السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (4

قضية الحاكمية بين الإفراط والتفريط- الفرق بين الفتوى والحكم- الكفر الأكبر والأصغر في قضية الحاكمية...

(الحاكمية (4
عبد المنعم الشحات
السبت ٠٧ فبراير ٢٠١٥ - ١٣:٥١ م
2047

الحاكمية (4)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

ما زلنا في بعض النقول المتعلقة بتفسير الآيات المتعلقة بقضية الحكم بغير ما أنزل الله، وقد سبق أن ذكرنا أننا إذا حصرنا الكلام في دائرة الإسلاميين، وإلا فهناك من الزنادقة العالمانيين من ينازع في قضية تحكيم شريعة الله  ـ سبحانه وتعالى ـ ، أو ينازعون أصلًا في وجود شيء يسمى شرع الله، فقد يزعمون أن ما ذكر في الكتاب والسنة من الأحكام من قبيل ضرب المثل إلى غير ذلك من الأقوال السفيهة التي ربما تكلمنا عليها بشيء من التفصيل في قضية العالمانية، وما فيها من الأباطيل. 

إذا تكلمنا داخل دائرة الإسلاميين في الوقت المعاصر فسنجد أن هناك اتفاق على أن قضية الحكم بغير ما أنزل الله من باب الكفر، وهذا لأن الله  ـ عز وجل  ـ  قال: ﴿ومن لم يحكم بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾.

وهناك اتفاق على نقطة ثانية وهي أن هذا الكفر فيه تفصيل فمنه: ما هو أكبر، ومنه ما هو أصغر، ولا نكاد نعلم من يطلق القول بأنه أكبر بإطلاق، ولا من يطلق القول بأنه أصغر بإطلاق.

ثم إن هناك اتفاق ثالث على أن هناك صور تكاد تكون متفق عليها بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة بأنها كفر أكبر، وهي التي فيها جحود لوجود حكم الله  ـ عز وجل  ـ  أصلًا، أو جحود لأنه هو الحق أو العدل أو أنه هو الملزم، فإما أن يقول أن الله تعالى ليس له تشريع إما مطلقًا أو في قضية مجمع عليها أو معلومة من الدين بالضرورة، وإما أن يقول ليس هناك شرع أصلًا، وهذا كلام يقوله بعض العالمانيين.

وللأسف نضطر دائمًا أن ننبه إن المساومات التي يجريها كثير من الإسلاميين على هذه القضايا مساومات في غاية الخطورة؛ لأنه يقبل أن يجلس على مائدة الحوار، ويكون هذا رأي محترم، فمن ضمن الآراء التي يجب عليه أن يحترمها الرأي الذي فيه أنه ليس هناك شرع أصلًا، وليس هناك شريعة إسلامية أصلًا، وأن هذه الأحكام كانت من قبيل ضرب المثل، وغير ملزمة لأحد لا في زمن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ولا بعده!! وهذه أشد درجات التطرف والكفر والزندقة والعياذ بالله.

وسنخرج التيار السياسي من الحسبة ونكتفي بحكاية أقوال الإسلاميين في قضية الحكم بغير ما أنزل الله؛ لأن هذا التيار السياسي عنده ازدواجية في الخطاب، فخطابهم  عند الكلام على تطبيق الشريعة يمكن أن يستعير خطابات سيد قطب ويقول: هذا واحد منا، وهذه أحد الاتجاهات الغالية، ولعله يوسع دائرة الكفر الأكبر أكثر من غيره، وحينما يجلس في الفضائيات، ويكلم النخبة السياسية سيكون عالماني أكثر من العالمانيين، وهذا الواقع الآن فهو يقبل بكل معطيات العلمانية , فيرى أن الشرع غير ملزم ولكن هو بصفته له جذور دينية مقتنع بآراء الشرع، وينسبها إلى نفسه وسيدافع عنها سواء رضوا أم لم يرضوا!! وكل هذا يشمل الصغير والكبير، ولذلك كانوا يقولون: هذه مرحلة وستمر ومجرد أن نصل إلى عدد المقاعد المطلوب سيحدث التغيير.

وكثيرًا ما نضطر إلى أن نستطرد استطرادًا يسيرًا لكي نتابع ما الذي يحدث؛ لأنهم عقدوا ندوة حول تحليل وصول الإسلاميين إلى هذا العدد الكبير من المقاعد في البرلمان، ودعي إليها كل النخبة - وهي الحثالة في واقع الأمر عندنا فهم رؤوس الكفر والضلال والزندقة- فجلسوا وناقشوا الكلام فقالوا: ما زلنا ينتابنا القلق بالرغم من كل ما قلتموه!! وهم جلوس يسمعون؛ لأن قواعد اللعبة تقول أنه لا بد أن يسمع للنهاية، فسألوهم: لماذا ينتابكم القلق؟ فقالوا: لمن شعار السيفين؟ فأنتم قلتم لن نحارب الناس الذين في الخارج!! فهذه الازدواجية مشكلة فمن ستحاربون إذن الناس الذين في الداخل؟!.

وللأسف فإن هذا أحد الأسئلة المشكلة جدًا التي تبحث عن إجابة: إذا كنا سنلغي الجزية إرضاء للعلمانيين والزنادقة، وسنميع قضية الولاء والبراء، وسنقول الشريعة غير ملزمة، فلماذا بقاء هذين السيفين ولا يتناول عنهم؟ وهذا سؤال لنا نحن، فَكَمُّ هذا النقد لهذا الشعار ومع ذلك يتمسك به!! وبالمقابل هدمت أشياء كثيرة من أصول الإسلام كقربان لهذه العملية، ثم نكون نحن المتمسكون بالقشور!! فلو قلنا: إنها قشور فهي آتية من الشرع، أما هذا فتصميم شعار من الممكن أن تصمم غيره، فلما صمم شعارًا غيره لم يتنازل عنه، بل وضع هذا في مكان، وهذا في مكان، وذلك لأنه شعار من أيام الإمام المعصوم.  

وهم في واقع الأمر لم يصرحوا بعصمته ولكنهم يخلعون عليه نفس الصفات الصوفية والشيعية بحيث يكون كل شيء قابل للتفاوض إلا هذا الشعار، وهذا شيء في غاية العجب، والآخرون لا يقولون أنه أحزنهم من هذه الجهة، ولكن سؤالهم لمن يوجه هذا الشعار؟ فإن كان هذين السيفين موجهين للداخل فأنتم إذن تؤمنون بالإرهاب، وإلا فلتمحوا هذين السيفين، وهم لم يقولوا سنحارب في الداخل ولا في الخارج ولا سنمحوهما السيفين، لأنه لا يمكن أن ينطق بالإجابة صراحة وهي: أننا لن نمحوهما كمسألة تاريخية، فإن هذا رمز تاريخي لا يمكن التنازل عنه!!.

أما الثوابت الشريعة فيتنازل عنها، وهذه قضية في غاية الخطورة، وعمومًا فهم قد عقدوا الندوة وجلسوا فانتقدوا هذا الشعار، ولم يملك الإسلاميون جوابًا على هذا الشعار، فاعتبروها قضية ومرروها، وأخبروهم أن الكلام لم يزل غامضًا، فنحن نريد كلامًا واضحًا جدًا في قضية الثوابت الديمقراطية: هل أنتم مؤمنون بها للنهاية أم لا؟ مثل قضية المواطنة، وبدأ أناس يهاجمون، وأناس يدافعون، وتكلم أحد النصارى الذي أخليت له إحدى الدوائر، ورغم ذلك رسب وهو نائب رئيس حزب الوفد، وقال: من الذي قال أنهم خطر علينا، بل هم مشكورون أنهم أخلوا لنا الدائرة، وغيرهم لم يخلوا لنا الدائرة وهو الوطني، فهم بالنسبة لنا أفضل من غيرهم.

