الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (5

فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم

(الحاكمية (5
عبد المنعم الشحات
الأربعاء ١١ فبراير ٢٠١٥ - ١٤:١٩ م
2770

الحاكمية (5)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم:

ذكر الشيخ ياسر - حفظه الله- هنا في «فضل الغني الحميد» مختصر فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم، وأهم أمورها ولكن نحن سنحاول أن نقرأ الفتوى بأكملها:

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: مفتي الديار السعودية في كتابه تحكيم القوانين (ص 5): «إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب رسوله ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ [النساء:59] ا.هـ.

الشرح:

هذه ديباجة الفتوى، وفيها ملخص للقضية، ولذلك قلنا: إن فتوى الشيخ محمد ابن إبراهيم من أكثر الفتاوى وضوحًا في قضية اللجوء إلى غير شرع الله، وجعله ملزمًا، فهذا كفر بمجرده، وهي القضية التي قلنا أن فيها إشكال ونزاع بين بعض الاتجاهات الإسلامية، فهو يقول: إن هذا كفر أكبر واضح بين، وعبارات هذه الفتوى واضحة جدًا أنه أفتى بأن ذلك كفر أكبر، ولم يطلق الكفر فقط؛ لأنه قد يحتمل الأكبر والأصغر.

وهنا يقول بنص واضح: «تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين» فمن الواضح من كلامه أن القضية ليست فقط أن ينسب إلى الشريعة ما ليس منها، وهي المسألة التي يدعي البعض أنها الحالة الوحيدة التي يكون فيها الأمر كفر أكبر، وهي أن ينسب إلى الشريعة حكمًا لم تأت به، ولكن معنى كلامه هنا جعل هذه مساوية لتلك، بأن يجعل شيئًا آخر مساوٍ لما نزل به جبريل  ـ عليه السلام   ـ على محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ويقول: «وأن هذا مناقضة ومعاندة لقول الله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾.

يقول  الشيخ محمد بن إبراهيم: «وقد نفى الله  ـ عزوجل  ـ  الإيمان عن من لم يحكموا النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فيما شجر نفيًا مؤكدًا بتكرار أداة النفي وبالقسم، فقال: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾[النساء:65]

ولم يكتف الله تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم لقوله جل شأنه:﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ﴾ والحرج: الضيق،  بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك، وسلامتها من القلق، والاضطراب».

الشرح:

قدمنا في أول الكلام أن القضية ليست قضية قوانين فقط، ولكن الكلام هنا كما ترون على قضية الاتباع بصفة عامة، وإن كان أسوأ صور مخالفة الاتباع هي مسألة تشريع أمر مخالف لشرع الله تعالى، ودعوة الناس إليه، ولكن هذا الكلام في قضية الاتباع بصفة عامة، بل لا بد أولًا أن يتحاكموا إلى الشرع، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا، أي: ضيقًا، بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم :: «ولم يكتف الله تعالى هنا بهذين الأمرين حتى يضموا إليهما التسليم، وهو كمال الانقياد لحكمه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  بحيث يتخلون هاهنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم التسليم، ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأنه﴿تَسْلِيمًا﴾ المبين أنه لا يكتفي هاهنا بالتسليم، بل لا بد من التسليم المطلق.

وتأمل ما في الآية الأولى وهي قوله تعالى:﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ [النساء: 59] كيف ذكر النكرة وهي لفظ (شيء) في قوله تعالى:﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ يعني: كبيرًا كان أو صغيرًا، فالنكرة في سياق الشرط تفيد العموم والاستغراق، فقوله: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ﴾ هذا الشرط، وقوله : ﴿في شيء﴾ المفيد للعموم فيما يتصور فيه التنازع جنساً وقدرًا».

الشرح:

يعني: أي شيء كبيرًا كان أو صغيرًا فلا بد أن يرد إلى الله وإلى الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم :: «ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطًا في حصول الإيمان بالله واليوم والآخر بقوله: ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ فشيء يطلق الله  ـ عزوجل  ـ  عليه أنه خير، لا يتطرق إليه شر أبدًا، بل هو خير محض عاجلًا وآجلًا، ثم قال تعالى: ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ أي: عاقبة في الدنيا والآخرة فيفيد أن الرد إلى غير الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  عند التنازع شر محض، وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة عكس ما يقوله المنافقون».

الشرح:

فهنا نحن نتكلم على دعاة القوانين الوضعية، وهذه الرسالة كتبت سنة 1380 هـ أي أنها عاصرت كتابة عدد من القوانين المدنية في البلاد الإسلامية، وإن كان هذا الكلام في الديار السعودية تأخر بفضل الله  ـ عزوجل  ـ  إلى الآن ونسأل الله  ـ عزوجل  ـ  أن لا يكون، ولكن المحاولات كانت موجودة هناك على استحياء؛ لأن الأعداء يدرسون طبيعة الناس، ولذلك نقول دائمًا أن الدعوة إلى الله هي السلاح الواقي من كل شيء، فالأعداء هم الأعداء والكيد هو نفس الكيد، فمحاولة تغريب الديار السعودية متأخرة عن محاولات، تغريب مصر بحوالي خمسين سنة.

فإلى الآن ما زالت الشريعة هي المطبقة هناك، فالمحاولات الآن على استحياء في قضية كشف المرأة لوجهها التي صنعها قاسم أمين في أوائل هذا القرن، ومسألة قيادة المرأة للسيارة، ومسألة الزج ببعض القوانين الإدارية وأن يكون هناك شيء يسمى قضاء إداري وتدريجيًا .. فهذه كلها مؤامرات تتم، والدعاة يتربصون لها، وعمومًا الذي جعلهم يصبرون كل هذا - وما زالوا يحاولون على استحياء ونحن عندنا المحاولات سافرة جدًا - لمزيد من وجود الأرضية الشرعية العلمية التي تجعل الأعداء يحسبونها بدقة، وأن هذا الكلام لن يروج, ولن يقبل.

فمسألة أن الدعوة هي السياج الواقي هذه مسألة يؤيدها التاريخ كما ذكرنا في حال التتار، وكما في التاريخ المعاصر، فقد سقطت الدولة العثمانية وتركت كل ولاياتها في توقيت واحد، وموازين القوة بالعكس فموازين القوة مثلاً في مصر وسوريا والعراق كانت أكثر، وهذه هي البلاد التي بدأ تغريبها قبل غيرها لأن التغريب كان موجودًا فيها من أيام الحملة الفرنسية كما أشرنا قبل هذا، فكان هناك استعداد لدى الناس لقبول هذه الدعاوى.

أما البلاد الأخرى فساروا معها بنفس طويل جدًا وما زالوا يحاولون إلى الآن، وللأسف بعض الدعاة في الديار السعودية وغيرها يحاول أن ينسب الفضل إلى غير أهله، فيحاول أن يصور أن أمراء هذه البلاد هم الذين حموا الدعوة ونحو هذا، وفي الواقع أن الضغوط من القاعدة شعبية للدعوة هو الذي يجعلهم يتريثون، وغالبًا كلهم مثل بعضهم ولا يختلف أمرهم كثيرًا في إرادة الدنيا، وإن كان بلا شك أن شخصًا أراد الدنيا ومنعه منها مانع أفضل، ممن لم يمنعه منها مانع، ولكن القضية - وهذا الكلام يهمنا أن نتعرض إليه - أن بعض هؤلاء يبالغ جدًا في الولاء لهؤلاء الأمراء من باب أنهم من أهل السنة، وحفظة التوحيد، وحماته، فيغضب جدًا لأي نقد ينالهم حتى وإن انعدمت المفسدة، فالمسألة ليسن مجرد أن يقول للناس دعوكم من أمر المناوشات التي تؤدي إلى مفاسد، لا بل هو يتدين لله تعالى بهذا الأمر، ثم الأخطر من ذلك أنه يطبقه على كل البلاد، فيدعوا لمن ادعى أنه أمير المؤمنين فلو كان هو على الأقل قد ادعى وأنت قد قبلت منه ادعاءه، فلما تقول لباقي البلاد التي لا يدعي فيها أحد بذلك بل يفر منها لأنها بالنسبة له تهمة كبيرة أن يدعي أميرًا للمؤمنين؟!!.

فكان قديمًا يقال أنه رأس لأهل بلده كلهم مؤمنهم وكافرهم، والآن الإسلاميون تطوعوا وقالوا: كافرهم قبل مؤمنهم!! إذن فهل يبخل العالمانيون بها طالما قال بذلك الإسلاميون؟!، فالآن الرأس في أي بلد إسلامية أنه للجميع: الكافر قبل المؤمن، فماذا لو أنه لم يدع أنه أمير المؤمنين، لما تخلع عليه أنت صفة هو لم يدعيها حتى تحقق فيها: هل موجودة أو غير موجودة؟!.

فالمشكلة أنه نتيجة وجود ظروف خاصة للديار السعودية من انتشار الدعوة بفضل الله تبارك وتعالى فرضت على الناس هناك عدم مصادمة عقائد الناس، واتبعوا التدريج البطيء جدًا ونسأل الله  ـ عزوجل  ـ  أن يتمكن الدعاة من الاستمرار في الدعوة التي توقف هذا المد الذي الموجود ببطء ولكن نحن نتمنى أن يقف بفضل الله تعالى.

وهذا كما ذكرنا مسألة تلو الأخرى، فالأول نتيجة وجود هذا التميز فقالوا: نتيجة وجود من يحمي الدعوة، وهناك قدر بلا شك لا بد أن نعترف به، ولكن ينبغي أن ندرك هل هذا القدر ديانة أم اضطرارًا؟! فالمسألة تختلف، وعمومًا الأخطر أنه يصدر المسألة كلها برمتها أن الصراع الدائر بينهم هناك حول توصيف حال هؤلاء القوم هل هم يحمون الدين فعلًا أم لا؟ وهل القدر الذي يقومون به من حماية الدين ديانة أم غير ذلك؟.

