن الأصل في المعاملات الإباحة، خلافًا لمذهب الأحناف، ولكن طبعًا حذفوا منه الأمور التي تتنافي مع ثقافتهم، وهو كل ما يتعلق بجرائم العرض والشرف، والأمور التي تحال على أمانة الناس.

فمثلًا المبدأ الذي يسميه القانونيين الآن مبدأ وحدة الصفقة بمعنى أن لا تقل: شخص عقَد عقْد بيع اشترط في باطنه عقْد بيع آخر فهذا نوع من أنواع القمار كأن يقول شخص: أنا أبيعك هذا البيت بعشرة بشرط أن تبيع هذه السيارة بخمسة فلو كان هذا البيت بعشرة وهذه السيارة بخمسه فلم اشترطا معًا؟

فهذه حيلة من أنواع القمار، فالشرع وفق اصطلاحهم المعاصر أتى بمبدأ وحدة الصفقة، فهذا بالطبع لم يعجب اليهود والمشرعين من حول نابليون، فقالوا: الناس عند عقودهم!! هكذا بإطلاق، ومن يستطيع أن يخدع الآخر فليخدعه، وهذا مبدأ عندهم وهو أنه لا بـد أن تترك فرصة للناس يتذاكى بعضهم على بعض؛ لأن السوق لن يحصل فيها رواج إلا بهذه الصورة.

فأخذ الفقه المالكي وشوهه وأخضعه لعقيدته، وصار هذا أول قانون معروف لأوروبا بعد القانون الروماني الذي كان قد أصبح قانونًا متهالكًا، فقد كان القانون الروماني قديمًا لبقعة محدودة جدًا، ولا يوجد في القانون الروماني كلام عن الوقف ولا عن الهبة، ولا عن كثير من أنواع المعاملات، ولا المضاربات، فكل هذا الأشياء الناقصة من القانون الروماني نقلها بنصها من الفقه المالكي مع الحذف والتشويه طبعًا، بحيث أن أي شيء يتعارض مع المبادئ العالمانية للثورة الفرنسية حذفت.

وأصبح هذا هو القانون الفرنسي الذي صار بعد ذلك هو أبو القوانين في كل العالم كما ذكرنا يتبجح من يقول: بضاعتنا ردت إلينا, فكيف نقول هذا على من أخذ منا جواهر ثمينة وخلطها بتراب؟!

افترض جدلًا أن رجلًا ألف كتابًا ونقحه وقال: وصلت فيه إلى أفضل الأمور، وجاء شخص ووضع ملزمة مكان ملزمة من الكتاب، وعندك نسخة من الكتاب الأصلي ولكن ترضى أن تأخذ الكتاب المبدل والمغير وتقول: إن أصله كان ملكي!! فنحن نقول لك: أصله كان لك لكنه قد حرف وبدل فلم أخذته؟.

أوربا وثنية ملحدة:

فالمقصود أن أوروبا وثنية ملحدة، وقد استفادوا من المسلمين شاءوا أم أبوا، ونحن لا نقول هذا تقريرًا لمبدأ بضاعتنا ردت إلينا .. لا ...بل إن بضاعتنا موجودة عندنا بفضل الله، ومن أرادها فهي موجودة ومحفوظة بحفظ الله تعالى لها، والذي لا يريدها فليقل أنه لا أريدها ولكن الدجل بقولهم: هذه بضاعتنا ردت إلينا فنقول: بضاعتك موجودة عندك فلم تلف هذه اللفة الطويلة؟!.

فالمقصود هنا أن أوروبا وثنية ملحدة، واجعل هذا هو الوصف الدقيق من الشيخ أحمد شاكر : للثقافة الأوروبية في ذهنك عند تقييمك لكل موقف لقادة الغرب، ولا شك أن كثيرًا منهم هداهم الله للإسلام، وهذا من فضل الله تعالى أن الإسلام لا يعترف بجنس ولا قبيلة، وإنما هو رحمة للعالمين، لكن نحن نتكلم عن العقلية الأوروبية الباقية على ما هي عليه، فهي عقلية وثنية ملحدة حتى ولو كانوا قد أخذوا من عندنا أشياء، فأخذوا أمورًا كثيرة منا كما من الممكن أحيانًا أن يستعيروا النظام الأخلاقي الإسلامي كما من الممكن أن يستعيروا بعض النظم الاقتصادية.

فهناك بعض المدارس الاقتصادية الغربية تنادي بتحريم الربا بناء على أنهم علموا أن في دين الإسلام تحريم للربا، فبدؤوا يدرسونه من الناحية النظرية، ويصنعون إحصائيات في أثر وجود الربا على الاقتصاد، فوجدوا أن الربا مضر من الناحية الاقتصادية، وهذه البحوث تهاجم بشدة ويتهم أصحابها دائما بالتطرف بالتأثر بالإسلام لدرجة أن أحدهم أستاذ اقتصاد ألماني حلف لهم أنه ما قرأ القرآن في حياته ولا قرأ كتابًا إسلاميًا قط ولكن القضية أن هذا بحث تجريبي محض على وقائع درسها، ولكنهم لم يصدقوه وإلى غير ذلك.

وكذلك النصائح الطبية النبوية وأشرنا أن التشريع عمومًا لم يأت لكي يشرع في باب الطب مثلًا ولكن هذا لا يمنع من وجود نصائح كثيرة طبية موجودة ومشهورة في أوروبا أن هناك أناس كثيرون يأخذون هذا الكلام ويطبقوه مثل عسل النحل وأنه فيه شفاء للناس فهم من الناحية العملية اعتنوا جدًا بهذا الأمر فوصلوا فيه لنتائج كبيرة جدًا وهذه النتائج لن تجدها عندنا، لأن البحث هنا قليل في هذه الشؤون، ولكن هناك بحث في عسل النحل وأنواعه وجرب علاجه عن طريق الفم وعن طريق الدهان في الأمراض الجلدية وعن غير ذلك، وما زال هناك جهد بشري.