ولكن مع هذا أيضًا نريد إجابة على نقطتين: - والتي لم يقم أحد للإجابة عليهما- وسأل عن قضية المواطنة والتي يجيب عنها الإسلاميون إجابة عامة غير واضحة، وهم يريدونها تفصيلية بكل فروعها، فالوطنيون متهمون بأنهم لا يطبقون قضية المواطنة بدرجة كافية، وأن هناك تمييز عنصري للمسلمين ضد غيرهم، فهم يقولون للإخوان حينما يعدون بالإصلاح: أعطني مواطنة حقيقية، فالمواطنة المطبقة الآن والتي توافق عليها نحن غير موافقين عليها، فطالما أنك تريد إصلاحًا فأصلح قضية المواطنة التي تشمل: تمثيل سياسي، وتمثيل وزاري، ورفع القيود عن بناء دور العبادة، ومطالب كثيرة طلبوا منهم بيان موقفهم الصريح منها، مع كونه لم يقم ليقول: إن درجة المواطنة الموجودة الآن تكفيكم ولا يستطيع أن يقول ذلك، ولكن يقول: سوف نجري إصلاحًا في هذا الجانب .

وأيضًا طالب نفس الرجل - والذي كان يشكرهم لأنهم أخلوا له الدائرة- برد في قضية السياحة الترفيهية، وكلمة الترفيهية لها سبب لأنهم عندما يتكلمون يقولون أن السياحة ليس فيها شيء، إنما فيها عظة واتعاظ وعبرة بالأمم السابقة، فيقول له: نريد رأيًا واضح في السياحة الترفيهية التي هي [عبارة عن تخصيص] شواطئ  للفسق والفجور!!.

فالمسألة ليست كلامًا يقال ارتجالًا، وإنما يحدد نقاط محددة، فيقولون لهم: قد قلتم في السياحة عمومًا كلام حسنًا، ولكن نريد كلامًا في التفصيل، في الفسق الصريح الموجود في هذه الأماكن، نريد موقفًا واضحًا في موضوع السياحة الترفيهية، وبحمد الله معظم الناس لا يقرأ ولا يسمع وإلا المفاسد لكانت أعظم كثيرًا: من انفتاح أبواب الكفر، وإن كان من جانب آخر سيعرف الناس: لماذا نقول: إن الموقف في غاية الخطورة؟.

فالمسألة أن الثمن باهظ، وإن كان يظن البعض، أننا نقصد بالثمن الباهظ أنه ما قدمه الناس من بذل وإيذاء وضرب، فليس هذا هو الثمن الذي نتكلم عنه، وإن كان الثمن الذي قدم من أعراض النساء ثمنًا باهظًا أيضًا، فلما يضربون ويعتدى عليهم بالإيذاء اللفظي، ناهيك عن البدني من كشف العورات أو غير ذلك مما لا نود أن نذكره تفصيليًا فهذا ثمن باهظ، ولكن هذه ليست القضية، وإنما القضية أن الدين كله قدم والباقي منه يتم التفاوض عليه!!، فأكثر شيء يمـكن فعله هو السكوت.

والآن وصل الأمر إلى أن كل هذا، ومطلوب أيضًا توضيح إضافي للقضية الباقية مثل المواطنة المنتقصة لغير المسلمين الآن، هل في البرنامج أن يحسنوها، ويجعلوها مواطنة حقيقية أم أنهم مثلهم مثل غيرهم؟! إذن بناءً على هذا الكلام فغيرهم أحسن وهذا هو الكلام السياسي الذي يقال.

والكلام على قضية السياحة الترفيهية من الملاحظ أنه لم يسأل عن باقي السياحة لأنهم قالوا: سنتركها، ولكن سأل عن السياحة الترفيهية سياحة العري، وينال الكلام الإعجاب لدرجة أنه يكتب على الموقع الرسمي لهم أن الرأي العام للندوة أنه لا يوجد خوف، ويكتب الكلام بتفصيله، ومن ضمن الكلام نقلهم لشكر هذا الرجل لهم أن أخلوا له الدائرة، ولكنه يريد إجابة عن هاتين النقطتين، والأخرى التي انتقلت من عددت أحزاب، وكان آخر أحوالها أنها دخلت مستقلة فشكرتهم أيضًا أنهما أخلوا لها الدائرة، وكانت أيضًا تريد إجابة على نفس السؤالين، بالإضافة إلى أمر لكي تتكرم عليهم وتعطيهم جواز مرور أو تكون من إحدى من يدعوا إلى وجودهم على الساحة، فقالت: نريد تغيير الإسلام هو الحل وأن يجعلوها الديمقراطية هي الحل!!.

وننبه أن من المواطن المحسومة عندنا أن الذي يقول أن  الشريعة غير ملزمة، أو من يقول إنه لم يكن هناك شريعة، وأن هذه الأحكام مجرد ضرب للمثل، أو أنها يمكن أن نغيرها، وباتفاق بين جميع من ينتسب إلى الإسلام أن هذا كفر، وهم لم يقولوا: إن هذا ليس بكفر ولكن قالوا عن هذا: حرية رأي!! كما أنهم يجلسون مع من يقول ذلك فيبجلونه ويحترمونه ويقولون له: قل رأيك، وأقول رأيي، ونحتكم إلى الجمهور!! وليس هناك مشكلة!!.

فصار الآن بهذه الطريقة للآراء الكفرية احترامها والعياذ بالله، أما السلبيين من الذين يتمسكون بما يظنونه سنة فآراءهم لا تحترم، مع أننا دائمًا وأبدًا نطالب هذا الفريق من الإسلاميين أن يسن بنا سنة الكفار، بمعنى أن نقول رأينا كما يقول الناس، فالناس تكفر بالله أمامكم وأنتم تقولون أن كل شخص حر في أن يقول ما يقول!! فلماذا لا يسمح للذي يتمسك بالسنة أو يدعوا إليها أن يتكلم؟!.

والقضية الأخرى التي أشرنا إليها أن الذي يختلف معهم في جزئيات يسيرة حتى ولو لم يكن من المتطرفين في نظرهم بل هو إسلامي معتدل، ويرى الحل البرلماني، ولكنه لا يريد أن يضع نفس الشعار، فلما يباع للغير، ولا يكون هذا كتمان للشاهدة، ولا هذا الكلام الكثير الذي يقال؟!، فحتى ولو لم يرد أن يضع نفس الشعار فعلى الأقل وازن بينه وبين من أمامه، فهذا إسلامي، وهذا علماني، فلما تخليت عنه أليست هذه سلبية متعمدة؟! فأنت موجود وكان بإمكانك أن تسانده ولكن تعمدت إسقاطه وتركه وحيدًا، فهذه هي السلبية الحقيقية فقضية أنت مؤمن بها وبذلت بالفعل من أجلها والرجل [يؤمن بنفس القضية لكنه] لم يضع الشعار [الذي تضعه] أصبحت الشهادة في حقه أنه يبدوا أنه أسوأ من العلماني الذي وضع شعار العلمانية، فالإسلامي الذي لا يضع شعار السيفين لا يصلح، وترتيبه ينزل بعد العلمانيين الذي يضعون شعار الكفر والزندقة والعياذ بالله، فالقضية في غاية الخطورة ولا بد من الانتباه إليها، وقد قلنا - ونحن في نطاق بعيد عن مائدة المهاترات والتنازلات السياسية – أن هناك اتفاق بين كل من تكلم في القضية أن هناك أنواع من الكفر الأكبر من جحود حكم الله تبارك وتعالى  كان يقول: لا يوجد حكم لله  ـ عزوجل  ـ  سواء كان هذا الجحود عامة أو في مسألة معلومة من الدين بالضرورة كأن يقول: إن الدين لم يحرم الزنا؟! مثلًا أو غير ذلك فهذا في حد ذاته كفر أكبر بإجماع العلماء بل بإجماع من ينتسب إلى الملة.