وبناء على ذلك درجة الولاء الشرعي المطلوبة، فالولاء الاضطراري موجود في كل الدنيا، ولكن نحن نقول أننا لا نرغِّب أحدًا في أن ينازع أحد في شيء يستمر في دعوته إلى الله تعالى، فمسألة الخضوع الاضطراري شيء، والولاء الشرعي شيء آخر، ويترتب عليها أمور منها مثلًا أنك هل تبحث عن مصلحة الدعوة أم أنك تتعبد لله تعالى أن لو لم يأذن لك الإمام الشرعي بالدعوة لن تدعوا إلى الله؟! فيوجد مثلًا بعض الناس لن يدعوا إلا بالحصول على إذن، ليس بناء على مسألة مصالح ومفاسد، وليست المسألة أنه من الممكن أن ينتج مفسدة، بل هي مسألة تقرب إلى الله وتدين شرعي.

الحاصل أن هذا الكلام كتبه الشيخ محمد بن إبراهيم في وقت كانت فيه قوانين مدنية تكتب وتشرع في معظم بلاد المسلمين، وكانت المحاولات على استحياء قديمة جدًا في الديار السعودية، وهذه المحاولات وقف فيها الشيخ محمد ابن إبراهيم وغيره من العلماءأ ولذلك تجد أنهم يأخذون موقفًا شديدًا ربما في مسائل تحتمل النظر من باب سد الذرائع، مثل مسألة تقنين الشريعة، إذ قالوا طالما أنكم ستحكمون بالشريعة، اجعلوها في مواد حتى يكون لكم قانون عندما نأتي ونقارنه بالقوانين الأخرى، فقالوا لهم: من الذي قال إن الصورة المثلى للقانون أن تكتب في مواد؟ نحن ورثنا شريعتنا مكتوبة في كتب فقه، ونريدها أن تبقى كما هي، وإلى الآن معظم العلماء هناك يمنعون مبدأ التقنين، وهذا كلام له وجه كبير من النظر، وذلك لأن التقنين أولًا صياغة دخيلة، والصياغة الدخيلة لا بد أن تتأثر بطريقة الصياغ.

والأمر الثاني أنه لما يقنن معنى ذلك أنه سيمنع القاضي من الاجتهاد، وعندنا شرعًا أن القاضي إذا كان مجتهدًا فليجتهد، فلا يلزم القاضي الذي يبلغ مرتبة الاجتهاد بمواد معينة، والراجح أن القاضي طالما أنه مجتهد يقضي بما أداه إليه اجتهاده.

والأمر الثالث أنه إذا وضعت مواد صار هنا لا بد من وجود هيئة مقننة فإذا جدت أي مسألة، لا يقولون: ارجع إلى الشرع، بل يقولون: لا بد أن تأتي هذه الهيئة، وتنظر حتى تضع مادة.

ونحن ولله الحمد عندنا الشرع واسع جدًا، وفيه أدوات الاجتهاد وأنه حينما تجد مسألة فإن القاضي ينظر فيها؛ لأنه مجتهد، ولو لم يكن القاضي مجتهدًا فإنه يحيل المسألة على قاضٍ غيره.

وبالتالي رفض العلماء هناك مسألة التقنين، ورفضوا مسألة القوانين الإدارية، وإن كان الآن بدؤوا يقبلون بشيء منها، وكل هذا من باب سد الذرائع، فقد رفضوا مبدأ أن يكون هناك جهات لها مسمى المحكمة تقضي في المنازعات الإدارية، فكانوا يغلقون الأبواب أمام هذه الأشياء فكان هذا البذل منهم رحمهم الله.

يقول  الشيخ محمد بن إبراهيم: «عكس ما يقوله المنافقون ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾، وقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، ولهذا ردَّ الله عليهم قائلًا: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾.

الشرح:

المنافقون المقصود بهم دعاة القوانين الوضعية ففي الشرع : ﴿ فرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ ولكن المنافقون يقولون أن الرد إلى غيره خير وأحسن، وعندما يناقشون في الحكمة من تركهم الشرع، يقولون: «إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا!!» وقولهم: «إنما نحن مصلحون!!» ولهذا رد الله عليهم قائلاً: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُون﴾ [البقرة: 12] فالقرآن حكى وصف المنافقين، ومن أحدى الحكم التي من أجلها ذكر القرآن صفات المنافقين، ولم يذكر أعيانهم وهي حكم كثيرة:

منها: أن هذه الصفات ستتكرر في كل زمان ومكان، والعبرة أن تحذر الأمة من هذا السلوك، وتحذر ممن يأتي يهدم الدين، ويقول: «إنما نحن  مصلحون» فنقول لهم: «الإصلاح في دين الله تبارك وتعالى».

يقول  الشيخ محمد بن إبراهيم: «ولهذا رد الله عليهم (فهنا يتكلم على منافقي زمانه وكأن القرآن نزل فيهم) وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم، بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صرف بما جاء به النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ».

الشرح:

فإنه ليس من الممكن أن تكون هناك دنيا من غير قانون، والقانون عندهم هو الذي يشرعونه، وهذا الكلام سوف نحتاجه كثيرًا عندما نناقش من يقول أن الذي يشرع يضع قانونًا عامًا مخالفًا لشرع الله لا يكفر إلا إذا استحل.

نحن قلنا إجمالًا أن هناك ردين على هذه المسألة:

1- أن هذا كفر مستقل سماه الله كفرًا، ونقل ابن كثير وغيره الإجماع على أنه كفر، فنقل في حالة التتار الذين لم يسموه شرعًا، ولكنهم قالوا: إنه شرع جنكيز خان، ولم يقولوا أنه شرع الله، ومع ذلك طبق ابن كثير الإجماع المحكي عليهم.

2- هل المسألة لها وجود؟ بمعنى أنه هل فعلًا هناك قسم مبدل غير مستحل كي نختلف عليه؟ فهنا الأمر يتصور في المعاصي التي فيها شهوة وهوى أن يعمل أحد معصية وهو غير مستحل، فلو كانت في ذاتها ليست كفر فلن يكون كافرًا إلا إذا استحلها، فلو تأملت في كل المعاصي التي حكم الشرع بأنها كفر، لا بد أن يكون معها الاستحلال أو ما في معناه كما سيأتي، ولذلك ليس من الممكن أن ترى شخصًا يروج إلى شيء مخالف للشرع، ويدعوا الناس إليه ثم نقول: أنه غير مستحل!! فكيف يكون ذلك ؟!! فهذا ليس كمن غلبته شهوته وفعل فعل معين، بل هذا شخص يقول: هذا هو الأصل، وهذا هو الذي يصلح الناس وغير هذا، فهذه الحالة غير موجودة، وإن كان كلام الشيخ الألباني خاصة على القسم الذي سيأتي الإشارة إليه وهو من يقول الشخص: ليست من شرَّع، بل أعلم أن الشرع واجب التطبيق وأنه هو الأفضل من كل الجهات، ولكن اترك لي فرصة، وهذه الفرصة قد تكون عشر سنوات أو عشرون سنة إلى أن يموت.

فهذا القسم الذي نازع فيه الألباني : فالإشكال أن أناسًا أخذوا كلام الشيخ الألباني ووسعوه جدًا وطبقوه على المعاندين لدين الله، وهذا القسم – الذي نازع فيه الألباني :- الراجح أن هذا كفر، لأنه فاعل الذي حكم به الشرع أنه كفر ولو كان قد فعل ذلك طلبًا لدنيا أو لشهوة، فلن نقول وقتها أنه عاصٍ , مثلًا لو قلنا أن شخصًا زنى، له شهوة الزنا، فهذا عاصٍ، ولكن شخص زنى لأنه يحب الزنا والعياذ بالله وهو يعلم من قرارة نفسه أن الله حرم الزنا، ولكن لحبه للزنا يقول: هذا الشيء مباح، وإذا ناقشته يقول لك: أنا قلت أنه مباح كي يتركوا لنا الفرصة، ولكن أعلم أنه حرام، ولكن هذا كونه قال: مباح، فهذا  كفر وإن عاد فقال: عندما قلت: مباح لم يكن هذا في قرارة قلبي، بل بلساني، فالفكرة أنه إذا استحله ثم عاد، وقال: أنا لم يستحل فسيكون هو كافر بهذا.

وبالتالي الذي قال أن هذا القانون فوق الجميع، ويطبق على الجميع، ولازم، ثم يقول: لست أنا الذي عملته، فنحن نسأل: هل هو لازم أم ليس لازم؟ فلا يمكن أن تكون له صفتان في آن واحد، فمسألة التغاضي عن التطبيق العملي هذه مسألة أخرى، لكن هنا هو يقول هو لازم، ولا بد من احترامه، ثم بعد ذلك يقول: أنا ورثته، فهذا كمن ورثوا دين آبائهم وأجدادهم، فلا بد من التفريق في هذه القضية كما سيأتي.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «وهذا سوء ظن صرف بما جاء به الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، إن هذا لازم لهم».

الشرح:

فطالما أنهم يدعون إلى عكسه، فهذا كله لازم لهم.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «وتأمل أيضًا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: ﴿فيما شجر بينهم﴾ فإن اسم الموصول مع صلته من صيغ العموم (ما شجر أي: كل الذي شجر بينهم)  عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير.

وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  من المنافقين كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء:60] فإن قوله  ـ عزوجل  ـ  ﴿يَزْعُمُونَ﴾ تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  مع الإيمان في قلب عبد أصلًا، بل أحدهما ينافي الآخر».