ونحن قد قلنا أن كل الأمور الطبية الواردة في الشرع لا تجدها في أمورًا نهائية، بل مجرد إرشاد مثل أن في عسل النحل شفاء، وفي حبة البركة شفاء، وكذا في الحجامة؛ لأن الشرع لم يأت لكي يعطي تشريعًا طبيًا، فهم أخذوا هذه الأشياء وجربوها، ووصلوا فيها لنتائج كثيرة، ومع ذلك لم ينسبها إلى دين الله، ولو نسبها فهذا لا يختلف عندنا كثيرًا، ولا يكونون مسلمين لمجرد أنهم يتداوون بالطب الموجود في السنة ، بل لا بد أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم يذعنوا للشرع، فلا يحكمون غيره في قليل ولا كثير كما ذكرنا.

القوانين الوضعية كفر بواح:

يقول الشيخ ياسر نفلًا عن الشيخ أحمد شاكر : «أفيجوز - مع هذا - في شرع الله أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس من تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟، بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء والباطلة، يغيرونه ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفه؟!

إن المسلمين لم يبلوا بهذا قط - فيما نعلم من تاريخهم- إلا في ذلك العهد عهد التتار».

الشرح:

وهذا الكلام تعليق على كلام الإمام ابن كثير في ذكر ياسق التتار، فالشيخ أحمد شاكر يقول: إن المسلمين لم يبلوا بهذا إلا في عهد التتار.

قال الشيخ ياسر نقلًا عن الشيخ أحمد شاكر :: «وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم؛ فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم فما أسرع ما زال أثره.

أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير في القرن الثامن الهجري لذلك القانون الوضعي الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟! ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر إلا في فرق واحد أشرنا إليه آنفاً أن ذلك كان في طبقة خاصة أتى عليها الزمن سريعًا فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالًا، وأشد ظلمًا وظلامًا منهم؛ لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذلك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر.

هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين يفخرون بذلك آباء وأبناء، ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا الياسق العصري، ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم رجعيًا وجامدًا إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة.

بل أنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحوليه إلى ياسقهم الجديد بالهوينا واللين تارة، والمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطان تارة، ويصرحون ولا يستحيون بأنهم يعلمون على فصل الدولة عن الدين.!!!

أفيجوز إذن - مع هذا- لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد - أعني التشريع الجديد-؟!! أو يجوز أن يرسل أبناءه لتعلم هذا، واعتناقه، واعتقاده، والعمل به، عالمًا كان الأب أو جاهلًا؟!.

الشرح:

قد يفهم من هذا الكلام حرمة التعلم وإن كان كما يقول القائل:

تعلمت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه

فيجوز تعلم الأمر من باب بيان محاسن الدين الإسلامي، وبيان ما في هذه الأمور من ظلم وظلام، ويجوز تعلمه إذا كان وسيلة لدفع الظلم عن المظلومين، ولكن كما سيأتي أن هذا لا بد أن يكون بشرط: التأكد من أن هذا ظلم، وإنما يعرف الظلم والعدل بعرضه على شرع الله، فما وافق شرع الله فهو العدل، وما خالفه فهو الظلم، فمن وجد مظلومًا له حق شرعي بعد عرض الأمر على دين الله تعالى، فله أن يوظف ما تتفق فيه هذه الأمور مع شرع الله تعالى.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الشيخ أحمد شاكر :: «أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا الياسق العصري، وأن يعمل به، ويعرض عن شريعته البينة؟! ما أظن رجلًا مسلمًا يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلًا، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتابًا محكمًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول بأن ولاية القضاء في هذا الحال باطلة بطلانًا أصليًا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة.

إن الأمر في هذه القوانين واضح وضوح الشمس هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام - كائنًا من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه.

ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا  مقصرين، سيقول عني عبيد هذا الياسق العصري وناصروه: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاءوا، فما عبأت يومًا بما يقال عني، ولكن قلت ما يجب أن أقول» ا.هـ.

الشرح:

الفرق بين تجربة الشيخ أحمد شاكر، والتجربة المعاصرة في أمر دخول المجالس النيابية:

هنا تعليق لا بد منه، وهو أن الشيخ أحمد شاكر قد هم بدخول الانتخابات في زمنه، وهذا مما يستدل به بعض من يرى شريعة الدخول في هذه الأماكن، ويقولون: إن الشيخ أحمد شاكر وهو من العلماء السلفيين البارزين قد هم بهذا الدخول، فانظر إلى كلامه هنا وهو يقول: لا تتعلموه ولا ترسلوا الأبناء إليه، ولا تلي القضاء فيه، وولاية القضاء باطلة بطلانًا أصليًا فكيف بالتشريع؟

إذن فالقضية وأقل ما يقال هذا الموقف أنه موقف يحتاج إلى تفسير، هل بالفعل كان هذا الأمر؟ وما هي ملابساته؟ فالرجل يقول: كل هذا وإن لم يجيبوني إلى هذا فسأدخل, فأين هذه الحالة من الحالة التي هم فيها؟ فهو رافض للكلام جملة وتفصيلًا، ولم يداهن، ولم يساوم، ولم يتنازل عن شيء من أجل الدين، وهذا هو الضابط الرئيسي الذي نقوله، فإذا حققوه فليأتوا ويعرضوا الأمر علينا؟ نوافق أو لا نوافق نؤيدهم أو لا نؤيدهم، فهذه قضية تحتمل البحث مرة أخرى.

فالشرط الأساسي أن لا يكون هناك ثمن يقدم من الدين، فهؤلاء الذين يدخلون إذا كان أمامهم فرصة أن يدخلوا بلا ثمن فمن الممكن وقتها أن نطرح الأمر على مائدة البحث ما دام أنه لا يوجد ثمن يبذل، فنرى هل هذا مناسب أم غير مناسب؟ والموقف المبدئي أنه غير مناسب؛ لأن الاحتكام إلى الجمهور يميع القضايا ويضيعها، ولكن على الأقل موقفهم ليس هو موقف الشيخ أحمد شاكر؛ لأن الشيخ أحمد شاكر كان في غاية القوة والوضوح والحزم فيما يعرض، فلم يداهن، ولم يميع أصل القضية.

الأمر الثاني أن قديمًا في وقته كان زمنًا ليبراليًا حقيقة بمعنى أنه كانت هناك حرية تامة بحيث يقدر أن يكون كيانًا وحده، ويقدر أن يدخل من باب الإنكار فقط، وهذا قد لا يتأتى الآن مع وجود كثير من الهيئات، فالأمور تختلف.