وكذلك أيضًا من يقول أن الشرع لم يحرم الزنا ولكن هذا الكلام غير ملزم لنا، وهو محل اتفاق كما ذكرنا، ودعك من هؤلاء الذين قد يخالفون في ذلك فإذا تكلم أحدهم في هذه المسألة من الناحية العلمي تكلم عليها من هذا الإطار.

إذن هنا قسم متفق عليه بين الإسلاميين أنه كفر أكبر، وهناك قسم متفق عليه أنه كفر أصغر وهو أن يكون التطبيق الواقعي هو المنحرف.

وهذه نقطة مهمة ينبغي أن نستصحبها سواء في هذه القضية أو في قضية أخرى - وقد أشرنا إليها قبل ذلك- وهي قضية تولي الولايات والفساق والظالمين فضلًا عن الكفار، ففي القديم لم يكن يوجد الفصل الموجود الآن من: جهة تشرع، وجهة تطبق، وجهة تراقب، إلى غير هذا من الأمور، لكن كان القاضي قديمًا هو كل شيء، فكان من الممكن أن تجد شخصًا كما هو موجود في زماننا الآن أنه محكم، وذلك غير الأشياء الرسمية، ويقولون أنه يحكم بين الناس كما هو في العرب ونحو هذا، فيقولون: هذا يحكم بشريعة أولاد علي!! إذن فالأساس النظري عنده مخالف للشرع ولما أتي في واقعة ليحكم فيقال هذا دية مقدار كذا وكذا، والاعتداء على العرض قيمته المالية كذا وكذا!! فهذه شريعة سواءً كانت مكتوبة أو غير مكتوبة فإن عنده قانون نظري، أو شريعة نظرية تخالف الشريعة الإسلامية، وهذا تبديل لشرع الله تعالى.

ولكن هناك شخص آخر يحكم بالشرع، بمعنى أنه إذا سئل عن مسألة قال: حكمها في كتاب الله كذا وكذا، ولكن في التطبيق الواقعي يأخذ رشوة فيتلاعب في وقائع القضية بحيث لا تثبت التهمة، أو تخفف، أو غير هذا، فلما يأتيه من ثبتت عليه التهمة لا يقول: الزنا مباح  أو يقول الزنا حرام لكن عقوبته السجن .. لا .. وإنما سيقول الزنا حرام، وأن عقوبته إما الجلد، وإما الرجم على حسب الأحوال، وهذا كلام لا يكرره كل مرة، بل هو كلام معروف عنه أولًا أنه يحكم بشرع الله، ولما يأتيه شخص تنطبق عليه كل هذه الشروط فيقول: الشهود غير عدول، وذلك لأنه أخذ الرشوة أو غير، هذا فهذا كفر أصغر بالاتفاق.

ونقطة النزاع الكبيرة جدًا بين الحركات الإسلامية المعاصرة في التبديل غير المعلل، فذكرنا أنه قد جاء القانون الفرنسي، وفرضه الاستعمار على بلاد المسلمين، وحصلت حركات تحرير كما يدعون، وحركات التحرير ورثت هذا القانون، ثم بدأت تقال في أعذار مختلفة من أن الأمر صعب التنقية، وأننا من الممكن أن ننقي عبر التاريخ إلى غير ذلك!! وعمومًا وجدت حالات أنه يقول في قانون نظري ملزم للناس مخالف للشرع، ثم لا يبرر، ويقول: سنصلح، فعلى أي أساس قام هذا القانون إذن؟! هل هو قائم لأن الشريعة لم تأت بحكم، فأتيت أنت بحكم؟! أم أنك تقول أن الشريعة أتت بحكم وهذا أفضل منه؟

فيقول أن القضية كلها تحتاج إلى نظر وليس لدينا وقت لكي ننظر فيها، أو أن النظر يحتاج إجراءات وهي الرجوع إلى الشعب، إلى غير ذلك من الأمور، فوجود تبديل لشرع الله تعالى بدون تصريح بكلمة الجحود والتكذيب، فهذه هي التي  أثار جدلًا، وكلام العلماء يؤكد على أن قضية التبديل بمجرده كفر أكبر مع استصحاب مسألة أن إسقاط الحكم على المعين يحتاج إلى ثبوت شروط وانتفاء موانع.

قضية الحاكمية بين الإفراط والتفريط :

وهذه قضية قد نجعل لها محاضرة بعد الانتهاء، أما الآن فسنقرأ نقولًا تثبت أن التبديل كفر أكبر، ثم نتساءل في النهاية: هل يتصور وجود تبديل بلا جحود، فنحن الآن اتفقنا على أن الجحود كفر أكبر، وأن الخلاف في وقائع قضية معينة كفر أصغر، والخلاف في قضية التبديل وهو دائر بين الإسلاميين الآن ومن الممكن أن نقول أن الخلاف يرتفع لو أثبتنا أنه لا يمكن تبديل بلا جحود، فيلزم من قال: إن الجحود كفر أكبر أن يقول التبديل كفر أكبر، وهذا كلام الشيخ العثيمين : في هذه القضية أنه لا يتصور تبديل بلا جحود فتكون القضية محلولة من هذه الجهة، وهذا قد يحتاج إلى كثير من التفصيل.

وفي المسألة إفراط وتفريط، فهناك من الناس من يريد أن يوسع دائرة الأكبر بحيث يجعل معظم الصور كفرًا أكبر، بل من الممكن أن يحاول أن يجعل كثرة المخالفات في وقائع القضية التي قلنا أنها محل اتفاق أنها كفر أصغر ليأخذ منها قرينة [في التكفير] وباب التكفير لا يبنى على القرائن وإنما يبنى على الأدلة، ولكن يأخذ منها قرينة على التبديل ويكون عنيفًا جدًا على من يقول: الجحود فقط هو الكفر الأكبر، ولا يقر أن التبديل كفر أكبر، ونحن نوافقه على أن التبديل كفر أكبر، ثم يحاول أن يجعل كثيرًا من الصور تؤول إلى التبديل، فهذا جانب من جوانب الغلو في المسألة.

بالمقابل هناك جانب آخر يقول: لا يوجد كفر أكبر إلا الجحود!!، ومن الممكن أن يغلو في المسألة حتى يصل إلى أن الجحود أن يقر الشخص بلسانه أن شرع الله باطل والعياذ بالله، وأي شيء غير ذلك لا يسمى جحودًا!! وهذا تيار موجود بكثرة في كثير من البلاد الإسلامية، وربما بعض تلاميذ الشيخ الألباني : تعالى.

وموقف الشيخ الألباني نفسه أعدل بكثير من موقفه، وسوف نبينه إن شاء الله بالتفصيل وإن كان هناك نقطة خلاف بينه وبين غيره من العلماء كالشيخ العثيمين، وقد أقر في النهاية لما استدرك عليه الشيخ ابن عثيمين الجزئية التي قلناها أنه قال: لا يوجد تبديل بلا جحود، فأقر هذا الكلام، فنحن نفصل بين كلام الشيخ الألباني وبين من ينتسب إليه ممن لا يحتمل كلامهم التأويل، فكلام الشيخ الألباني في المسألة قد يحتمل التأويل، بل من الممكن أن نتمسك بإقراره لاستدراك الشيخ العثيمين عليه.

فبعض من ينتسبون للشيخ الألباني، والشيخ ربيع المدخلي، ومن ينتسبون إليه، وأسامة القوسي في مصر، ومن ينتسب إليه، وهذه مدرسة تتبني أن القضية يكادوا يجعلونها كلها كفرًا أصغر، وتجد أنواع من التأويل والتعسف لنقول العلماء [ما لا يحتمل] .