الشرح:         

هنا لم يقل نسبوا هذا الكلام إلى الشرع، فالكلام واضح جدًا في الآية، و كلام الشيخ محمد بن إبراهيم وضح جدًا في أن مجرد إرادة التحاكم إلى الطاغوت كفر أكبر والعياذ بالله.

أما مسألة النوع والعين فستأتي الإشارة إليها، لكن من حيث النوع، ومن حيث هذا الفعل فإن هذا كفر أكبر لا يحتمل الخلاف، وستأتي مناقشة أوفى قليلًا إن شاء الله للذين توهموا اشتراط قيد معين هنا، وأشدهم غلوًا من يقول أنه لا يعد هذا كفرًا إلا لو نسبه إلى الشرع، فالذي يقول: الزنا مباح، ما دام أنه مباح في القانون الفرنسي، ولم يقل أن هذا في دين الله، فيقول: التحريم في شرع الله، لكنه مباح في شريعتنا أو قانوننا كما شاء أن يسميها، فيقول: عندنا أن الأمر ليس كذلك، بل هو مباح عندنا رغم أنه محرم في الشرع!!.

فهذا عند من المنتسبين للعلم طائفة  أهل العلم أن هذا ليس تبديلًا للشرع، ولا تحكيمًا لغير شرع الله، وأقصاه أن يكون هذا كفرًا أصغر، وليته حتى بعد أن يجعله كفرًا أصغر يعلن البراءة منه، بل يقول أنه ما دام كفرًا أصغر، إذن فلصاحبه له الطاعة المطلقة!! وأنى لإنسان يدعو إلى المعاصي فمن أين يكتسب الطاعة ومن أين صارت له طاعة؟! ولا نقصد الطاعة الاضطرارية، بل التعبدية، فكيف نتعبد بطاعة من ديدنه نشر الفسوق، وهو كفر في الأصل، وليس فسوقًا [مليًا]؟! وحتى الأمر الذي نسبته إليه لم يدعيه أصلًا أنه له طاعة عليك ديانة، فهو لم يدَّعِ لذلك، بل هو يدعي أن الطاعة التي له عليك إنما هي طاعة مدنية، فأنت نفيت عنه أنه بدل الشرع، فعلى الأقل أتى بشرع آخر وطبقه، فهذا ترك شرعنا، فلا غرض له في تطبيقه، ولا في الدعوة إليه، بل أتى بشرع آخر وطبقه، بل له غرض في منع الشرع، فهو يريد منا أن نطبق هذا الشرع على أنفسنا، ولكن فيما بين الناس فهذا ممنوع!! .

ولذلك ربما تصادف أننا نتكلم في هذه القضية مع موسم الانتخابات، فكان معظم كلامنا فيه تعريج على نقض مسلك الإسلاميين الذين يخوضون الانتخابات، ولكن في المقابل الذين ينقضوهم من باب أنهم خلعوا طاعة ولي الأمر، فهذا كلام مثير للضحك، فالبعض يقول لهم: أنتم أسأتم ليس لأنهم قبلوا بالمبادئ العلمانية ولكن نقدهم لهم في نظرهم لأنهم خلعوا طاعة ولي الأمر!! وكل اللاعبين في القضية يقولون أنهم ينفرون من الدولة الدينية التي فيها من يسمى ولي أمر بالمفهوم الشرعي، وهؤلاء يتبرؤون من هذا المفهوم، ثم يأتي من الخارج متفرج يقول لهم: أنتم خلعتم الطاعة, ومن ألبسها لهم من الأصل؟!! فهم أنفسهم أمروهم أن يخلعوا هذه الطاعة، قبل أن يدخلوا، فيخلعونها من الناحية النظرية فلا تقولوا أن هناك شيء اسمه طاعة لأولي الأمر.

فهذا شيء مثير للضحك، والعجب أن ترى شخصًا كل اعتراضه- رغم كل المخالفات التي تحدث- أن يتساءل أين طاعة ولي الأمر؟ فنسأله نحن أين ولي الأمر الذي طلب أن يطاع؟ ولذلك تكايس البعض الآخر ورد عليه فقال: دعهم فولي الأمر هم أذنوا لهم بذلك, فصار في الأمر كثير من البعد عن المنهج الصحيح.

فهنا نقول أن هناك خضوع اضطراري، وقد حصل هذا من النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في مكة مع أبي جهل حيث أمر الناس أن يصبروا، ويكفوا أيديهم، فمن الممكن أن يحصل مع أشد الناس, وكان الشيخ الألباني يقول: لماذا يقذف الفلسطينيون الحجارة على اليهود؟ وإن كان هذا الموضوع له محل بحث، ولأنه ليس في واقعنا أن نناقش: أيهما أفضل؟ ولكنها وجهة نظر مطروحة، بمعنى أنه لماذا كلما صارت معك مجموعة من الشباب تذهب بهم ليقذفوا حجر فيقبض عليهم؟ وقد يكون من هناك لهم رؤية أخرى، فالأمر محتمل.

و هناك وقال بعض العلماء في الكلام على اليهود: نستصبر؛ لأن اليهود ليسوا أشد من أبي جهل، ولو أن أهل الرأي والمشورة في هذه البلاد وجدوا أنهم لو أجلوا المواجهة بالحجر، وكان في تأجيلها سعة حيث يتمكنون من الحركة والدعوة، ويشتد عود الدعوة، فالخضوع الاضطراري مسألة مصلحية محضة، وهي أن الإنسان يسكت إلى أن يهيئ الأمر، فقد نصح موسى  ـ عليه السلام   ـ قومه بأن يمكثوا إلى أن أذن الله بخروجهم من مصر، فليست هذه هي القضية، وإنما القضية التدين بذلك  شرعًا، فيقولون أنه لا بد أن يكون في عنقنا طاعة!! وهل ألبسها لك أحد؟ وهل هناك أحد ادعاها؟لا نقول: هل أحد عنده مؤهلاتها؟ بل نسأل: هل ادعاها أحد فطلب منك طاعة شرعية؟ فهل يريد أن يطبق الدين، ويقول لك يجب أن تطيعني في تطبيق الدين؟! لا.. بل هذا يقول لن أطبق الدين، ولن تطبقه أنت، ويحرم على أي إنسان أن يدعوا إلى تطبيقه إلا في خاصة نفسه فهذا حر.

فالشيخ محمد بن إبراهيم يقول عن هؤلاء الذين أرادوا أن يتحاكموا إلى الطاغوت سمى الله تعالى إيمانهم زعمًا، فإنهم يزعمون أنهم آمنوا، فإذا كانوا آمنوا فما الذي يجعلهم يتحاكمون إلى غير شرع الله  ـ عزوجل  ـ ؟!.

يقول  الشيخ محمد بن إبراهيم: «فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  مع الإيمان في قلب عبد أصلًا، بل أحدهما ينافي الآخر, والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه».

الشرح:

بمعنى أن يقول لصاحبه تعال نتحاكم إلى فلان أو فلان، فينظر هل فلان هذا بماذا يقضي؟! فلو كان يقضي بشرع الله، فهذا تحاكم لشرع الله، ولو كان يقضي بغيره؛ فهذا تحاكم لغيره.

يقول محمد بن إبراهيم: «وذلك أنه من حق كل أحد أن يكون حاكمًا بما جاء به النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فقط لا بخلافه، كما أنه من حق كل أحد أن يُحاكم إلى ما جاء به النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فمن حكم بخلافه، أو حاكم إلى خلافه، فقد طغى، وجاوز حده حكمًا، أو تحكيمًا؛ فصار بذلك طاغوتًا لتجاوزه حده».

الشرح:

والسؤال الآن: هل هذه المحاكم هي التي لها سلطة هل من الممكن أن يقف أحد أمامها؟ فالإجابة: نعم يقف أمامها يحاكمها إلى شرع الله، فيقول: أنا أريد حقي كذا وكذا وكذا الموجود في شرع الله، ولو كان هذا الحق موجود عندهم، فيقول لهم: أنتم أقررتم بأن هذا حق، ولا يحاكمهم إلا إلى شرع الله تعالى.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم:  «وتأمل قوله  ـ عزوجل  ـ : ﴿وقد أمروا أن يكفروا به﴾ تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعًا - والذي تُعُبِدوا به- الكفر بالطاغوت، لا تحكيمه، ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، ثم تأمل قوله: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ﴾ كيف دل على أن ذلك ضلال؟! وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون من بُعْدِهم من الشيطان، وأن فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مراضاة الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن، وما بعث به سيد ولد عدنان معزولًا من هذا الوصف، ومنحى عن هذا الشأن، وقد قال تعالى منكرًا على هذا الضرب من الناس، ومقررًا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحًا أنه لا حكم أحسن من حكمه: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون﴾ [المائدة:50] فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه ليس بعد حكم الله إلا حكم الجاهلية؟».

الشرح:

يعني الشيخ أن هناك قسمين: إما حكم الله تعالى، وكل ما سواه فيوصف بأنه حكم الجاهلية.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم:  «فهذا البيان يوضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا، بل هم أسوأ منهم حالًا، وأكذب منهم مقالًا ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد».

الشرح:

فلم يقولوا: نحن نؤمن بالله ثم يكفروا بشرعه، فأهل الجاهلية الأولى كانوا يكفرون بالدين من أصله، أما القانونيون فتناقضوا فادعوا الإيمان بالله الكفر بشرعه.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم:  «وأما القانونيون فمتناقضون حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا، وقد قال تعالى في أمثال هؤلاء: ﴿أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ [النساء:151] ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين؟!.