ومن باب الاعتراف بالحق حتى مع من تختلف معه أن الأستاذ الهضيبي وهو أحد أبرز قادة الاتجاهات التي ترى الدخول في هذه المهاترات، فقد كان له موقع في غاية العجب فأنا شخصيًا لا أكاد أستطيع أن أجمع بين هذا التصرف الفردي من الأستاذ الهضيبي، وبين توجه الجماعة كلها في قبولها بالأستاذ حسن الهضيبي وهو أنه أثناء مناقشة القانون المدني - أول قانون مدني- والذي وضعه عبد الرزاق السنهوري، وهو رجل من هؤلاء الذي كرسوا لهذا الباطل أيما تكريس، وهو رجل آتاه الله عقلًا عجيبًا، فوظفه في هذا الباطل، ولديه اطلاع واسع جدًا على كل المذاهب الإسلامية : مذاهب أهل السنة، ومذاهب الشيعة، وله اطلاع على القوانين الوضعية من أول القانون الروماني إلى كل محاولات فرض القوانين التي وجدت في أوروبا ونحو هذا.

ثم بعد ذلك سن أول قانون دون مشاورة عبد الرزاق السنهوري بترجمة حرفية للقانون الفرنسي، وفي هذه الأمور أحيانًا تشم فيها رائحة الترتيب والمسرحيات والتمثيليات وأصبح القانون مجرد ترجمة عن القانون الفرنسي، فكتب عبد الرزاق السنهوري مقالات في الصحف يقول فيها: كيف لأمة لها تاريخ عريق، أن تترجم عن القانون الفرنسي؟!، بل لا بد أن نضع بأيدينا شيئًا يتناسب مع مقوماتنا!!، ثم في آخر الأمر أعطوه ضوء أخضر للعمل فقال: من أجل المدنية الحديثة لا بد أن نقبل بمبادئ القانون الفرنسي!! فلم كان غاضبًا من الترجمة وهي أسهل، وعلى الأقل يظل اسمه فرنسيًا فتكون هذه كلمة منفرة، فقال: سوف نأخذ كل ما يمكن دمجه من الشريعة الإسلامية بقدر الإمكان!!.

وهو الذي كشف السر الخطير وهو أن القانون الفرنسي مأخوذ من المذهب المالكي، ويبدو وكأنه يتعسر عليه القراءة باللغة العربية في المذهب المالكي، ففضل أن يقرأه في القانون باللغة الفرنسية!!.

فعمل القانون فاعترض عليه كثير من الناس منهم الأستاذ حسن الهضيبي : أنه لو ترك المترجَم لكان أفضل لكي يعلم كل الناس من أين أتى، وقد كان مذكورًا في ديباجة القانون أن مصادر هذا القانون: القانون الفرنسي، ثم العادة والعرف، ثم الشرع الإسلامي.

فبدأ عبد الرزاق السنهوري - وهو رجل مجادل ولسن جدًا- يستدعيهم وكان هناك قبل الثورة مجلس نواب تقريبًا أو نحو هذا، فاستدعوا كل المعترضين كي يناقشهم السنهوري، فبدأ كل شخص يقول له اعتراضاته فيخبره أن هناك أشياء مخالفة للشرع فيقول له مثلًا هذه موجودة في مذهب الشيعة الجعفرية، وإذا ناقشه في شيء آخر فيخبره أن هذه موجودة في مذهب الشيعة الزيدية، ويناقشه في أشياء أخرى فيقول له: ستنقح في المرحلة الثانية!! وهكذا...

فلما أتى دور الأستاذ حسن الهضيبي وكان وقتها مستشارًا، فطلبوا منه ذكر ملاحظاته التفصيلية على هذا القانون، فقال: لا توجد ملاحظات، فكرروا عليه السؤال: كيف تملأ الدنيا مقالات في انتقاد القانون ثم تأتي هنا وتقول: لا توجد ملاحظات؟!! فقال: لأن هذا القانون عندي يستوي صوابه وخطؤه، فلا يوجد عندي أخطاء تفصيلية، فلما طلبوا منه التوضيح، قال: هل ذكرتم في ديباجة هذا القانون أن مرجعه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإجماع أهل العلم من بعدهم، فننظر فيما خالف هذا فنصوبه - أي: نعترض عليه-، أم ذكرتم غير هذا؟! قالوا: بل ذكرنا أن مرجع الأمر الرئيس هو القانون الفرنسي!!

قال: إذن فخطأ هذا القانون وصوابه عندي سواء، ولن أقول أخطاء تفصيلية، فهذا الكلام مرفوض برمته، فكان هذا الموقف من الوقفات التي أخجلت هذا الرجل؛ لأن دوره كله كان المجادلة في نقاط تفصيلية، ولو كانت نقاط كثيرة فهو يرد عليها كلها والعياذ بالله.

إذن فالمواقف لا ينبغي أن تجرد عن سياقها التاريخي والواقعي، ويجتزأ موقف بالذات؛ لأن الأفعال يتطرق إليها من الاحتمالات ما لا يتطرق إلى الأقوال، وهذا نقوله في سنة النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فما بالك في فعل العلماء؟! فإن أقواله أثبت عند تعارض القول والفعل، فالأقوال أثبت وأحكم من الأفعال؛ لأن الأفعال قد تحتمل كثيرًا من التأويلات أو على الأقل أخضع الاثنين لبعضهما، فقل مثلًا: حينما فعل هذا الأمر عمله تحت مظلة هذه الأقوال، فهل تعمل هذا العمل تحت نفس المظلة أم تحت مظلة أخرى؟!.

وقد سبقت الإشارة إلى أننا لا نكاد نعرف من خالف في أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون في أحوال كفر أكبر وقد يكون في أحوال كفر أصغر باتفاق كل من تكلم في هذه المسألة، ولكن المعركة المشتعلة جدًا بين كثير من الباحثين حول: ما الذي نضعه في الأكبر، وما الذي نضعه في الأصغر؟! فهناك شيء متفق عليه تمامًا أنه في الأكبر بين كل من يتكلم في المسألة، وهو أن تقول لشخص أن الله حرم الزنا والخمر فيقول: لا لم يحرمه، ومتفق أيضًا على من تقول له أن الله حرم الزنا وحرم الخمر، فيقول: أعلم ذلك لكن هذا خطأ ونحن اكتشفنا أن الصواب في إباحته.