أحياناً كثيرة يأتي شخص يخالف العلماء وبالطبع الذي ينتسب للسلفية إجمالًا لا يقدر أن ينتسب للسلفية، ثم يصرح بأنه يخالف معظم علمائها فمثلًا لا يقدر أن يقول أنه يخالف ابن تيمية : مع أنه غير معصوم، ولكن تجد أن معظم الناس يفضل أن يقول: أنا موافق لشيخ الإسلام، وهذا كلام غير صحيح، فلو رأى شخص أن هذا هو الحق فليتكلم به بمعنى أن ينظر إذا كانت المسألة فيها إجماع فيلزمه أن يذهب إلى الإجماع، وإن كان فيها خلاف فليكن أمينًا في نقله فيقول: شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، ولكن هنا سيخالف ابن تيمية، وابن باز، وابن عثيمين، والشنقيطي، ويقول: إن كل هؤلاء يقولون نفس الكلام، والعجيب أنه كان منهم أناس أحياء، ناهيك عن الموتى.

فهناك أنواع من التعسف الشديد لدى هذه المدرسة لإثبات أن هذا هو قول علماء السلفية على الأقل الذين عاصروا تحريف أو تغيير للشرع من أول شيخ الإسلام ابن تيمية وله مكانة عظيمة جدًا في الصحوة الإسلامية كلها؛ لأن ابن تيمية معاصر بمعنى أن مشكلات عصر ابن تيمية ما زالت موجودة إلى يومنا هذا، فلو قلت أن ابن تيمية معاصر لم تكن قد ابتعدت كثيرًا، فالمشكلات واحدة وقد عالجها : معالجة وافية، وبالتالي فشيخ الإسلام يعيش وسط الناس فكتابته والمشاكل التي عالجها موجودة وما زالت هذه المشكلات موجودة إلى الآن ثائرة بهذه الدرجة.

فهؤلاء يحاولون أن يصوروا القضية على أنها كفر أصغر ويقترب كلامهم من أن يقولوا ذلك بإطلاق لكنه لا يقدر أن يقول ذلك بإطلاق مع شيوع الكلام بالتفصيل أنه أصغر وأكبر فهو يقر أن هناك كفر أكبر وكفر أصغر، ولكن عند الكلام الواقعي يدرج كل الصور تقريبًا في الأصغر إلا أن يأتي من يخرج ليقول له: إن شرع الله باطل .

كان منشأ الكلام محاولة إيقاف تيار التكفير؛ لأن قضية الحاكمية قضية محورية عند تيار التكفير، يبدأ فيها بتكفير الحاكم، ثم المحكوم؛ لأنه راضٍ، ثم من رضي عن الراضي، ثم من صلى بجوار من رضي!! فيكفر الكثير جدًا، وهذه السلسلة مليئة بالأباطيل، ولكن لا نرد الحق الذي فيها لكي نرد هذه الأباطيل، بل نقول له: أنت جرت هنا أو هنا.

فبدأ الكلام بمحاولة إغلاق باب هذه القضية؛ لأنها تؤدي إلى الغلو، ونحن نستفيد من هذه القضية أننا لا نغلق باب الغلو في مسألة بأن نتكلم كلامًا المضمر فيه أكثر من المظهر، ولكن عندما تأتي لغلق باب الغلو فقل كلامًا وافيًا يشمل كل الحالات وبين أن هذا الغالي طبق الكلام في غير موضعه؛ لأنك عندما تعكس المسألة فمن الممكن أن تجد القضية أخذت طريقًا آخر.

فعندما طبق هؤلاء قضية الحكم وتكفير من لم يحكم بما أنزل الله في غير موضعها، بدأ العلماء يردون على هذا الكلام، وينبهون أن كلامهم غير صحيح وغير مطبق في موضعه، فبدأ الناس يأخذون الكلام ويطبقونه ويغلون فيه، فنشأ تيار مضاد تمامًا يرى أن القضية هامشية، وأن كل من يتكلم فيها يغذي تيار التكفير، فوجد كلام الشيخ الألباني وفيه قدر من هذا الأمر، ثم غالى بعض تلاميذه جدًا في هذا الأمر، ثم غالى الربيعيون أكثر، وغالى القوصي  أكثر فأكثر.

ومن عجيب الأمر أن هؤلاء جمعوا بين متناقضين في غاية الغرابة، فمثلًا هناك كتاب «الحكم بغير ما أنزل الله» لشخص من هذه المدرسة اسمه خالد العنبري، وفي مقدمة الكتاب يتكلم على التذبذب والتردد والتشدد الذي أصاب شباب المسلمين الآن حينما يفكرون في العمل للإسلام، فيصيبهم أنواع من التشدد، فهناك من يسلك مسلك الحركات الجهادية والصدام المسلح، ونعى على هؤلاء ما جروه على الأمة من مفاسد إلى غير هذا.

وهناك من سلك مسلك البرلمان وهو ينتقد من يسلك هذا المسلك وقال: وهؤلاء يسلكون هذا المسلك لكي يعرضوا شرع الله تعالى على البرلمان، فإن وافقوا عليه أجيز، وإن رفضوه صار شرع الله مرفوضًا والعياذ بالله، فهو قد لام هؤلاء أنهم ذهبوا بالشرع إلى أن يوافق عليه أو يرفض.

وهذا في مقدمة الكتاب فيخبر فيها أن إثارة هذه القضية تشتت الشباب!!، ثم بين بعد ذلك السبب وارء إصراره على عدم إثارة هذه القضية فقال: لأنه لا يوجد أحد يرفض شرع الله، لذا فلا أحد يتكلم أو يقول أن الشخص يكون كافرًا كفرًا أكبر إذا رفض الشرع، فلا يتكلم أحد في هذه القضية!!.

كيف ذلك وهذه القضية تعطي قدرًا من الثقل لأصحاب التيارات السياسية؟ فانظر إلى التناقض الذي يكرس الحكم بغير ما أنزل الله عند هذا أنه لم يرفض الشرع وإنما ورثه عن الاستعمار!! وهذا أقصى ما يمكن أن يقال، وهذا لو قيل إنه كفر أصغر، وأن الذي يقول للناس:  طبقوا الشرع فيعرضه عليهم ليقبلوه أو يرفضوه فهذا كفر أكبر فهذا في غاية التناقض.

وهذا مما لا يمكن أن يقول به عاقل يدري ما يقول، مع أن الفضية واحدة ولو كان هناك فرق بينهما لكان في صالح من يريد الإصلاح، فهناك قسم يريد الإصلاح، وقسم يريد الإفساد، فأتى على الشخص الذي يريد الإفساد، وقال: هذا كفر أصغر!! وعلى من يريد الإصلاح قلت: هذا كفر أكبر!! فهذا في قمة التناقض.

ولذلك تجد العالمانيين الخبثاء يعرفون هذا الأمر، فيأتون بشخص منهم في الإعلام يتكلم فيقول أن التيار الإسلامي السياسي تيار تاجر بالإسلام، وتيار خان القضية!!، ولا ينطق بنصف كلمة عن العلمانيين الزنادقة الذين يلتفون من حوله، فلا يقول عنهم أنهم عالمانيون يكفرون بالله تعالى صراحة.

فهناك مفكرون كبار يكرسون جهودهم لمسألة أنه ليس هناك شيء اسمه تطبيق للشرع ونحن لا نقول: طبق الحكم على المعين، وإنما نريده أن ينقض الفكرة كما نقض فكرة هؤلاء، ولكنه يأتي وسط هؤلاء العالمانيين وبهيئة إسلامية ويقول كلامًا مخجلًا، وهذا مما ينبغي أن نتبرأ منه، فنحن مع كل الاعتراضات التي نعترضها على هؤلاء القوم، فالاعتراضات قلناها في نطاق معين، فقلناها في نطاق الذي من الممكن أن ينصلح حاله، ويسلك الطريق الطويل الشاق من الدعوة والتربية، ونحو هذا، فلم نتصيد الذي ليس عنده إلا العاطفة، والذي يجب أن نتركه بها حتى ننقله إلى غيرها، فلم يكن غرض رئيسي أن نتصيد من لا يملك إلا العاطفة.