الشرح:

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم وكأن الآية أنزلت في هؤلاء وهذا عكس تمامًا الذي يريده العالمانيون فهم يقولون أن النص قد نزل وانتهى الأمر، وكأن الأمر قد انتهى قبل النزول، فهو عندهم قد نزل في واقعة قد فرغ منها، ونزل كي يقال الحكم فيها، فعلى كلامهم أصبحت مجرد كتابتها عبث والعياذ بالله، فعلى زعمهم هذا طالما كل الفائدة التي فيها رفعت فكيف تكلف الأمة بحفظها كل هذه الأجيال؟! فنحن نصف هؤلاء بأنهم في أقصى درجات الكفر والعياذ بالله، ونحن في وصفهم في أقصى درجات التطرف لا سيما عند وجود إسلاميين معتدلين!!، انظر إلى هذا الكلام يتكلم عنهم، وإخواننا الآخرون يكتبون : رسالة إلى إخواننا العالمانيين!! ونحن نتمنى أن يكتبوا لنا يومًا رسالة إلى إخواننا السلفيين مثلًا، ولكن لا يوجد، وأكثر الناس عندهم أن السلفيين جامدون، والإسلاميون الآخرون ربما يقولون: إخواننا الأقباط، وآخر شيء ظهر هو: إخواننا العلمانيين، وقد تعجبت جدًا من هذه الرسالة.

في المقابل توجد طائفة تدعوا إلى تجديد الخطاب الديني، وتطوير الخطاب الديني، وتلوين الدين فهؤلاء عند العالمانيين متطرفون!! لكن أشد منهم تطرفًا الذي يقول أن هذه الآية تقول للقانونيين كذا، فهذه الآية تخاطبكم أنتم أيها القانونيون فيقولون: كيف وقد نزلت قبل 1400 سنة؟! فهم لا يعلمون أن العبرة القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهنا يخاطبون بلغة لا يفهمونها البتة، فهنا مقام إقامة حجة لا توجد أي مواربة، حتى أن القضية الرئيسية عندهم أنهم يسألوننا: بما تحتجون علينا؟ فنقول لهم: القرآن يخاطبكم أنتم، ويعيب عليكم أنتم، فأنتم الذين تنطبق عليهم الأوصاف التي يتكلم عليها القرآن.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم».

الشرح:

هذا الكلام لو كان في مجلس من المجالس التي لها مضبطة؛ لا بد أن يحذف أو يخرج صاحبه منها، فهذه المجالس لا يمكن أن تقول هذا الكلام، فكما لا يصلح أن تقول؛ فلا يصلح لك أن تسمع هذه الزبالة، بل لا بد أن يكون ردك على الكفر بأن تقول: الأخ العضو رأيه كذا!! فهذا لا يصلح في مسألة فيها كفر بالله أن يكون ردها هكذا، فإن لم يكن بقدرتك أن تقول هذا الكلام في هذا المجلس، فاذهب إلى أي مكان آخر، وقل فيه هذا الكلام، والله يبلغ عنك لكن لا تقل غيره.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم : ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم ونحاتة أفكارهم بقوله  ـ عزوجل  ـ : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون﴾ [المائدة:50]

قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: «ينكر تعالى على عن خرج من حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء، والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات، والجهالات، وما يضعونه بآرائهم، وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره، وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، ويقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فمن فعل ذلك؛ فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل أو كثير قال الله تعالى :﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون:﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟! فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء العادل في كل شيء» ا.هـ.

الشرح:

هذا النقل الذي نقله الشيخ محمد بن إبراهيم بتمامه من ابن كثير، وقد تقدم ذكره، وهذا يدل على أن مذهبه ومذهب ابن كثير متحد في نقل الإجماع على أن هذا كفر أكبر والعياذ بالله، وتطبيق هذا على التتار لأنهم أخذوا بشرائع ملكهم جنكيز خان والذي لم ينسب هذا إلى الشرع، ولكنه اقتبس أشياء من الشرع، وأشياء من غيره، وليس أنه نسبها إلى الشرع.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم : وقد قال عز شأنه قبل ذلك مخاطبًا نبيه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ﴿ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ﴾  وقال:﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ وقال تعالى مخيرًا نبيه محمدًا  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم إن جاءوه لذلك، قال: ﴿ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾[المائدة:42] والقسط هو: العدل، ولا عدل حقًا إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم، والضلال، والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ [المائدة:44] ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون﴾ [المائدة:45] ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾ [المائدة:47] فانظر كيف سجل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر، والظلم، والفسوق؟! ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا ولا يكون كافرًا، بل هو كافر مطلقًا: إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد.

وما جاء عن ابن عباس بفي تفسير هذه الآية من رواية طاوس وغيره؛ يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة».

الشرح:

هذه المسألة سوف نحتاج للتعليق عليها؛ لأنها قد تسبب أنواعًا من التداخل في الفهم،  وهي أن كفر العمل هل هو مرادف للكفر الأصغر أم لا؟ فهو يعتبر على الأقل مرادف له بقرينة لكنه ليس مرادفًا له أصلًا، وإلا كفر العمل ينقسم إلى أكبر وأصغر، لكنه هنا قال هو: كفر اعتقاد مخرج، وكفر عمل غير مخرج، فهذه القرينة تقول أنه يعني بكفر العمل الكفر الأصغر.

وتنبه إلى أن المسألة كلها عملية، وبالتالي يجب أن يفهم قول الشيخ محمد بن إبراهيم: «كفر اعتقاد مخرج وكفر عمل غير مخرج من الملة» مع أن المسألة في قضية عملية، إذن فعندنا كفر عمل مجرد عن الاعتقاد وهذا كفر أصغر، وكفر عمل يتضمن كفر اعتقاد فهذا كفر أكبر، وهذا خلاصة الكلام في المسألة، ولعلنا نزيده توضيحًا إن شاء الله عند مناقشة ما ذكرنا، لكن الغرض هنا أن نبين كلام الشيخ في مسألة بيان متى يكون أكبر، ومتى يكون أصغر بغض النظر عن قضية اصطلاح كفر الاعتقاد وكفر العمل، وإن كان حاصلها هو ما ذكرناه.

 وقد قسم الشيخ محمد بن إبراهيم الحكم بغير ما أنزل الله إلى نوعين: أكبر وأصغر، وقد عد الكفر الأكبر ستة أنواع، والأصغر نوعًا واحدًا، والأنواع الستة من الكفر الأكبر نوع واحد في الأصل وهو التبديل، ولكن تنوعت عبارات الشيخ محمد بن إبراهيم فجعلهم ستة لأنه - كما ذكرنا- كتب هذا الكلام في وقت كانت الدعوة فيه إلى تطبيق القوانين الأوروبية في البلاد الإسلامية على أشدها، وكان دعاتها يقولون كلامًا مختلفًا الغرض منه تمرير الباطل، وهناك من كان سافرًا جدًا في دعوته إلى الكفر والعياذ بالله، فيقول: ليس للشرع  حكم، وكل الأشياء التي عندكم في القرآن والسنة طبقت مرة قبل ذلك وانتهى الأمر، وأن هذه الأحكام  نزلت كواقعة جزئية، فمن حق القاضي كل مرة أن يحكم بما يراه!!.

وفي نفس القضية هذه المرة يرى أن هذا المجتمع مجتمع بدائي فلا يصلح أن يباح فيه الزنا فيقول: الزنا حرام، ثم بعد قليل يذهب إلى منطقة حضارية، فيرى الناس تحتاج لهذا فيقول: الزنا حلال!! ولذا قال أن الآيات التي فيها تحريم الزنا  كانت في مجتمع المدينة والعقوبة أيضًا لمجتمع المدينة!! ويزعم والعياذ بالله أن الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لو عاش إلى زماننا كان لأباح الزنا!! والعياذ بالله، وهناك أناس يقولون بذلك أناس، وهناك درجات أخرى مختلفة فيقول: في الشرع تحريم الزنا لكن المدنية المعاصرة تقول بتحليله وعلينا أن نعمل بحسب ما تمليه علينا المدنية!!.

فتنوعت دعواهم بتمرير القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، لذا حصر الشيخ محمد بن إبراهيم الصور التي يمكن أن يدعوها في ذهنه قدر الإمكان على حسب درجة الكفر، الأظلم، فالأشد ظلمًا فذكر الصور بداية بقول من يفضل الشريعة ثم يلتزم بالقانون الوضعي ويأخذ، فلا يمكن أن يدعو أحد إلى غير الشريعة ويكون أعدل من هذا  مع كونه : قد عد هذا من الكفر.

فبدأ بديباجة يجمل فيها الكلام، ثم بعد ذلك بدأ في التفصيل، ودور الإفتاء الرسمية تفعل ذلك، حيث تلخص الفتوى في سطرين أو ثلاث، ثم بعد ذلك يأتي الشرح، فكأن هذه هي طريقته، فقال: «إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين».

فمن الكفر الأكبر أن نستبدل الشريعة بحكم آخر في الحكم بين الناس، «والرد إليه عند المتنازعين»، فهذا تقرير للمسألة ثم الكلام الآتي بعد ما هو إلا شرح وتذييل للآيات التي تدل على ذلك، ثم نبه أن كل الصور ليست من الكفر الأكبر، فهناك صورة من الكفر الأصغر، وهي صورة قديمة، موجودة في بطون الكتب، فأراد أن ينبه عليها كما ذكرنا من كلام الشيخ أحمد شاكر في التعليق على أثر ابن عباس، وأثر أبي مجلز.