وفي الناحية الأخرى هم متفقون على أن الذي يقول: إن شرب الخمر حرام، وليس فقط ذلك، بل يقول: إنه جريمة والعقاب عليها الجلد، ثم يؤتى بعد ذلك بشخص من أقربائه [قد شرب الخمر] فيقول: الشهود غير عدول، ولم تثبت عليه الجريمة، فهذا كفر أصغر لأنه يخالف في التطبيق وليس في الأصل النظري .

فمن المتفق عليه أن المخالفة التطبيق العملي مع بقاء النظري موافقًا للشرع هو المعلن فهذا كفر أصغر وبينهما مسائل شائكة جدًا يكثر حولها الجدل وهي قضية التبديل فهذا يحتاج إلى بيان .

انتقل الشيخ ياسر بعد ذكر النقول عن الشيخ أحمد شاكر في النقول عن أخيه الأستاذ محمود شاكر، ونقول محمود شاكر ركزت على أن قول ابن عباس ب وقول أبي مجلز :: «ليس هذا بالكفر الذي تذهبون إليه، إنما هو كفر دون كفر» وأثر أنهم يفعلون هذا وهم يرونه حرامًا بيان أن هذه الآثار تنطبق على أمراء بني أمية الذين كان عندهم أنواع من الانحراف العملي وليس النظري، وأن هؤلاء كفرهم كفر أصغر، وأن هذا لا ينطبق على حالات التبديل، فهذه بداية الدخول في مساحة من الجدل الذي لا بد من بيانه.

فكلام الشيخ محمود شاكر : يحتاج إلى بيان آثار ابن عباس وعن غيره في قضية أنه كفر دون كفر وهذا سيكون وقتها مثله مثل الكبائر والذنوب والمعاصي ولكن هذا في الحالة التي بينها – وهذا ما سنبينه لاحقًا- .

ـــــــــــــــــــــــ

الأسئلة:

س/هل يحرم مخالفة القانون الإداري؟

ج/نعم يحرم ما دام أنه يحقق المصلحة، وفي تركه مخالفة للمصلحة.

س / هناك رد على الكلام الذي قلناه أرسله أحد الأخوة، فأخشى أن أغفله فيكون في نفس الأخ شيء، وفي نفس الوقت الكلام طويل فأنا أذكره وأجيب بسرعة.

قضية الحل البرلماني :

أولًا: في قضية الحل البرلماني كان كله تضمين، وليس مناقشة تفصيلية في هذه القضية، وإلا فهناك بحوث سبق أن أشرنا إليها في قضية مناقشة الحل البرلماني، وبالتالي من الممكن أن يكون الأخ معذورًا في تكوينه وجهة نظره غير مكتملة عن الكلام الذي قلناه، ومع ذلك سوف أقرأ الرد الذي أرسله، وأعلق عليه بسرعة، على أنه من الممكن الرجوع في القضية للبحوث الأكثر تفصيلًا.

يقول: يقسم بعض النواب الإسلاميين الدولة إلى ثلاثة أقسام – يعني: أنواع الدول إلى ثلاثة أنواع- : دولة دينية ثيوقراطية مثل حكم الكنيسة والدولة الفرعونية، ودولة مدنية علمانية مثل معظم دول الغرب، ودولة مدنية بمرجعية دينية مثل الدولة الإسلامية.

وأنا أتساءل: هل الدولة المدنية بأسسها المعروفة من: دستور وقانون وبرلمان ضد الدين أم أن القضية تتمحور حول كونها نابعة من الإسلام أم لا؟! وإذا كانت مشاركة الإسلاميين تمييع للقضية فهل الانسحاب من الساحة، وتركها للفاسدين هو ما سيحل القضية؟! وكيف ننتظر من الناس أن يحملوا لواء الدين، وأن يطالبوا بتحكيم شرع الله وقد علم أهل الفساد علموا جيدًا سجية هذا الشعب، فأنهكوه في طلب الرزق، وفتحوا عليه من ألوان الفتن أبوابًا فسيحة، لا تكاد تتقي إحداها حتى تسقط في الذي يليه؟!! وكيف ننتظر من النساء التزام الحجاب وهن لا يرون في الإعلام وغيره إلا الفجور والسفور؟! وكيف ننتظر من الرجال الإقلاع عن التدخين، ومصانع الدخان قائمة على أراضينا؟!.

لن يكون صلاح الأمة إلا في صلاح السلطة هكذا تقول التجارب والممارسات في الدول الإسلامية، وبالتالي فعلى جميع الإسلاميين محاولة الوصول للسلطة مهما كان من تنازلات، ومهما كان من وسائل فالهدف أسمى ويستحق التضحية.

ج/أولًا الإجابة على هذا الموضوع في عدة نقاط:

منها: أن الإسلاميين الذين دخلوا قالوا: إننا لن نلغي شيئًا حتى يوافق الناس، فالسؤال: ما زال قائمًا حتى مع الاعتراض الذي اعترضه الأخ: نائب الشعب أمين فيما يعبر عن آراء الشعب فهل أنت - حتى لو فرضنا أنك حصلت على أغلبية وهذا غير وارد لأن الإسلاميين الذي دخلوا قالوا: نحن لا نطمع في الأغلبية؛ لأن العدد الإجمالي للمرشحين أقل من ثلث العدد الكلي بمعنى أنهم لو نجحوا بنسبة مائة بالمائة فسيكون بنسبة ثلاثين بالمائة.

ثانيًا: أنه لا بد أن هناك أناس يسقطون لا سيما أنه من الممكن أن يقع أمام لاعب كرة، وهذه في حد ذاتها قضية معنوية لا يمكن إغفالها، فهي قضية في غاية الخطورة.

والأمر الآخر: هب أن هذه الأقلية وصلت فماذا ستفعل؟! هل ستستطيع أن تغير الإعلام؟! وهل ستستطيع أن تغلق مصانع الدخان وغيرها من المفاسد؟! والأكثر من ذلك أن الكلام موجود ومنشور وطبعًا أحيانًا بعض الأخوة يقولون: كذب!! لكن الآن هناك فضائيات وتظهر فيها شخصيات بشحمها ولحمها، فمن الصعب جدًا أن تقول أنهم كذبوا على الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وكذبوا على الدكتور حبيب، وكذبوا على الدكتور عصام العريان، فهؤلاء يخرجون بشمحهم ولحمهم، ويقولون: سوف نحتكم إلى الشعب، وأقصى قضية أثار الإسلاميين حولها جدل ضخم قضية معاهدات السلام، ماذا ستفعلون فيها؟! فقال: نعرضها مرة أخرى على الشعب!!.