إما أن يأتي شخص ينتسب إلى العلم والدعوة وينقد التيار الإسلامي السياسي فقد نتفق على كثير من هذا النقد ولكن نحن نقول أن هؤلاء داهنوا العالمانيين، فما حكم العلمانيين عندك طالما أن المشكلة التي عندهم المداهنة؟! فما حكم الذين دوهنوا في الأصل، ويأتون بجوارك، ويشاركونك في النقد؟!.

فهذا كلام في غاية العجب إذ كيف أقول على من يطبق غير شرع الله، ويكرس غير شرع الله كافر كفرًا أصغر وأن الذي يقول: سأدخل مع هؤلاء وأحاول أجعلهم يغيرون كافر كفر أكبر؟! فهذا شيء في غاية العجب، فلا بد هنا من الانتباه إلى هذه القضية، وعدم الاغترار بأي من هذه الأطروحات التي فيها كثير من التجني والعياذ بالله، ولا يكون غرض الإنسان النقد لمجرد النقد، فلا تنقد نقدًا غير موضوعي يصب في مصلحة الأعداء، ويكرس لأفكار باطلة والعياذ بالله.

فهذا الاتجاه في الواقع يحتاج إلى وقفة كبيرة جدًا، حينما يكون موقفه في غاية العنف من الاتجاهات الإسلامية، وعندما يداهن اتجاه إسلامي في قضية الحكم يكون حكمهم كفرًا أكبر؟! إذن فهل يكون حكم من يطبقها بنفسه أو يدعوا إليها نفس الحكم على الأقل؟! فتكون الإجابة: لا، فهذا الكلام لا يعقل!!.

أما المسألة عندنا فعلى العكس من ذلك، فمن ادعى حق التشريع لغير الله فهذا كافر كفرًا أكبر، ومن أراد أن يدخل إلى المجالس التشريعية لأنه فعلًا معتقد أنه مشرع، ومعتقد أنه من حقه أن يشرع من دون الله فهذا هو الكفر [الأصغر] والذي يقول: أنا سأدخل من أجل الإصلاح نسأله أولًا هل أنت داخل بثمن أم من غير ثمن؟! فلو كان الثمن قد أتى على أصل القضية بالإفساد فهذا محرم من أجل المداهنة ولكن لا نوصلها إلى درجة الكفر، ولو كان بلا ثمن، فالأمر قابل للاجتهاد، بل نحن نقول أن من دخل ولا يعلم معنى مجلس تشريعي، ودخل لمجرد مصالح دنيوية، فهذا لا نقول: إنه قد ارتكب كفرًا لعدم درايته بالأمر أصلًا، فكيف يأتي أناس فيتناولون الموضوع بهذا التناقض الفج العجيب؟!  وهو أنه إذا فعله الإسلاميون يكون كفراً أكبر، وحينما يفعله العالمانيون يكون كفرًا أصغر فهذا كلام في غاية العجب!!

ومبدأ المعاملة بالمثل هنا غير وارد في مسألة تقييم الأفكار، فنحن قد عبنا على أصحاب التيار السياسي أنه يقبل أن يجلس على مائدة واحدة مع العالمانيين، ويحترم كلامهم جدًا، ويبجله مع ما فيه من الكفر، ثم إنه غير مسموح لك بالكلام بل إنك حينما  تختلف معه؛ يستخدم الأسلحة الإرهابية من أنه ليس من حقه أن يتكلم، وليست لك مشروعية، ويستخدم قاعدة: «نتعاون فيما اتفقنا عليه مع كل أحد» إلا مع أنصار دين الله تبارك وتعالى، والمتمسكين بسنة النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكننا لن نكيل بنفس الكيل، ونقول له أيضًا: إننا نرضى أن نتكلم مع العالمانيين، ونرضى أن نسكت عليهم!! أما أنت فلا، فالمسألة مسألة شريعة إذن فنحن لما عبنا عليهم، عبنا عليهم مداهنة العالمانيين، إذن فالعالمانيون هم أصل الفساد، وهؤلاء مشكلتهم في مداهنتهم فينبغي أن تتضح القضية جيدًا.

يقول الشيخ ياسر: «قال الأستاذ محمود شاكر : في عمدة التفسير (4/156): «عند قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ [المائدة: 44]  اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد:

فإن أهل الريب والفتن ممن تصدوا للكلام في زماننا هذا قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء، والأعراض، والأموال بغير شريعة الله التي أنزل في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام.

فلما وقف على هذين الخبرين - قول ابن عباس  ـ رضي الله عنه ـ : «كفر دون كفر»، وأثر أبي مجلز - اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال، والأعراض، والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها».

الشرح:

قلنا أن هذا الكلام من عمدة التفسير الذي هو اختصار تفسير ابن كثير الذي قام به الشيخ أحمد شاكر وعاونه أخوه الأستاذ محمود شاكر :، والشيخ العلامة أحمد شاكر محدث معروف مشهور، والأستاذ محمود شاكر أديب من الأدباء الذين لهم باع كبير في الأدب، وأفكاره أيضًا سلفية في الجملة - وإن لم يكن من أهل العلم بدرجة أخيه- لأنه أكثر علمًا بعلوم اللغة، وكان يشاركه في تحقيق كثير من الكتب، وكتاب «عمدة التفسير» تحقيق واختصار لتفسير ابن كثير.

وقد تقدم كلام الشيخ أحمد شاكر تعقيبًا على كلام ابن كثير، فقد ذكر ابن كثير في الآية فيها نموذج التتار، فهم نموذج ممن حكموا بغير ما أنزل الله – بالياسق-، فالشيخ أحمد شاكر يقول أن الياسق مثل القوانين الوضعية مع فارق وهو أن البعض الآن يفرح ويقبل على تعلمه إلى غير هذا.

ويتكلم الأستاذ محمود شاكر: هنا على قضية أخرى: وهي التعليق على أثري ابن عباس وأبي مجلز في إثبات أنه كفر دون كفر، فهو يريد أن ينبه على أن المسألة ليست بإطلاق، وهو يشير إلى أن بعض أهل زمانه أراد أن يعمم الكفر الأصغر، وكان ذلك في بداية محاولة الزج بالتشريعات، أو بالقانون المدني المصري، كما ذكرنا قصته قبل هذا، فهذا القانون أولًا كان موجودًا، ولكن كان اسمه القانون الفرنسي، وكانت المحاكم الشرعية موجودة جنبًا إلى جنب مع المحاكم التي كانت قد بدأت أجنبية، ثم مختلطة، ثم قانونية غير شرعية، فكان هناك محاكم شريعة، ومحاكم تحكم بمقتدى القانون المدني فهي محكمة مدنية، ثم ألغيت المحاكم الشرعية فيما بعد.

فالقضية أنهم قالوا: ولم لا نجعل محكمة مدنية بجوار المحكمة الشرعية فإن غاية ما هنالك أن يكون كفرًا دون كفر؟!! وهذا غاية في العجب أيضًا أن يصدر هذا عن أحد من أهل العلم ممن له سلطان،فيأتون به لكي يبسط للناس القضية، ويخبرهم أن هذا كفر أصغر فقط!! وحتى لو كان كفرًا أصغر فكان الذي ينبغي عليه أن ينكره، وليس لمجرد أن تخبر الناس أن هذا كفر أصغر، وليس كفرًا أكبر!!.