فالحاصل أن الست صور التي هي كفر أكبر هي في النهاية نوع واحد وهو: وجود تشريع بدل تشريع الله كأن يقول أن هذه المسألة حكمها كذا، وهذا الحكم يكون مخالفًا لحكم الله، ولو نسب هذا الحكم لأي أحد غير الله فهو كفر أكبر، فيقول: هذا هو الحكم الذي ندعوا إليه، أو الذي نطبقه، سواء كان هذا من باب الدعوة، أو من باب التطبيق، وليس شرطًا أن يستخدم نفس الألفاظ: الوجوب، والحرمة، والمباح، بل أي لفظ يقوم مقام هذه الألفاظ، ولكن المهم أن يقول: هذا ليس فيه إشكال أو أنها حرية مكفولة!!، فيقول: هذا الموجود عندنا، وفي الشرع أن هذا حرام، ولكن الموجود عندنا أنه مباح فهذا أيضًا بدل كما ذكرنا.

فالشيخ حصر أربع صور للتبديل، والتبديل في الأصل واحد ليس فيه صور، ولكن الأصل أنه ينحي حكم الله وحكم رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ويدعو ويقرر، ناهيك عن أن يلزم بحكم آخر، فالتبديل ليس له صور وإنما هي صورة واحدة، ولكن المبررات التي يسوقها صاحب هذا التبديل، جمع الشيخ منها أربع مبررات، ولذلك جعلها الشيخ أربعة أنواع، ثم قال: «هذا لو كان داعية» فالمفكرون العالمانيون وغيرهم سيكونون واحدًا من أربعة، فالذي يمتلك فرض هذا القول بالقوة، فهذا أشد من هؤلاء المفكرين، فلذلك جعله نوعًا خامسًا، أي أن عندنا نوع واحد قسم إلى أربعة صور باعتبار تنوع الدوافع، والخامس باعتبار واحد من الأربعة، ولكن يضاف إليه الإلزام بالقوة، والسادس واحد من الأربعة  أو من الخمسة، ولكن ينقصه الكتابة والتدوين، فربما توهم أنه غير داخل في ذلك فجعله قسمًا سادسًا.

فنلاحظ أن عندنا انقسم إلى أربعة أقسام، والخامس زيادة لأنه قد يتغلظ فالخامس هذا في الواقع أربعة صور متداخلة مع بعضها، فكان من الممكن جعله من الخامس إلى الثامن؛ لأنه شمل كل هؤلاء الأربعة، إلا أنه يزاد عليه الإلزام، فأحب أن ينبه أن هؤلاء الأربعة المذكورين داخلون في الحكم، ويزاد عليهم من يلزم، والسادس أيضًا واحد من هذه الأربعة أو من الخمسة، ولكن المهم أنه ليس عنده تدوين، فقد يتوهم أنه غير داخل في الكلام فنص عليه.

 يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «أما الأول - وهو كفر الاعتقاد-, فهو أنواع:

أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روى عن ابن عباس  ـ رضي الله عنه ـ  واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المقررة المتفق عليها بينهم: أن من جحد أصلًا من أصول الدين، أو فرعًا مجمعًا عليه، أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  قطعيًا؛ فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة».

الشرح:

معنى ذلك أن من يقول أن الشرع ليس له حكم أصلًا في الدماء، ولا في الأعراض، وأن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لم يأت بشريعة لازمة، وأنه أتى بعبادات فقط، أو يأتي لحكم واحد من الأحكام، ويقول: هذا ليس موجودًا في الشرع على الرغم من أنه يكون من المجمع عليه، ومن المعلوم من الدين بالضرورة، فيقول مثلًا: إن الشرع لم يحرم الزنا، أو أن الشرع لم يحرم الربا!! فهذا كله من الكفر الأكبر.

ومن باب التنبيه فمن يقول أن الشرع لم يحرم الربا وهذه المسألة تختلف عمن يقول أن معاملات البنوك لا ينطبق عليها وصف الربا، فهو هنا قد يبدع من أجل الضلال المبين في أن التوصيف واضح، ولكن نقول أنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة عندما يقول: الربا حلال!! وهكذا.

فهو هنا أتى إلينا بحكم، وليكن في مسألة جزئية مثل الزنا، فالشرع يقول: إن الزنا حرام وكبيرة من الكبائر، وأنه يرتب عليه عقوبة، وأن هذه العقوبة محددة، إما الجلد إذا كان بكرًا، وإما الرجم إذا كان ثيبًا، فهذا حكم الشرع، فمن يقول أنه ليس بجريمة، أو يقول أنه جريمة وعقوبته الرجم مطلقًا فهذا أيضًا خالف الشرع، وحكم بغير ما أنزل الله، أو يقول أنه جريمة في أحوال دون أحوال، فكل هذا تبديل لشرع الله تعالى.

فهذا الذي بدل نسأله: لماذا تقول أن الزنا مباح إذا كان برضا الطرفين، والشرع يقول أنه حرام؟

فمن المتصور أن يجيب بأن الشرع لم يحرمه، أو أنه لا يوجد شرع أصلًا، فيقول: إن الدين عبارة عن عبادات فقط!! أو أن يقول الشرع لم يحرم الزنا!! فهذا قد أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، فهذا تبديل، وهذا القسم شبه متفق عليه من باب أنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، مع أن الأقسام الأخرى داخلة في الإجماع الذي حكاه محمد بن إبراهيم، وحكاه من قبله ابن كثير.

النوع الثاني: يقول أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أتى بشرع، وأن في هذا الشرع حرمة الزنا، وتقدير عقوبة عليه، ولكن الدراسات الحديثة والقوانين المدنية أثبتت أن الأفضل للإنسان إباحة الزنا!!، وأن الإنسان حر في بدنه!! وينافح عن أفضلية هذا الحكم الوضعي!!، فهذا لم ينسب هذا الشيء للشرع، فهو لا يجحد  أنه حكم الله ورسوله، وأنه قد جاء به النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ولكنه يقول أن ما نحكم به أفضل.

وللتنبيه فإن معظم المواد القانونية تدرس مقارنة مع الشريعة الإسلامية، والعجيب أن تجد بعض الأخوة الذين حكينا عنهم ممن عنده تهميش لقضية الحاكمية من جهة، وغلو في أن يبحث لنفسه عن أي ولي أمر كائنًا من كان، فيصر على أنه ليس هناك خلاف رغم أن القانونيين يدرسونا هكذا، الشريعة فيها هذا الحكم، والقانون الفرنسي فيه هذا الأمر، والقانون الأمريكي قال بهذا، والمشرع المصري قال كذا كذا، فأخذ هذا من هنا، وهذا من هنا، ويتكلمون بمنتهى الحرية، والذي لديه منهم عاطفة إسلامية يؤكد دائمًا بعد أن يشرح - فهو عليه أن يشرح القانون كما هو - أن حكم الله أفضل وأحسن، لكن المسألة أنهم يدرسونه مقارنًا وهذا أمر واضح، وأصبح معروفًا ما هو من الشرع، وما هو ليس منه، فاشتراط أنه لابد أن ينسبه للشرع كي يكون كافرًا كفرًا أكبر، فهذا غير موجود إلا في خيال هؤلاء القوم، فالحالة الثانية أنه لا يجحد أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أتى حقيقة بشرع، ولكنه يرى أن هذا الحكم الذي أتوا به أفضل.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «الثاني: أن لا يجحد  الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  حقًا لكن اعتقد أن حكم غير الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أحسن من حكمه، وأتم، وأشمل، لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقًا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال».

كان من الممكن أن يجعل الشيخ هذا قسمًا مستقلًا، فهو يحاول أن يغلق الأبواب على من يأتي ويقول أن مقصد الشيخ كذا وكذا، ورغم هذا كله قد وجد من قال أن مقصد الشيخ كذا وكذا، فيقولون مثلًا: الشيخ يتكلم عمن يطعنوا في الدين!! ولكن الشيخ : كان يغلق الأبواب بدقة، فقال: هذا قسم، وقسم آخر وهم الذين يقولون نعم هذا عندكم في الدين، ولكن الحكم الآخر أفضل منه!! فمن الممكن أن يأتي شخص ويقول أن مقصود الشيخ  من يقول أفضل مطلقًا، وهؤلاء لم يقولوا ذلك، ولكن هؤلاء قالوا أن الدنيا قد تغيرت، وأن الآن الأفضل للناس فكانت هذه التشريعات الجديدة، فقال أيضًا أن من يقول أن حكم غير الله أحسن من حكمه: إما مطلقًا، وإما مقيدًا بزمان، أو بمكان، أو بباب من الأبواب، أو بواقعة من الوقائع، فهذا أيضًا كفر أكبر والعياذ بالله.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «إما مطلقًا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال، وهذا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصِرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد.

وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  نصًا، أو ظاهرًا، أو استنباطًا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.

الشرح:

هذا كما ذكرنا هو ما يمكن أن تسميه المناظرة بين الإسلام والعالمانية، ولكن على ما يتسع له المقام هو يعلم أنهم سيدعون أن الأحوال متجددة، فكيف تحكمون بشرع مضى عليه أربعة عشرة سنة على أحوال متجددة؟! فهذا الكلام لو قاله بشر من البشر لكنا نقول: أفق البشر ضيق، فهو يتوقع مثلًا مدة خمسين سنة أمامه، أو مائة سنة أمامه، ثم بعد ذلك قد يكون في الدنيا ما لا يتصوره، ولكن الأمر من عند الله العليم الخبير، الذي يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، والله تعالى قد حكم أن هذه هي الشريعة الخاتمة، وأن هذا هو الشرع الذي جعله الله تبارك وتعالى عامًّا لأهل الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكيف يعترض هؤلاء؟! أيعترضون على حكم الله العليم الحكيم؟!!.