فالقضية أن هذه لعبة قواعدها معروفة، فكيف تنتظر كنائب عن الشعب الذين أعطوك أصواتهم يدخنون فكيف تخونهم؟! فالآخرون سيقولون: أنت خنت الشعب، ولكن اعرض الكلام على الشعب ثم انظر هل سيوافق أم لا؟! اعرض الكلام على النساء المتبرجات اللاتي انتخبنك، ثم انظر هل يوافقن أم لا فهنا؟! هم في الأصل أقلية وقال: نحن لا نطمع لا في دفع القوانين ولا في عرقلة قوانين!!.

وأيضًا هناك قضية نحب أن ننبه عليها وهي أن مستوى الصراحة في الكلام يتفاوت، فنحن ربما اكتفينا فقط باستنكار التنازلات التي قدمت لكيلا نفتن الناس الذين لا رصيد لهم إلا العاطفة، فلن نأتي للذي ليس عنده إلا العاطفة، ونقول له: العاطفة لا تنفعك، لذا تركناه بعاطفته.

فالمقصد أنه لم يكن هناك قصد إلى انتزاع العاطفة ممن لا يملك غيرها، ولكن نحن نتكلم كحل نعرضه للذي يملك غيرها من أن هذه مسألة جانبية.

فهنا أنتم أقلية بكل ما تعنيه الكلمة من معاني، وحينما تكون أقلية قوية فكل الباب الذي سيتركز الكلام فيه: باب مراقبة الفساد، وباب رغيف الخبز، ولقمة العيش، وهذا الذي تقول أن هذا الذي انهمك فيه الناس!!, ومع مراجعة البرامج التي وزعت فسنرى أن هناك خمس أو ست نسخ واحدة منها تخاطب العلمانيين القح من أننا سنترك وليمة أعشاب البحر تطبع لكن على نفقة صاحبها!! وهذا الكلام قاله بشحمه ولحمه، ولم يكن مستترًا، وسنترك حرية الإلحاد، وهناك برنامج آخر كان يقول فيه: مراقبة الفساد فقط!!، فإن كنت تقول: أنهم أنهكوا الناس من أجل رغيف العيش، ولقمة الخبز، فنحن نكرس هذا الأمر من أجل إصلاح هذا الأمر.

وهناك دعايات أخرى كانت تقول: هناك خطط مستقبلية لا يمكن أن تتحقق إلا على أيدي من يمتلك أغلبية مطلقة وليس فقط خمسون في المائة بل ستة وستون في المائة من أجل أن يغير تغييرات جذرية مثل التي يقولونها، وهذا أمر واضح أنه غير وارد لا في هذه الدورة ولا في التي بعدها ولا غيرها.

ففي الكلام هنا ازدواج في الخطاب فحينًا يقول: أنا سأغير من فوق، فأقصى أمانيك ابتداء أنك لا تصل لهذا الأمر، بل تكون ديكورًا ديمقراطيًا لنظام علماني، وليت المسألة بدون ثمن، بل ستتنازل عن المبادئ الإسلامية كي تنكر على من يسرق قوت الناس، وأقصاها أن تقول له: نريد أن نطبق الإسلام، فسيقول لك: صوِّت، وها هي ذي الناس أمامك، وسيكون التطبيق جزئي، وقد ذكروا الموقع الرسمي على النت: نحن لن نفرض قوانين ولا سنعطل قوانين ولكن سنراقب الأداء!!.

فنحن نقول: إذا كان الكلام بلا ثمن، وننتظر منه تغيير حقيقي، فلنعرض الأمر للبحث، لكن مع وجود الثمن ومع استبعاد وجود تغيير حقيقي، مع أن أقصى طموحاتهم 125من 444 فلو افترضنا أهم سيكونون 100 من 444 ماذا سيفعلون وقتها؟!.

وعلى البوابة تنازلات يجب أن تقدم، فيقولون: افرض جدلًا أنك أخذت أغلبية، ولو أجاب بالواقع أنه لم يدخل بغير 125 كمجموع كلي، فيقول له: افترض أنك ذات أخذت أغلبية ماذا ستفعل في قضايا النصارى؟! سيقولون: له المواطنة أما الجزية فكلام قديم، وليس لهذا الوقت!! وماذا ستفعل في قضايا المرأة؟! فستكون الإجابة: الحرية والمشاركة!! وماذا ستفعل في القضية المحورية وهي السلام مع اليهود؟! سيقول: أعرضه على الشعب!! وهذه أقصى درجة تحفظ قيلت، وهؤلاء أيضًا أناس خرجوا بشحمهم ولحمهم ليتكلموا.

الأمر الثاني افترض أن هناك تغيير حقيقي منتظر مع تنازل، فهل القضية وجود تطبيق لبعض جزئيات الإسلام، أم أن ذلك لتحكم عقيدة الإسلام الناس؟!!.

فقد عرض على النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أكثر من مرة قضية أن يكون ملكًا فلماذا لم يرض؟ وينتظر الجيل الثاني فيحكم فيهم بالإسلام، فقد كان الجيل الثاني يريد أن يسلم، فلم يكونوا معترضين على دعوة النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  غير عشرة أفراد أو أقل وكان أبناؤهم قد أسلموا بمجرد فتح مكة، وبعضهم قبل فتح مكة، فخالد بن الوليد كان ابن رأس من رءوسهم، وكذلك عمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل ابن فرعون هذه الأمة، فكل هؤلاء كان الإسلام في قلوبهم، ولكن كان هناك ضغط، إذن لو كان وافق أن يكون ملكًا  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لكانوا قد مات أكثرهم في هذه الفترة ولكن لا تأتي القضية بهذه الطريقة .

وموسى  ـ عليه السلام   ـ  نشأ في قصر الفرعون وهذه حكمة إلهية لكي يعلم الناس أن فرعون الذي يقول: أنا ربكم الأعلى يجهل عاقبة أمره، فربى من سيكون له عدوًا وحزنًا، وبدأ يكون له كلمة مسموعة لدرجة أن الإسرائيلي الذي رآه مارًا كان بقدرته أن يتشاجر مع مصري من قوم فرعون، وحصل الشجار مرتين، عندما يرى الإسرائيلي موسى  ـ عليه السلام   ـ  مارًا بالطريق فيتشاجر مع مصري؛ لأن موسى  ـ عليه السلام   ـ  وصل من التأثير إلى درجة يكون أكثر تأثيرًا من كثير من قوم فرعون.