وهذا مما يقع فيه كثير من علماء السوء، يأتي ليبرر معصية معينة فلا يستطيع أن يقول أنها ليست بمعصية فيلجأ إلى تخفيفها وتهوينها، ولو فرض أنها صغيرة من الصغائر فما الذي ألجأك إلى تبريرها ما دمت تعلم أنها ذنب، مع أن الواجب عليك أن تنكرها لا أن يبررها؟! ومثل ذلك يقع في اتحاد العاملين بالسياحة حيث يأتون بشيخ من هؤلاء المشايخ، ويسألونه عن العمل في السياحة رغم أن فيها تقديم خمور وغير ذلك من المنكرات، فتكون إجابته من لم يجد عملًا غيرها؛ فليعمل فيها إلى أن يجد غيرها؛ وهذا الشخص السائل في اتحاد العاملين في السياحة؛ وليس شخصًا مضطرًا يأتي ويسألك، وهؤلاء ممن يساهمون في تنشيطها، فكيف يقال لمثل هؤلاء: اعملوا إلى أن تجدوا غيرها؟!.

وقد يقول أحيانًا: طالما أنه يقدم الخمور للكفار فقط فليس هناك إشكال!! فهذا نوع من التجني على الشرع، وعلى الواقع، فليس في الشرع أن تذل نفسك للكافر، فيكون الشيء المحرم عندك تعمل به من أجل أموال الكفار، والأمر الآخر هل هذا منفصل عن الواقع كل هذا الانفصال بحيث يتصور أن هذه لا تقدم إلا للكفار؟! فهذه قضية.

أيضًا هنا جاء أناس وقالوا: كيف يوجد قانون مخالف للشرع؟! فقال لهم: هذا كفر أصغر فقط!!, حتى لو تصورنا ذلك فهل هذا مبرر؟! هذه هي نفس القضية الآن ولكن الفرق أن هذا يخرج من أناس يقولون أنهم أصحاب صحوة إسلامية، وليسوا أصحاب مناصب تبريرية، دورهم التبرير، لا بل هناك أناس ينسبون نفسهم للصحوة ويتكلمون بهذا اللسان!!.

فالآخر يبرر من أجل منصبه فلم تبرر أنت؟ فيقول: لا أريد الشباب أن يتهور!! إذن فالذي ينبغي عليك أن تعلمه الشيء الصحيح، فعلمه أن هناك كفر أكبر وكفر أصغر، والكفر الأكبر من حيث النوع ولا يلزم لكل معين يرتكبه أن يكون كافرًا، بل هناك ثبوت شروط وانتفاء موانع، ثم إنه ليس كل منكر، وليس كل كافر يقام عليه الحد، حتى ولو قلنا أنه كافر، فيعلم هذا الضوابط الشرعية دون تبديل وتحريف للشرع.

الفرق بين الفتوى والحكم:

فهو يقول أن بعض أهل الريب قالوا: إن هذين الأثرين يدلان على أنه كفر دون كفر: الأثر الأول قول ابن عباس ب: «ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنما هو كفر دون كفر»، وأثر أبي مجلز أنه قال نفس الكلام لمن سأله، فأراد الأستاذ محمود أن يوضح هذين الأثرين وخلاصة كلامه أن هذه فتوى وليست حكمًا، وفي كثير من القضايا تكون مشكلة الباحث فيها عدم التفريق بين الحكم والفتوى، فالحكم خطاب شرعي في مسألة معينة يكون للحكم فيها شروط وموانع، فنأتي لواقع معين ونرى الشروط والموانع، والحالة إذا كان له حالات كما قلنا أنه هناك تفصيل فهناك أكبر وأصغر، ثم بعد ذلك تطبيق الحكم على الواقع يسمى فتوى.

فحينما ينقل شخص كلامًا عن عالم من العلماء فلا بد أن يكون عنده أمانة وأهلية في نفس الوقت بحيث يعلم هل هذا حكم أم فتوى؟ وينقل هذا في إطاره؛ لأنه من يمكن أن تكون هذه فتوى فلا ينبغي أن يأتي شخص سمع رجلًا يسأل عالمًا، ويقول له: أنا كنت أسير في صحراء وكدت أن أموت من الجوع، فوجدت ميتة فهل آكل الميتة؟ فقال له العالم: «نعم كلها».

فينقل الذي سمعهما عن العالم أنه أفتى بحل أكل الميتة فهذه فتوى، لا يصلح أن ينقلها خارج سؤالها، خاصة في الأشياء التي تكون إجابة سؤال، فالسؤال جزء لا يتجزأ من الإجابة، وهذه مسألة مهمة جدًا، ولأنه من الممكن أن تكون الإجابة فتوى وليست حكمًا.

بعض العلماء ممن أدرك هذه المشاكل التي أثيرت بدأ يراعي بدقة فتجد شيخ الإسلام ابن تيمية تدرس فتاويه لأن الشيخ رأى مشاكل كثيرة من اعتبار الفتاوى أحكامًا فيأتي له السؤال فيتركه جانبًا ويقرر أحكامًا بعيدًا عن السؤال، ثم يصف الواقع الذي وصفه له السائل، ولو كانت هناك احتمالات غير التي قالها السائل يخبره عنها مثل فتوى التتار المشهورة عن ابن تيمية، فقد قرر مسألة قتال الطائفة الممتنعة، وما يكون من شأنها، وأحكامها، وكان السائل يسأل عن التتار، وهناك أناس يقولون بقتالهم، وأناس لا يقولون بقتالهم، فكان من الممكن أن يقول الشيخ إجابة واحدة، ولكنه قرر الحكم بالتفصيل، ثم قال: والتتار المسئول عنهم حالهم كذا وكذا ووصف حال التتار، ثم قال: وبناء على هذا فيكون هؤلاء قتالهم من جنس قتال الطائفة الممتنعة.

لذا فالسائل عن العلماء ينبغي أن يعرف هل هو ينقل حكم أم فتوى؟ وبالذات لو وجد للعالم قولين مختلفين في مسألة واحدة، فإما أن يكون أحدهما: حكم، والآخر: فتوى أو الاثنين فتاوى فنبحث أين الحكم ؟فمن الممكن أن تكون هذه الفتوى طبقت على واقع، وهذه على واقع، أو أنه يكون قد غير رأيه، وهذا آخر احتمال أن نقول أن له رأيين لو كانت المسألة قد قيلت بأقوال محكمة أو نحو هذا.

فهنا القضية أن ملخص كلام الشيخ محمود شاكر هنا على قول ابن عباس  ـ رضي الله عنه ـ  وقول أبي مجلز أن هذا كفر دون كفر أو أنهم يفعلون ما يفعلون وهم يرونه معصية، وأن هذه فتوى على أمراء بني أمية الذين كان انحرافهم انحرافًا في تطبيق وقائع القضية، وليس انحرافهم أنهم أتوا يومًا، وقالوا للناس:  الزنا حرية شخصية، أو: الزنا جريمة ولكن سنجعل عقوبتها الحبس، أو: الخمر مباحة!! ولكن خطؤهم أنه كان يأتي له شخص شارب للخمر قريب لشخص من الحراس لديه، أو قريب لشخص من الأمراء عنده، أو أمير من أمرائه، أو قائد جند عنده يشرب الخمر، فيقول: الشهود غير عدول، أو يمتنع امتناعًا سلبيًا عن تطبيق الحكم، بمعنى أن يعرف أن هناك خمارة في مكان ما تبيع الخمر، ولا يذهب ليمنعهم، فهذا نوع من الحكم بغير ما أنزل الله، ولكن لم يقل أنها مباحة.