وذلك بالفعل لا يجتمع مع الإيمان، فأين الإيمان حينما يزعم أن الله تعالى يجهل؟!! والعياذ بالله - فهذا مقتضى كلامهم- وكأنهم - والعياذ بالله - يزعمون أن الله تعالى لا يعلم ما يستجد، فهم يقولون أنتم تقولون أن الله عليم حكيم خبير، وهذا على العين والرأس، ولكن أين حكم السيارات والطائرات، وحكم كل ما استجد من حوادث؟!!، فنقول: هذا لأنك أحلت الأمر إلى غير أهله، فإن حكم كل مسألة موجود في كتاب الله إما نصًا، أو ظاهرًا، أو استنباطًا، فهنا يحيلهم على علم أصول الفقه، وقد اضطروا إلى أن يتعلموه لكي يفسروا به القانون، وكان الذي ينبغي عليهم أن يتعلموه لكي يفسروا به الشرع.

قلنا من قبل أن الذي وضع القوانين المدنية العربية عمومًا أناس كان لهم اطلاع واسع على الشرع، والقوانين المدنية الأوروبية في الأصل منقولة من الشرع، لكن مع تشويه لها، فبعد فترة من اتساع القوانين وجدوا أنه لا يوجد قانون يمر عليه يوم وليلة إلا وتأتي واقعة غير منصوص عليها فيه!! فلهذا اضطروا أن يصنعوا آلية لفهم النصوص فلما بحثوا لم يجدوا إلا علم أصول الفقه عند المسلمين، وبالطبع لم يكن عند القانونيين العرب لم يكن غضاضة أن يأخذوا العلم كله، أما الأوروبيون فقد نقلوا منه أشياء على استحياء حتى لا يسأل الناس: أين الفقه الخلاق العجيب الذي فيه كل قواعد المرونة؟!, فنحن نقول لهؤلاء: لماذا أخذتم قواعد الفهم، وتركتم الفقه الأصلي ولم لا ترونا إياه؟!.

ولذلك لما نقلوه؛ نقلوه على استحياء، أما في بلاد المسلمين فلا حياء فدرسوا للناس علم أصول الفقه، ومذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، في قضايا دلالة الأمر، ودلالة النهي، والعموم والخصوص، وبعد ذلك يقولون: طبِّق ذلك على القانون الوضعي!! وهذا كلام في غاية العجب.

إذن فالذي يدعي أن الحوادث غير متناهية ومتجددة دومًا، وأن الشرع نزل فيما قبل ذلك، وليس كل الناس ذوو ألسنة قبيحة، فمن الناس من يضع السم في أكواب العسل، فيقول: الله  ـ عزوجل  ـ  من رحمته لم يثقلنا بإخباره أنه سوف تنشأ بعد ذلك طائرات، وسيارات، وكذا، فحكمها كذا، وستنشأ أنواع كذا من المعاملات وسيكون هناك بنوك، وسيكون هناك معاوضات وحكمها كذا، فيقول: الله أرحم من أن يكلف الناس بهذا الأمر!!.

نعم .. الله أرحم بهم فعلًا ولذلك لم يقل ذلك، ولكن في نفس الوقت حينما ألزمهم أن يرجعوا لهذا الشرع، فلا بد أن يكون هناك حل آخر يلزمك البحث عنه، ولا تقل أن الحل أن الله تعالى ألزم الناس بشرع ناقص والعياذ بالله، وأنت ستكمله، فنقول: لا .. كل مسألة ستجدون حكمها نصًا، أو ظاهرًا، أو استنباطًا على درجات متفاوتة، فستجدون نصًا مثل: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ أو تجدوا أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  نهى عن بيع الغرر، ونقول أن المراهنات من الغرر، وكل الصور الحديثة والتي أصبحت مائة ورقة بدلًا من ثلاث ورقات، فالفرق اختلاف الصورة، فهي أعقد، ولكنها في النهاية هو غرر، فهذا نص ظاهر في تحريم كل هذه المعاملات.

أو استنباطًا عن طريق القياس، والبحث في العلل، ونحو هذا فمثلًا مسألة تأجير الأرحام، نقول أن حكم هذا حكم الزنا؛ لأن الزنا حينما حرم كان أهم علة في تحريمه: اختلاط الأنساب، وهذه هي المسائل الحديثة التي يقولونها، وحكمها موجود في كتاب الله بفضل الله تعالى يدرسه صغار طلبة العلم، ولكن هؤلاء يصمون آذانهم عن هذه القضية.

فهو هنا يناقش أصحاب اللسان الثاني، الذي هو أحسن قليلًا من السابقين الذين يقولون أن الشرع لا يلزمنا، وأنه لا يوجد شيء يسمى شرع أصلًا، أما هذا ها فهو يقر أن هناك شرع، ولكن لم يعد يلزمنا، فإن هناك ما هو أفضل منه، وهنا ذكر فريقين  فريق من الممكن أن يكون قبيحًا جدًا، ويقول أن غيره أفضل منه منذ القديم، ولكنكم  لم تنتبهوا لهذا الأمر، والفريق يقول أن هناك مسائل استجدت سنحكم نحن فيها؛ لأن الشرع لم يحكم فيها؛ نتيجة لتغير طباع الناس فيقولون قديمًا كانت الطبيعة البدوية لذا حرموا الزنا، أما الآن فالمدنية، وصعوبة الزواج، وكذا وكذا، فالأفضل إباحته، فكل مسألة تستجد سنجد حكمها موجودًا نصًا أو ظاهرًا أو استنباطًا، أما المسألة التي يتغير حكمها بتغير الزمان، والمكان، سنجد أن الشرع أيضًا يعلقها على شروط، ولا يقول حكمًا واحدًا.

بيان تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان:

فهذا حال من لسانه أفضل قليلًا عن سابقه، حيث يقول: نحن أتينا بحكم ليس من الشرع، نعم.. لكن قال الفقهاء أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان  فنخبر هؤلاء عن قضية تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وهذه مسألة تعرضنا لها كثيرًا، وهي تستأهل أن يفرد لها الكلام.

وباختصار نحن قلنا أن الحكم الشرعي وهو خطاب الله  ـ عزوجل  ـ  المتعلق بأفعال الكلفين في مسألة معينة، وهذا الخطاب لا يتوجه إلى فلان أو غيره بأعيانهم، ولكنه موجه إلى كل الخلق، فهذا الحكم له شروط، وأسباب، وموانع، وفيه تفصيل، وفيه إذا كان كذا يكون كذا، فهذا كله حكم.

فإذا كانت واقعة معينة سننظر أي حالة ينطبق عليها، وهل الشروط موجودة أم لا؟!، وهل الموانع موجودة  أم لا؟! وفي النهاية سيكون هناك فتوى على واقع معين، فالمسألة الواحدة تتغير الفتوى فيها بتغير الزمان والمكان، ولن نبدل ونشرع من عند أنفسنا، ولكن مرة سنقول مثلًا: هذا زانٍ يرجم، ومرة نقول: هذا زانٍ يجلد، وهذا من تغير الفتوى بتغير الزمان، والمكان، والشخص، فإذا تغيرت الحالة تغير الحكم الشرعي، ففي الشرع تفصيل أنه إذا كان الزاني محصنًا رجم، وإذا كان غير محصن جلد، فالمسألة هنا الاختلاف في التطبيق الواقعي فنبحث هل  زنى أم لا؟! فيؤتى بأكثر من شخص، فنقول مرة: لم تثبت التهمة؛ لأن كمال الحكم الشرعي في هذه المسألة أنه يثبت بالاعتراف، أو بشهادة أربع شهود عدول، فإذا كان أكثر من شخص متهم بنفس التهمة، ولكنهم يخرجون بأحكام مختلفة، فهذا تغير لاختلاف الواقعة، فهناك أشياء يتغير الأمر فيها بصفة عامة، وهذه التي أشار إليها العلماء.

فنحن هنا نتكلم عن قاضٍ أمامه ثلاثة متهمون بتهمة واحدة، فيقول لأحدهم: هذا لن يقام عليه حد، وهذا سيجلد، وهذا سيرجم، فهناك مسائل تأخذ صفة العموم بصفة عامة، وهي التي في الأمور التي مبناها على المصلحة، وتعم بها البلوى، ففي كتاب الجنائز لو أن امرأة ماتت وفي بطنها جنين، هل نشق بطنها، ونشوه امرأة لها حرمة وقد ماتت فهل نشق بطنها من أجل جنين غالب الظن أن يخرج ميتًا؟! فكانت هنا فتوى عامة أن كل امرأة تموت وفي بطنها جنين لا تشق بطنها، فهذا الكلام ليس حكمًا شرعيًا ثابت، وإنما مدار المسألة مدارها على تعارض المصالح، ولكن كان أهل الزمان كلهم مشتركين في أن احتمال خروج الجنين حيًا في هذه الحالة احتمال ضعيف، وأننا لا نهدر حرمة آدمية ميتة من أجل جنين مظنون الحياة أما الآن قلنا أن هذا الكلام قد تغير، وليس الشرع الذي تغير، فقد الشرع أحالنا في هذه الأمور إلى الموازنة بين المصالح، فلما اختلف الأمر الآن، وهناك وسائل يقوم بها غلبة الظن أن الجنين سيخرج حيًا، أو سيخرج ميتًا، فقلنا  إذا  كان   هناك غلبة ظن أن يخرج حيًا فمصلحة الحي أولى من مصلحة الميت، وهذه قاعدة شرعية موجودة.

إذن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان إما أن يكون أحيانًا في نطاق ضيق كاختلاف وقائع في زمان واحد، وأحيانًا تكون معطيات الزمن كلها قد تغيرت بالفعل، لكن محال أن تتغير معطيات الزمن فيكون الشرك أحسن من التوحيد أو يكون كل من الزنا أو الربا أو الخمر مباحًا، بل كل هذه أمور محسومة شرعًا، قد قضى الشرع بحرمتها، ولكن هناك مسائل أحالها الشرع على المصلحة، فإذا تغير ميزان المصلحة تغيرت معه الفتوى.