فلما قال موسى  ـ عليه السلام   ـ  ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: 18] كان هو الذي كشف أمر موسى قال ﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ﴾ [القصص: 19] فالراجح أن الذي قالها الإسرائيلي؛ لأنه هو الوحيد الذي كان يعرف حادثة مقتل الأمس.

فهذه طبيعة الجمهور يريد منك مكاسب مؤقتة، ثم يتركك عند أول منحنى، فهل هذا الذي سيعيد دين الله تبارك وتعالى بهذه الطبيعة؟!.

فجمهور بني إسرائيل كان يريد من موسى  ـ عليه السلام   ـ  أن يحقق لهم مكاسب جزئية، فقدر الله تعالى أن يخرج عشر سنوات، فهل كانت هذه سلبية؟!، وهل كان هذا انسحاب من الساحة؟!، فقدر الله  ـ عزوجل  ـ  بُعْدَ موسى عن الساحة، وأصبح الأمر عكسي، بل إن الدعوة لا بد أن تكون خارج الكيان الباطل، وتكون متميزة لا تميع فيها.

فنحن نريد أن نعيد ترتيب الأولويات بمعنى هل تطبيق بعض جزئيات الإسلام على حساب الاعتقاد الكلي بأن الحكم لله تعالى، وأن شرع الله تبارك وتعالى يجب تنفيذه؟! ولم يقل الأخ المعترض ما هي التنازلات مقابل هذه الأمور، فهل هذه التنازلات مجرد جهد بذل، فنحن لا نسمي هذه تنازلات، وانظر في قضية المرأة وابك بدل الدموع دمًا أن الأخوات هم الذين يزجون في مواجهة الجنود الأشاوس، وتجد بذاءات لفظية، واعتداءات بدنية.

وأيضًا نقول: إن هذا الكلام لم يكن سرًا بل كان على مواقع الإسلاميين، يريد أن يفضح في عدوه فيصور أختًا يعتدى عليها، ويتحرش بها جنسيًا، ويقولون: انظروا كيف فعلوا بالنساء؟! فمن الذي وضع النساء في هذا الأمر؟!، أما إذا اقتحم على شخص بيته، واعتدي على عرضه فهذا لا يملك إلا أن يفوض أمره إلى الله، أما من كان قادرًا على أن يسير بعيدًا عن هذا لأجل مكسب جزئي محدود!! أفمن المكسب أن نضحي بأعراض النساء؟!

فنحن نريد أن نعرف ما هي التنازلات بالضبط؟!، وما هو المنتظر بالضبط؟!، فالمنتظر معارضة قوية، وهذا أقصى انتظار.

ولا نريد أن خوض في الحسابات السياسية الإقليمية والدولية وإلا فلماذا يضغط عليهم تارة، فلا يصل غير واحد أو لا أحد، وأحيانًا يكون عددهم يكون ثلاثين أو أربعين أو سبعين أو مائة والمحصلة واحدة، فالمرة التي لم يكن إلا الأخ من حلوان وقع نفس الموقف وقدم نفس الاستجوابات، فالواحد مثل العشرة ولا أعرف ما قيمة العدد في ذلك؟! وليست القضية أن هناك مبادئ صارمة تطبق، بل تارة تمنع الناس من الخارج، وتارة يدخلون بعدد على حسب ما يشاؤه العالمانيون وتارة الناس يدخل ويكون العد سليماً فهناك إدارة تدير الأمر.

والأمر الآخر: وهو من المهم أن يرد عليه أن هناك دولة مدنية بمرجعية دينية، والكلام الطويل الذي ينقض أوله آخرَه، وينقض آخره أولَه، فالدعاة إلى الله لا يلجئون إلى مثل هذا، فإن المنشطات التي نراها مثلً : نطالب بدولة مدنية ثم ذات مرجعية دينية، فهذه تقال في الخطاب الذي يوزع على مستوى القاعدة، فنحن نريد أن يكون الخطاب واحد؛ لأن الآخر يقول: مدنية ويخفي كلمة «ذات مرجعية دينية»!! ولأن المحاور علماني خبيث فلن يتركه هكذا، فيسأله ما معنى دولة مدنية ويعيد عليه السؤال: هل هناك تداول للسلطة أم لا؟ وماذا لو اختار الناس الرأس يكون كافرًا؟ فسيقول: لا بأس ولا إشكالية في ذلك!!.

ونكرر أن الكلام موجود، ويصعب أن تقول أن هذا كذب، أولًا لماذا نأخذ مصطلحات غيرنا؟!، فنحن نريد أن نطبق شرع الله تعالى فلما لجئنا لهذا التقسيم؟! فإن الدولة الدينية بالمفهوم الغربي لا وجود لها في الإسلام، وهي أن يقولوا أن هناك شخص هو ظل الله في الأرض، فهذا ملهم، وهذا يحل به روح القدس إلى غير ذلك من الأمور، فهذا  كله ليس له وجود عندنا.

فعندنا أن من يحكم يطبق شرع الله، وشرع الله موجود أمام الناس كلها، ولن يدعي فيه أنه عنده مزيد علم منه، أو أنه يملك حق تعديله أو تبديله، وبالتالي لما يسألوننا: أنتم تريدون دولة دينية؟! نقول لهم: هذا المصطلح مصطلح غامض فهذا الذي تقولونه لا وجود له في الإسلام.

وأيضًا الدولة المدنية لا وجود لها في الإسلام، فنحن نقول: دولة ربانية نطبق فيها شرع الله تعالى، إذن فكلمة مدنية بمرجعية دينية مثل كلمة ديمقراطية فيما لا يخالف الشرع!!، ومثل هذه العبارات التي ينقض أولها آخرَها، ومثل كلمة: «نحن دعوة سلفية، وحقيقة صوفية» نفس طريقة محاولة الجمع بين المتناقضات في سياق واحد، فلو كان الكلام «هيئة اجتماعية، وهيئة رياضية» فيمكن أن يجتمعا معًا، أما «دعوة سلفية، وحقيقة صوفية» كيف يكون الاجتماع بينهما؟! فلم يقل روح صوفية بل قال: «حقيقة صوفية!!» وقد يقال: إنما كان يعني به كذا وكذا...