فحاصل كلام الشيخ محمود شاكر هنا أنه يقرر أن هذه فتاوى وليست أحكامًا بدليل أن الإمام ابن كثير نقل الإجماع على أن فعل التتار ومن فعل مثل فعلهم من تحكيم الياسق أو غيره أن هذا كفر بإجماع المسلمين فيقول: «فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمه عليه؟! فمن فعل ذلك؛ فقد كفر بإجماع المسلمين»  فنقل الإجماع في المسألة، وهذا يؤكد أن قول ابن عباس ب، وقول أبي مجلز فتوى وليست حكمًا، وهي فتوى على أمراء زمانهم.

ويتضح لطالب العلم أن كل النقول التي ننقلها عن ابن كثير، وأحمد شاكر، ومحمود شاكر، والشنقيطي، ومحمد ابن إبراهيم، وسوف نعيد قراءتها مرة أخرى لنؤكد أنها تتكلم عن التبديل بكل صوره، وليس الجحود كما يقرره أنصار الشيخ ربيع أو أنصار القوصي أو غيرهم.

وهنا ينكر الشيخ محمود الشاكر على من أعمل أثر ابن عباس في غير موضعه، وادعى صواب القضاء في الأموال، والأعراض، والدماء بغير ما أنزل الله، فالضابط عنده القضاء العام، والواقعة الخاصة، القضاء العام أي: الحكم النظري وهذا أمر شبيه بالحكم والفتوى، فعند القاضي حكم نظري ووقائع قضية، فيطبق الحكم التشريعي على وقائع القضية كي يخرج حكمًا قضائيًا، فهناك من يخالف في القضاء العام أي: في القانون النظري الأصلي، فيأتي بشيء مخالف للشرع، وآخر يخالف في وقائع القضية كي يخرج بحكم قضائي مخالف لحكم الله؛ لأن حكم الله في هذه الواقعة بعينها أنه لو شهد شهود عليه أنه شرب الخمر، وكان الشهود عدول أن يجلد، فهذا حكم الله في المسألة، وحينما يقول أن شارب الخمر يجلد ولكن الشهود غير عدول كذبًا، فهذا حكم بغير ما أنزل الله، ولكن التلاعب تم في وقائع القضية، فهذا خالف في قضية معينة وليس في القضاء العام.

إذن فمن الواضح أن الشيخ محمود شاكر يتكلم على قضاء عام وقضية معينة، فالشيخ لا يتكلم على أنه لا بد أن يقول الشخص بلسانه أن شرع الله باطل والعياذ بالله، ففي هذه الحالة يكون كفرًا أكبر، وما سوى ذلك فهو كفر أصغر، بل العكس فهو يقول أن الذين يقولون لنا هذا الكلام لم يحسنوا قراءة الآثار؛ لأنها كانت تتكلم عن بعض أمراء بني أمية، فالضابط لفظي في كلامه، ولم نستنبطه من كلامه، بل الضابط لفظي وواضح في كلامه، فهو يقول قضاء عام وينكر على من يدرج مسألة تبديل الشرع في القضاء العام بقانون غيره، وأن هذا عنده من الكفر الأكبر، وأن من عده من الكفر الأصغر تذرعًا بهذين الأثرين فهو من المبطلين.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «من يرى أن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها (هذا هو القول الذي يريد أن ينقده ففي نقده يقول): «والناظر في هذين الخبرين لا محيص له من معرفة السائل والمسئول.

الشرح:

فطالما أنه نبه على معرفة السائل والمسئول، فهو ينبه أن هذا الكلام فتوى لا تخرج خارج سياقها، ونعرف أن هذه فتوى، وهذا حكم من خلال الكلام، فنجمع بين أقوال العلماء في المسألة، وقبله الجمع بين الأدلة، فحينما نقول أن هناك إجماع في المسألة أنه كفر أكبر، ثم مرة أخرى نقول كفر أصغر، إذن فهناك حالات مختلفة يطبق الحكم فيها على حسب الحالة، فهو يقول ابتداء ينبغي عليك أن تعرف السائل والمسئول عنه، فوقتها تعرف أن هذه فتوى، وأن الحكم الشرعي هنا فيه تفصيل؛ لأن هناك بعض الأحوال يكون كفرًا أكبرن وفي أحوال يكون أصغر، وأن هنا ابن عباس وأبي مجلز قالوا أصغر من باب الفتوى حيث وجد أن الصورة المسئول عنها من صور الأصغر.

الكفر الأكبر والأصغر في قضية الحاكمية :

ثم ذكر حادثة أبي مجلز وكأن أثر ابن عباس بلا يحتاج إجابة فمن الواضح أن ابن عباس ب لم يدرك شيئًا من تحريف الشرع، ولا تبديله، فانشغل أكثر بالإجابة عن أثر أبي مجلز، ولأن أثر أبي مجلز وكأن قال أنهم يفعلون ما يفعلون وهم يرونه حرامًا، ولذا قال بعضهم: لو سألت الذي يقضي بين الناس بالتشريع العام أليس يعلم أن هناك قضاء مدني وقضاء شرعي؟! إذن فهو يعلم أن القضاء المدني غير القضاء الشرعي فهذا الذي ينطبق عليه  أثر أبي مجلز، وهذا الذي كان قد حدث في زمن أحمد شاكر ومحمود شاكر، أنه كان هناك قضاء مدني وقضاء شرعي، ولكن علماء السوء قالوا: إن القضاة لم يقولوا أن الأحكام الوضعية من الشرع فمثلًا، ولما قالوا: إن الزنا حرية شرعية فلم يقولوا أن هذا من الشرع، وإنما هو عندهم من القانون المدني وأما الكفر فيكون لو قال أن هذا من الشرع!! أي: لو قال مثلًا الدين يقول لنا: إن الزنا حرية شخصية!!، فنقول: لا، الصورة ليست كذلك، فإن كونه يرضى بأن يطبق على الناس غير الشرع فهذا من الكفر الأكبر.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «فأبو مجلز (لاحق بن حميد السدوسي )  تابعي ثقة،  وكان يحب عليًا  ـ رضي الله عنه ـ ».

الشرح:

معلوم أن مسألة الغلو في قضية الحكم نشأت عند الخوارج، فبداية أول غلو فيها أنهم اعتبروا رضا علي  ـ رضي الله عنه ـ  بالتحكيم من باب الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا كان غلوًا في تطبيق هذه القضية.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «وكان قوم أبي مجلز - وهم بنو شيبان - من شيعة  على يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين واعتزلت الخوارج؛ كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه طائفة من بني شيبان ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل».

الشرح:

وهذا غلو شديد في الجانب المقابل حينما يأتي بحَكَمٍ يَحكم يقولون أنه حكم بغير ما أنزل! فكيف يكون الحكم بما أنزل الله؟! إذن لا بد له من رجل يطبق الحكم، فهذا من جهلهم، وسفههم، وسيطرة المنافقين عليهم، لما رأوا أن الفتنة التي أحدثوها بين علي ومعاوية ب في سبيلها إلى الانقضاء؛ أرادوا أن يجعلوا فسادًا أكثر؛ فادعوا كفر علي  ـ رضي الله عنه ـ ؛ لأنه رضي بأمر التحكيم، مع أنه رضي بحكمين يحكمان بشرع الله، وهذا لا يتصور إلا كذلك، وهكذا دائمًا لا تجد أقوال الخوارج مخالفة للشرع فقط بل يستحيل تطبيقها، مثل قولهم: لا نحكم بإسلام أحد إلا متى علمنا الإيمان في قلبه!! فهذا قول مستحيل التطبيق، وليس مجرد أنه مخالف للشرع فقط.

فيقول أنه هناك شروط لقول لا إله إلا الله فنقول له: هذه شروط قلبية، سيقول: هذه ليست مشكلة، فإذا سألته ماذا ستفعل إذن؟ فيجري امتحانًا ظاهرًا بديلًا عن هذه الشروط الباطنة التي ادعاها!!، وهكذا الخوارج كان أكثر الناس تحجرًا وجمعًا بين المتناقضات .