وهذا الموضوع من أكثر الموضوعات التي يدندن حولها العالمانيون الذين يحاولون أن يقولوا للناس أن العالمانية ليست مصادمة للإسلام!! وأن تحكيم القوانين المدنية ليس مصادمًا للإسلام، ويزعمون أن عمر عطل حد السرقة عام الرمادة، وذكرنا الإجابة على هذا وهي أنه طبق القواعد الشرعية التي فيها درء الحدود بالشبهات، فقد كان هناك مجاعة وهذه شبهة في حد ذاتها تكفي لإسقاط الحد، ولم يسقط الحكم الشرعي، ولكن صار أمرًا عمت البلوى به، فالقاضي في غير المجاعة يؤتى إليه بشخص سرق من أبيه، وشخص سرق من شريكه، وشخص انتهب، فيقول عن أحدهم: هذا تقطع يده، وهذا يعزر، وهذا يعزر؛ لأنه يطبق القواعد في أن السرقة التي يجب بها القطع لا بد أن تكون من حرز، وأن لا يكون هناك شبهة، فمثلًا شخص سرق من أبيه ويقول: كان الواجب عليه أن ينفق علي، فمنعني النفقة، فهذا له شبهة فيعزر ولكن لا يقام عليه الحد، ومن باب أولى الوالد مع ولده.

إذن هذا في الظروف العادية فمن الممكن أن تأتي للقاضي تهم مشتركة - أي نفس التهمة- ويطبق القواعد على كل حالة على حدة، وفي هذا الوقت عم عند الناس هذا الأمر أن كل الناس وظهرت شبهة، فهناك مجاعة والذي يسرق؛ يسرق من أجل طعامه، إذن فستكون هذه شبهة عمت على جميع الناس كما قلنا أن الآن كل الناس يمكنه أن يتأكد إذا ماتت امرأة وفي بطنها جنين من الممكن أن يتأكد بسهولة وبأموال يسيرة هل من الممكن أن يخرج الجنين حيًا أم لا؟! فغيرنا الفتوى التي كانت على سبيل العموم قديمًا، وقد كانت المنع من شق بطنها، ولكن الآن على سبيل العموم ينظر في حال الجنين ثم يشق بطنها بناء على ذلك.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم :: «وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال  ما ظنه من قل نصيبهم - أو عدم  - من معرفة مدارك الأحكام، وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلاءم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها منقادة إليها - مهما أمكنهم-؛ فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه, وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان، مراد العلماء منه: ما كان مستصحبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد.

الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين الذين قبله في كونه كافرًا الكفر الناقل عن الملة؛ لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، (وهذا هو الشرك) والمناقضة، والمعاندة لقوله  ـ عزوجل  ـ : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات، والصفات، والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.

الرابع: أن لا يعتقد أن كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلًا لحكم الله ورسوله، فضلًا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه؛ لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة، الصريحة، القاطعة تحريمه».

الشرح:

فهذا يبدل فيقول مثلًا: الزنا مباح إذا كان برضا الطرفين، وأنا أعلم أن الشرع حرمه، وهذا هو الأحسن، وهو اللازم، ولكن يمكننا أن نقول أنه مباح، وهذا إما أن يقول: يمكننا مطلقًا أو في بعض الأحوال أن نخالف حكم الله  ـ عزوجل  ـ ، وهذا هو الاستحلال الذي يتكلم عليه من يشترط الاستحلال.

فكلام الشيخ هنا عن التبديل وذكر أربعة أنواع، وهي أربعة باعتبار اختلاف دوافع أو مبررات، والأمر يحتمل أي دوافع أخرى؛ لأنه قرر القاعدة أولًا، وهذا نوع من الإسهاب، وسد الأبواب أمام من يأول هذا الكلام فيما بعد، فيقول: أنه ليس هذا هو المقصود ولا هذا .. فقال الشيخ في البداية: «إن من الكفر الواضح المستبين تبديل هذا بذاك» ثم فصل هذه المسألة.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «الخامس: وهو أعظمها، وأشملها، وأظهرها معاندة  للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادًا، وإمدادًا، وإرصادًا، وتأصيلًا، وتفريعًا، وتشكيلًا، وتنويعًا، وحكمًا، وإلزامًا، ومراجع، ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلهذه المحاكم مراجع هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القانون، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، ونحو ذلك.

فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيئة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمدًا رسول الله بعد هذه المناقضة.

وذِكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط، معلومة، معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع، فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء، وأولي النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطؤهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم؛ إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصًا، أو استنباطًا، تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم، وأعراضكم، وفي أهاليكم من أزواجكم، وذراريكم، وفي أموالكم، وسائر حقوقكم، ويتركون، ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وخضوع الناس، ورضوخهم لحكم ربهم: خضوع، ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى؛ ليعبدوه فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا، ولا يخضعوا، أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم، الحميد الرءوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك، والشهوات، والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة، والقسوة، والظلمات، فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه؛ لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء، والأغراض، والأخطاء، فضلًا عن كونه كفرًا بنص قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾.

الشرح:

فالنوع الخامس أحد الأربعة الماضيين، فهو في النهاية مبدل، فالأربعة تبديل، ولكن اختلفت باختلاف الدوافع وهو الخامس ولكنه يضيف إلى ذلك الإلزام، وهذا الإلزام يجعله أشد معاندة، ومناقضة من جميع الذين سبقوا، فالكافر الداعي الذي يدعو إلى كفره ليس كالكافر الذي لا يدعوا إليه، والذي يلزم الغير به، ليس كالذي لا يلزم غيره به، وقد قلنا أن بعض الاتجاهات قالت: أنه لا يكفر إلا إذا استحل، فهنا الشيخ محمد بن إبراهيم من قبل ما يسمع هذه الأقوال العجيبة، قال: أن من يلزم أشدها وأعظمها معاندة؛ لأن هذا لو كان فيه خلاف في الدعاة أو المفكرين كما يقولوا، فلا يصلح أن يكون هناك خلاف في شخص يحرم الحكم بما أنزل الله، ثم نتساءل: هل استحل الحكم بغير ما أنزل الله؟! فهذا يحرم الحكم بما أنزل الله؛ لأن عند هذا الذي ألزم الناس من لم يطعه يستحق الذم والعقاب، فكيف يسأل: هل هذا مستحل أم لا؟! فهل يسأل عن شخص يحرم الحكم بما أنزل الله؟!!

وهناك واقعة لا بد من أن نتكلم عليها بالتفصيل: هل لو ذكر القانون الوضعي كحال القانون المصري الآن بعد 1981م الذي فيه أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، ثم بعد جدل قانوني حسم في المحكمة الدستورية العليا، بإلزام الهيئة التشريعية أن لا تخالف الشرع فهل هذا له أثر؟.

نعم له أثر بكل تأكيد له أثر، ولكن ما مدى أثره على هذه القضية جزئيا، وعلى قضية الديمقراطية كحل؟ فهل الديمقراطية لو وضع فيها هذا المبدأ تكون مقبولة إسلاميًا؟! فهذه مسألة قد تحتاج إلى تفصيل، لكن نذكر من ضمن الوقائع أنه لما تم هذا التعديل عرض على أحد القضاة شارب خمر، وفي القانون المدني أن شرب الخمر مباح، وليس بجريمة وإنما الجريمة هي السكر البين في الطريق العام، والعقوبة غرامة، أو حبس أشهر، لا أدري كم؟! ولكن المهم أن له عقوبة مخففة: إما غرامة، أو الحبس، أو كليهما، حسب تقدير القاضي.

وكنا قد ذكرنا أن هذا من تناقض القانون الوضعي أن يبيح السكر، ثم يحرم التمادي فيه!! فنتساءل: ما هو الحد الفاصل؟ إذن فهذا من ضمن التناقضات الكبيرة التي عندهم، فهذه القضية فيها إشكالية قانونية كبيرة، وليس هذا مجال تفصيلها، وقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾.

المهم أن القانون الفرنسي وكل القوانين المنبثقة عنه، تجعل شرب الخمر حرية شخصية، ولكن عندهم أن حدود حرية الشخص تنتهي عندما تجور على حرية الآخرين، فهم يرون أن السكر البين في الطريق العام خطر كبير على الناس، فهذا هو الذي يبدأ يعتبره جريمة يعاقب عليها القانون.

فعرض على هذا القاضي شخص تهمته ليست شرب الخمر، ولكن تهمته السكر البين في الطريق العام، فقال أن هذا قد شرب الخمر، وأمر بجلده، فاجتمع مجلس القضاء الأعلى في اليوم التالي مباشرة، وناقش هذا التجاوز الخطير من هذا الرجل، فعدوا مخالفات هذا القاضي فوجدوها مخالفات كثيرة منها أنه عاقب على غير جريمة لأنه قال في حيثيات الحكم أن هذا شرب الخمر، وهذه ليست جريمة قانونًا! فكيف يعد ما ليس بجريمة جريمة؟!!.

والأمر الثاني أنه أتى بعقوبة ليس لها نظير في القانون فهو إذن تجاوز النص الصريح في القانون إلى إعمال المبادئ العامة، وفي النهاية تم فصل هذا القاضي، وقالوا أنه قد تجاوز سلطاته كقاضي إلى أن جعل نفسه مشرعًا، وأن الخطاب أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع يخاطب به المجلس التشريعي، وليس القاضي، أما القاضي فعليه أن يلتزم بالقوانين حتى ينقيها المجلس التشريعي إن أراد!!.