فإن المصطلح شائع ومستقر، فلا يصح أن آتي إليه وأفسره على حسب هواي!! فليس من الممكن أن أنادي بالديكتاتورية التي هي إقامة الحق!! فهذا المصطلح وجد ولا أملك حق تغييره، فمصطلح الديمقراطية موجود، والذي وضعه جعل له تعريفًا، فإن حكمت عليه فإنما أحكم عليه من هذا المنطلق، فالدولة المدنية لا يصلح أن أقول بمرجعية دينية أو من غير مرجعية دينية لأن لها عوامل ولها مقومات، فلسنا نملك - ونحن جالسون في هذه البقعة الصغيرة من الأرض ولا حتى في أي مكان- إعادة صياغة التعريف، فإننا حينما نأتي نتكلم على شيء نتكلم عليه كما هو عند أهله، فإن العالمانيين يقولون: نحن نرفض الإسلاميين؛ لأن الإسلاميين ظلاميون يخادعوننا ويقولون: إذن سنسمي الرئيس مولانا!!، وآخر يقول: لا بل سنسميه الراعي، كراعي الغنم، وهذه مقالات تكتب.

فهو يقول تعريفًا لكلامه، وأنت تقول له أيضًا: أنت لا تملك تغيير مصطلحاتي، وينبغي أن يكون هذا ردك عليه، فنحن فحينما أقول بتطبيق الشرع جعلت له تعريفًا، فإن أحب أحد أن يناقش هذه الفكرة فليرجع للتعريف الذي عرفته، ولا يرجع لتعريف آخر، وهذا نقوله للعالمانيين حينما يخلطون المسائل، ويقولون عنا كلام لم نقله فلا بد أن نلتزم معهم كما نلتزم مع غيرهم، وليس لأجل أن هذا وفاء للعهد معهم، ولكن نقول ذلك لوضوح المسألة فأنت لا تملك إعادة صياغة تعريف الديمقراطية أو الاشتراكية أو العالمانية وكل هذه مصطلحات موجودة عند أهلها، فالأولى أن يقول الإسلام بدلًا من أن يقول: دولة مدنية بمرجعية دينية!! ليكون واضحًا في ذلك لأنه سيقال لبعض الناس: دولة مدنية ومرجعية دنية بقدر معين!! وآخرون على العكس يقال لهم: دولة مدنية بمرجعية دينية، فهذا من ضمن الثمن الذي يدفع، أننا نضطر إلى الازدواج في الخطاب كي نخاطب كل قوم بما يرضيهم!!.

وهذه ليست عادة الدعاة، وليست عادة من يريد أن يغير ومن يصلح، بل قل الحق رضي الناس أم سخطوا، فهذه قضية لا بد من اعتبارها جيدًا, إذن فلا نقول: إن الناس لن يتغيروا إلا لما نغير من القمة!! فإن القمة التي يقولونها مرجعيتها إلى الناس فكيف سيمكن التغيير؟!.

وكذلك أحالنا الأخ على التجارب، فانظر إلى الحكومة الإسلامية في تركيا تمنح تراخيص البغاء!!؛ لأنه لا يمكنها أن تغير القانون مع أنه قد وصل إلى أعلى درجة، فقد حصل على الأغلبية، وشكل الحكومة، وكل شيء لا تتمكن من تغييره لا بد أن تقوم به ولا بد من احترام إرادة الشعب، وأقصى ما فعلوه أن أتوا بواعظ في مكتب تصاريح البغاء، فتأتي البغي لكي تخرج التصريح فيحاول الواعظ أن ينصحها، فهذا قدر من الخير، ولكن كيف توقع على الباطل، وتأذن فيه؟! فالحل أن يبقى هذا الواعظ في الخارج، وهو وإن كان لا يصل لكل بغي على حدة ولكن على الأقل يكون إنكار منكر؛ لأن هذه ستخرج ومعها توقيع التصريح وعليه توقيع الإسلاميين!! وإن تابت إحداهن فهناك العشرات والمئات من البغايا.

فالتجارب موجودة، وتقريبًا لا يوجد وصول غير تركيا، وبالطبع إيران ذات نمط شريد جدًا في طبعها، والنمط الإيراني يكرس الكلام الذي قلناه ولا ينفيه، وهذا قد يقودنا إلى كلام جانبي آخر، أن القضية أن الديمقراطية أن يأتي طرف قوي يفرض ثوابت، ثم يترك متغيرات قليلة كهامش يتناحر عليه الناس لكن هذه الثوابت مكرسة عبر هيئات لا تسمح بتخطيها أو التنازل عنها، فالجيش في تركيا مثلًا يقول لن نتنازل عن عالمانية الدولة.

وهم مختلفون في تركيا لو أن الحكومة قدمت مشروعًا برفع الحظر عن الحجاب هل يعتبر هذا اصطدام بثوابت الدولة تقتضي تدخل الجيش أم لا؟! وإلى الآن تريد الحكومة أن تقنع الرأي العام أن هذا لا يصطدم بثوابت الدولة العلمانية، والجيش يقول: لا، وكل منهما يهدد، وإلى الآن لم يتم تنفيذ شيء.

فالتجربة الإيرانية أن هناك ثوابت فرضت، والذي فرضها طرف قوي له مرجعية دينية وإن كانت شيعية ولا نريد أن ندخل في حوار جانبي فنتكلم عن موقفنا منهم.

ففرضت ثوابت وهناك هيئات تحمي هذه الثوابت، فلا تقل أنهم وصلوا بالديمقراطية، بل إنهم طبقوا الديمقراطية بعد إرساء ثوابت إسلامية شيعية، وهذه تساوي أنها في كثير من تفاصيلها غير إسلامية، ولكن ليس هذا هو موضوعنا،  فالمقصود أنهم أرسوا ثوابت للدولة لا يمكن للبرلمان ولا الرئيس ولا غير الرئيس أن يخل بهذه الثوابت.