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر:  «وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ناس من بني عمرو ابن سدوس، وهم نفر من الإباضية».

الشرح:

إذن خلاصة الأمر أن قوم أبي مجلز كانوا خوارج، أما هو فكان تابعي، وكان قومه من شيعة علي، ثم انضموا للخوارج، وعلى وجه التحديد الخوارج الإباضية، ولن تعنينا كثيرًا قصة الخوارج الإباضية، ولكن عمومًا هم قوم غلوا في قضية التحكيم، واعتبروا رضا علي  ـ رضي الله عنه ـ  بالحكمين كفر والعياذ بالله، وهذا من جهلهم، وسفههم، وسيطرة المنافقين عليهم كما ذكرنا.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «والإباضية من جماعة الخوارج  الحرورية،  وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون بمقولة سائر الخوارج في التحكيم، (هذا هو الجزء الذي يهمنا في الموضوع) وفي تكفير علي  ـ رضي الله عنه ـ  إذ حكم الحكمين، وأن عليًا لم يحكم بما أنزل الله في أمر التحكيم، ثم إن عبد الله بن إباض قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالفه أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم.

ثم افترقت الإباضية - بعد عبد الله بن إباض الإمام- افتراقاً لا ندري معه - في أمر هذين الخبرين - من أي الفريقين كان هؤلاء السائلون، بيد أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد إلا معسكر السلطان، فإنه دار كفر عندهم، ثم قالوا أيضًا: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها».

الشرح:

 هذا مجمل لعقائد الخوارج الإباضية والذي يهمنا فيهم أنهم كفروا عليًا  ـ رضي الله عنه ـ  إذ رضي بالتحكيم.

 يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان؛ ولأنهم ربما عصوا، أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه، ولذلك قال لهم في الخبر الأول: «فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا»، وقال لهم في الخبر الثاني: «إنهم يعملون بما يعملون، ويعلمون أنه ذنب» وإذن، لم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال، والأعراض، والدماء، بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، وبالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله  ـ سبحانه وتعالى ـ ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به، والداعي إليه.

الشرح:

فهنا محمود شاكر ينقل الإجماع على إن الإلزام بغير شرع الله كفر أكبر، ولم يشترط هنا أن يقول القاضي على القانون الدخيل أنه من الشرع، ويكذب على الشرع، كما يشترط الشيخ المدخلي أو غيره، ولكن الضابط هنا عنده أن يقول أن هذا تشريع عام ملزم حتى وإن صرح أن هذا غير شرع الله، بل الواقع أنه كان يتكلم على زمان كان فيه شيء اسمه قانون مدني، وشيء اسمه قانون شرعي، أو محكمة مدنية، ومحكمة شرعية.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «والذي نحن فيه اليوم هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله (وهذا زيادة في الكفر، وليس معنى هذا أن هذه هي الحالة الوحيدة التي يكون فيها الكفر فقط) بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما أنزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها، فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس؟!!.

ولو كان الأمر على ما ظنوا من خبر أبي مجلز - أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة - فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكمًا، وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة.

الشرح:

هذه هي الحالة التي يريد أن يقول أنها كفر أكبر، وأنها لم تحدث في زمن أبي مجلز كي يقال أنه قال عنها أنها كفر أصغر، وهي مسألة أنه يأتي بحكم مخالف للشريعة، ويجعله تشريعاً عامًا.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها».

الشرح:

هنا الكلام على قضية بعينها، ولكن يأتي بعض من يتعنت، ولا ندري هل هو لم يفهم المراد من الكلام، أم أنها محاولة لإظهار الكلام في ثوب أنه فيه تناقض؟! فيقول أن هذه قضية معينة عندكم أو عند الشيخ محمود شاكر، أو عند ابن القيم، ستكون كفرًا أصغر فماذا لو كانت قضيتان أو ثلاثة أو أربعة؟! ثم يتساءل حددوا لنا حدًا متى يتحول الحكم في قضايا معينة إلى أكبر؟! ستكون إجابتنا لا يوجد حد، فالقضية ليست بالعدد، فقولنا: «قضية معينة» هذا اسم جنس، بمعنى كما ذكرنا أن كون المخالفة عند تطبيق وقائع الحكم النظري على وقائع القضية يظل التشريع العام عنده تشريع من عند الله تبارك وتعالى، فيكون التشريع العام عنده الموجود في شرع الله، ويأخذ رشوة مرة واثنين وثلاثة فهذا تكرار للذنوب، وهذا ليس كفرًا عند أهل السنة مهما كثرت طالما أنه لم يصل للكفر والعياذ بالله، فعلى هذا ينبغي أن يقرأ الكلام من أوله لآخره ليفهم منه المقصود بالقضية المعينة.

وهو ينفي أن يكون قد حدث في تاريخ الإسلام أن جاء أحد وشرع تشريعًا عامًا كي يقول أحد أن أثر أبي مجلز ينطبق على هذا الأمر، فبقي أن تكون المخالفة في قضية معينة، فيقول أن هذا ليس كفرًا أكبر، وطالما لم تكن المخالفة في تشريع عام، فستكون المخالفات في قضايا جزئية، فهي مخالفات في تطبيق التشريع النظري على وقائع القضية بحيث يخرج في النهاية بحكم قضائي في الواقعة المعروضة عليه يخالف ما كان ينبغي أن يحكم به، فهذه الصورة كفر أصغر، وهذه التي قال فيها أبو مجلز أنها كفر أصغر.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة».

الشرح:

قلنا أن القاضي قديمًا كان مفوضًا في النظر في القضية وتطبيق الحكم عليها، فمن الممكن أن يكون قد خالف في الأساس النظري لقضية معينة نتيجة جهله بأحكام الشرع، فينسب إلى الشرع ما ليس منه جهلًا.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الأستاذ محمود شاكر: «وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة.

وإما أن يكون حكم بها متأولًا حكمًا خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب وسنة رسول الله   ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز، أو قبله، أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام؛ فلذلك لم يكن قط.

فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابهما، وصرفهما لغير معناهما؛ رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالًا على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، وفرضه على عباده؛ فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله أن يستتاب، فإن أصر، أو كابر، أو جحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين» وكتبه محمود محمد شاكر. ا.هـ.

الشرح:

فهو يقول أن من يريد أن التشريع العام كفر أصغر جاحد لأمر مجمع عليه، وهذا الذي يستتاب، أي: أنه يريد أن يقول أن الذي يجحد أمرًا مجمعًا عليه، فهذا جاحد لإجماع الأمة على أن التشريع العام في مخالفة شرع الله كفر أكبر، فهو يتكلم على هؤلاء الذين يريدون أن يسوغوا هذا الأمر فذكر هذا.

تنبيه:

بعث إلي أحد الإخوة أن هذا النقل عن الأستاذ محمود شاكر في تعليقه على تفسير الطبري، وأن الشيخ أحمد شاكر نقله عنه هنا، والأمر قريب في هذا، ومن المعروف أنه حتى وإن لم ينصا فقد كان بينهم تعاون في معظم الكتب التي أخرجاها في التحقيق ونحو هذا.

يقول الشيخ ياسر: «وقال ابن القيم : في «مدارج السالكين» (1/337 ): «والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفر: الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانًا - مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة - فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه مخير فيه - مع تيقنه أنه حكم الله - فهذا كفر أكبر، وإن جهله، أو أخطأ، فهذا مخطئ له حكم المخطئين» ا.هـ.

من أكثر الفتاوى التفصيلية في هذا الباب فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم : تعالى، وهي تستأهل أن يفرد لها محاضرة مستقلة بإذن الله تبارك وتعالى.

 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1567 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1708 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2035 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2038 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1670 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1431 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