وبالنسبة لتجربة الكويت أظن السائل يشير إليها، لا سيما أن الاتجاه الذي يخوض الانتخابات في الكويت ذو قاعدة سلفية، وحصل على فتاوى من الشيخ ابن باز والشيخ العثيمين رحمهما الله بجواز الدخول فنقول: إن تجربة الكويت شبه تجربة الشيخ أحمد شاكر، فليس هناك تنازلات، وكل الكلام فيه ثوابت عقدية واضحة، ومع ذلك فمازالت المسألة عندهم محل جدل مع كونهم قد حققوا مكاسب جزئية، فمنعوا الخمر مثلًا، وكان محل البحث فيه أولًا التأكيد على عدم وجود تنازلات، ثم بعد ذلك يبحثون هل يمكن وجود مصالح أم لا؟.

فالقضية تغيير الأولويات فهل دورنا هو وجود الدين كواقع في قلوب الناس وحياتهم أم تطبيق بعض التشريعات الإسلامية؟! فالدين أشمل بكثير من هذا الأمر، فالعقيدة الإسلامية الحية التي أوجدها موسى  ـ عليه السلام   ـ  في قلوب بني إسرائيل قبل أن يأذن الله له بالهجرة من مصر، هذا إقامة للدين أم ستقول أن كل الأنبياء كانوا سلبيين؟ فموسى  ـ عليه السلام   ـ  لم يسع لإقامة حكم، وهذا غير المرحلة التي قبل الرجوع من مدين، فنحن نتكلم عن مرحلة بعد الرجوع من مدين، فظل يدعو، ويأمر بني إسرائيل بالصبر واتخاذ بيوتهم قبلة أي: متقابلة لكي يتحابوا ويتآلفوا ويتعارفوا وأن يطبقوا شرع الله فيما يطبقون حتى أذن الله له بالخروج، وهذا مثل الذي فعله النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في المرحلة المكية ومثل الذي فعله سائر الأنبياء.

ونحن لا نقول أن نترك كل شيء، فنحن ندعو إلى الله مع الأخذ بأن هناك أحدى الثوابت العقدية أن ما شاء الله كان وأن ما لم يشأ لم يكن، وبالتالي فالله تعالى لما اشتدت العروض والمساومات على النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أنزل عليه سورة كاملة لكي ينهاه عن هذه العروض، وهي سورة الكافرون، فقد كانت في عرض من هذه العروض ونزلت فيه هذه السورة.

وفي سورة القلم:﴿فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين ﴾ إلى آخر الآيات، فالآيات طوفت بالنبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في معاني قدرة الله، وأن ما شاء الله كان، وأن ما لم يشأ لم يكن، وضمنت قصة أصحاب الجنة، لكن يتضح أن الله متى شاء سلبهم أسباب قوتهم المادية ثم قال: ﴿فذرني ومن يكذب بهذا الحديث﴾ أي: اتركني فأنا رب هذا الكون، وأنا الذي أجازيهم، وليس معنى ذلك أن تترك الأخذ بالأسباب، ولكن لا تتعجل النتائج، فالنتائج قد وقت الله تعالى لها قدرًا معلومًا، ولكن دع الأمر وانصرف إلى ما في يدك من أسباب شرعية، وهذه مسألة مهمة جدًا فليس أي أسباب على إطلاقها، وإلا فقد عرضت على النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أنواعًا مما يشبه هذه الأسباب.

فالذي اقتنع بالحل الطويل الشاق الذي هو تربية النفوس داخل أوساط الملتزمين، ونقْل هذه التربية بكل ممكن ومستطاع إلى أكبر قطاع ممكن من المسلمين، نقول له: لا يغرنك زخارف الحلول الأخرى، فالبعيد الذي لا يمتلك إلا العاطفة تركناه وشأنه، وهذه قضية مهمة ينبغي أن نستحضرها عند مناقشة هذا الكلام وعند معالجته، ولكن من باب إحقاق الحق نرجع ونتساءل لو أن الإسلاميين ينبغي أن يتكاتفوا فما زلنا نتساءل: لماذا ترك عادل عيد منفردًا رغم إنه من أبرز من دشن لهذا الاتجاه، واكتسح الذي معه في نفس الدائرة من أول الأمر، بينما دعم غيره ممن لا يحملون لافتات إسلامية أصلًا؟!.

فهذا السؤال يمثل بالنسبة لي لغزًا كبيرًا جدًا ينبغي على الإسلاميين الذين يخوضون هذه الأمور أن يمتلكوا الشجاعة الكافية للإجابة على هذا السؤال، وعلى غيره من الأسئلة، لأننا نقول أننا نخشى أشد ما نخشاه أن يكون الولاء على الراية، وأن تكون الحسابات حسابات محلية لراية محددة، وأن تقدم حسابات هذه الراية على المصالح العليا للأمة، والذي يزعم غير هذا يقول لنا: لماذا ضحي بعادل عيد، ومن قبله؟! لماذا ضحي بمنتصر الزيات؟! ونحن لسنا مع هذا ولا ذاك، فنحن ضد الحل البرلماني كله، ولكن داخله نقول: لماذا لم يدعم هؤلاء الإسلاميين بينما دعم بعض النصارى؟! وإن كانوا لم ينجحوا ولله الحمد.

وكذلك دعم بعض العلمانيين على جولتين، ونجحوا رغم الجهود التي بذلت من قبل منافسيهم لكن كان الدعم القوي من الإخوة لهؤلاء أوصلهم.

ودائماً نقول: إن القاعدة في هذه الاتجاهات تثق ثقة عمياء في القيادة، ولكن لا أقل من أن تسأل هذا السؤال، وتحصل منه على إجابة شافية.

وسؤال آخر وإن كان هو نظري محض لو تخلينا عن السلبية وقلنا نشارك لكن بمنهجنا: فهل هذا سيكون محل ترحيب؟! والذي حدث مع عادل عيد ينبئ بأنه لن يكون محل ترحيب، إذن فدعونا وسلبيتنا لأننا لو أصحبنا إيجابيين فلن نكون إيجابيين على مبادئ الغير، وبالتالي فالأولى أن يتركونا سلبيين.

أرجوا أن تكون الصدور قد اتسعت للإجابة، وقد حاولت بقدر الإمكان أن أجيب على كل الجزئيات، وحاولت بقدر الإمكان أن تكون العبارات متوسطة الحدة، وإن كنت لا أزعم أنها قد سلمت تمامًا منها، ولكن أحيانًا يستلزم الرد شيئًا من هذا، فأرجو أن يسمح لي، ونسأل الله  ـ عزوجل  ـ  أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1567 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1708 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2035 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2038 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1670 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1431 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