وهذه كانت أول واقعة، وهناك قاضي أحب أن يستثمر الموقف ويجرب؛ فجرب ففصل، فهذا كما نرى تحريم للحكم بما أنزل الله، واعتبار من يفعل ذلك مستحقًا للذم والعقاب.

فكما ذكرنا بعد جدل طويل استقروا فعلًا على أن هذا خطاب للمشرع - والمشرع عندهم هو المجلس التشريعي- وأنه أيضًا خطاب له فيما يستقبل!!، بمعنى أن المجلس التشريعي غير مكلف بمقتضى هذا التعديل أن ينقي كل القوانين، ولكن عندما قانون يعرض فلا بد أن يراعى فيه موافقته للشريعة، ولم يقولوا ما هي المعايير التي يكون فيها موافقًا للشريعة.

فكما قلنا مثلاً في الذبائح المستوردة يأتون بختم: ذبح طبقًا للشريعة الإسلامية، وهناك أيضاً أناس معهم ختم على أي ورق يعرض عليها موافق للشريعة الإسلامية، وطالما ختم بهذا الختم فهو من الناحية الشكلية الإجرائية القانونية مستكمل أركانه، وإن كان أحيانًا من الممكن من سلطة المحكمة الدستورية العليا التي سلطتها مراقبة القوانين لو رأت أن هذا مخالف للشريعة أن تنقضه.

فالقضية أننا نقول أن الإلزام بغير شرع الله فيه تحريم للحكم بما أنزل الله، فليس فلا ينبغي السؤال عن الاستحلال، فنحن نتكلم على مرحلة أظهر وأوضح، فعند هذا من يحكم بشرع الله يستحق الذم والعقاب حتى الإسلاميين حينما يشتركون معهم في اللعبة الديمقراطية، يقول لهم العالمانيون: أنت إسلامي: ونحن نعلم نواياك الخبيثة!! فنحن نعلم أنك بعد ذلك تريد أن تلزمنا بتحريم الرقص، وإلغاء السياحة الترفيهية!! وكأن هذه تهم على الإسلاميين دفعها، وهم بالفعل يحاولون دفع ذلك عن أنفسهم وكأنها تهمة!!.

والحريص منهم على مبادئه العالمانية يقول لهم: القانون فوق رؤوسكم قبل أن يكون فوق رؤوسنا!! فمن العالمانيين من يقول: حتى لو كان معكم الأغلبية فليس من حقك التغيير لأن هذا انقلاب على الثوابت الدستورية!! ونحن قد أقمنا دولة مدنية، فلا محل للنقاش في موضوع الدولة المدنية بكل ظلالها.

إذن فقد أغلقوا الباب في وجوه الإسلاميين كل الأبواب، ففي أي شيء سيكون الصراع: هل سيكون في بيع القطاع العام أم عدم بيعه، أو تأميمه، أم نجعله شركة مساهمة؟! فهل هذه معركة نخوض فيها كإسلاميين؟!! فهذا هو الجزء الذي من حقك أن تتكلم فيه الآن، ولكن أي مسألة أخرى يقول لك: هذه من ثوابت الدولة المدنية، وهذا سيكون منكم انقلابًا على الثوابت، وعند هؤلاء العالمانيين أن هذه الثوابت لا تتغير.

فهؤلاء العالمانيون عندهم إما أن هذه الثوابت غير مسموح بتغييرها، وهي ما يزعمون أنه حريات، وهي بواقعها مصادمة للشريعة، وإما أن يقولوا أن أقصاها أن تبقى محترمًا لهذا القانون حتى تغيره إن استطعت.

يقولون أن هذا القانون الوضعي واجب الاحترام، وفوق الرؤوس، وغيره يذم من عمل به، إلى غير ذلك، فهذه المسألة أظهر من أن يختلف هل هناك استحلال أم لا؟!.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر، والقبائل، من البوادي، ونحوهم، من حكايات آبائهم، وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها (سلومهم) يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحرصون على التحاكم إليه عند النزاع؛ بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضًا، ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

الشرح:

هو أحد الأربعة الأوائل فهو في الجملة تبديل، فهذا شخص عنده شيء آخر غير الشرع، ومن الممكن أن يكون بعض هؤلاء لا يكون في ذهنه، ماذا يقول على حكم الشرع؟ فهو مسلم، ويعلم أن الشرع له أحكام؛ لأنه لو كان جاهلًا فستكون مسألة أخرى، ولكنه يقول: لنا ما توارثناه!! فإدراج الشيخ محمد بن إبراهيم لهذا النوع يستعصي معه قول من قال أنه لا بد من سؤالهم [هل فعل هذا استحلالًا أم لا؟] فمعظم العشائر والبوادي والقبائل لم يفكر في القضية، فلو سألته: لم تركت شرع الله؟ فستكون إجابته هذا الذي توارثناه، بل ربما تجد بعضهم أحيانًا بعد أن شاع الحكم بالشرع - بفضل الله تبارك وتعالى- ووجدوا أنه هو الذي يحقق مصالح العباد من الناحية المصلحية، ولكن ليست هذه هي القضية التي نريد أن ندندن حولها كثيرًا.

فالمسألة هو لزومه تعبدًا قبل أن نقول أنه يحقق مصالح العباد، فتعلموه للقضاء في الأموال، والدماء، ثم يسأل الناسَ: هل تريدون شريعة الله أم شريعة قبيلة كذا؟! فهم يعرفون حكم الله، وليس عندهم بغض للدين، بل عنده استعداد لأن يحكم به، ولكن يراجع الناس فيما يريدون، وهذا هو الواقع الذي يتكلم عليه الشيخ محمد بن إبراهيم عن أهل القبائل الذين هم ليسوا بعالمانيين، وليس لهم غرض إلا المحافظة على تراث آبائهم، وأجدادهم، فأيهما أمثل حالًا الذي يحافظ على تراث آبائه، وأجداده، أم الذي يحافظ على تراث نابليون؟.

فيقولون على نابليون من الله ما يستحق لأنه هو الذي أدخل عندنا هذه القوانين، ولكن هل يمكن لمثل هذا أن يتغير؟! لا، بل يجعلها فوق الرؤوس بالرغم من أن الذي سنها هو نابليون، وتظل كذلك حتى تتغير، وكما ذكرنا أن بعض الناس يقولون: غيرها إن استطعت!! وبعضهم يقول: هذه غير مسموح بتغييرها أبدًا!!.  

فهذه هي أحوال الكفر الأكبر التي ملخصها أن يحكم بحكم آخر غير شرع الله تبارك وتعالى، فيكون عنده أساس نظري مخالف لحكم الله  ـ عزوجل  ـ .

وسنضرب ثلاثة أمثلة يتضح بها ملخص القضية :شخص زانٍ شهد عليه أربعة شهود عدول أنه زنى، وعرض على ثلاثة قضاة:

قال القاضي الأول: إن شرع الله حرم الزنا، وجعل له عقوبة الرجم، أو الجلد، وهذا يثبت بالاعتراف، أو بشهادة الشهود، وأن عقوبته الرجم، أو الجلد حسب حال الزاني، وبما أن هذا الرجل ثبت عليه الزنا بشهادة الشهود العدول، وأنه محصن فستكون عقوبته الرجم.

وقال القاضي الثاني: إن الشرع حرم الزنا، وأن عقوبته الجلد، أو الرجم، ويثبت بالاعتراف أو بالشهود الأربعة، ولكن نتيجة أن هذا القاضي أخذ رشوة يقول: وحيث أن هؤلاء الشهود ليسوا عدولًا فلا عقوبة على المتهم، أو يجبر أحد الشهود أن يغير اعترافه من أنه رأى الزنا إلى أنه رأى أمرًا فاحشًا لا يصل إلى الزنا، فيحكم القاضي بالتعزير لأن الشهود لم يقولوا أنه زنا.

وقال القاضي الثالث: الزنا حرية شخصية إذا كان برضاء الطرفين، ورغم إن الشهود شهدوا أنهم قد رأوه يواقع المرأة، لكن المتهم قال أنها راضية، وهي فوق ثمانية عشر عامًا إذن فلا وجود لأركان لجريمة أصلًا فيبرأ.

فالأول حكم بما أنزل الله، والثاني حكم بغير ما أنزل الله، ولكن كفره كفر أصغر؛ لأنه  يحكم بما أنزل الله ابتداء، فالقانون النظري الذي يحكم به في كل القضايا هو شرع الله تبارك وتعالى، ولكنه يأخذ الرشوة، أو له هوى، ولو تكرر ذلك منه، فليست هذه هي القضية، ولكن القضية أنه لم يبدل شرع الله، ولم يناقض حكم الله، فهذه معصية، وهي كفر أصغر، وهو حكم بغير ما أنزل الله، أما الثالث فحكم بغير ما أنزل الله، ولكن كفره كفر أكبر؛ لأنه من باب التبديل.

ويرد في بعض القضايا أن القاضي يتأول، فهذا من الممكن أن تعده قسمًا رابعًا، ومن الممكن أن يكون معذورًا تمامًا، ومن الممكن أن يكون من باب الكفر الأصغر، ولن يتعدى الكفر الأكبر، سواء فهم حكمًا شرعيًا خطأ، أو فهم وقائع القضية خطأ، أو غير ذلك من الأمور.

الكفر الأصغر في قضية الحاكمية :

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «وأما القسم الثاني من قسمي الحكم بغير ما أنزل الله - وهو الذي لا يخرج من الملة - فقد تقدم أن تفسير ابن عباس ب لقول الله  ـ عزوجل  ـ :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله  ـ رضي الله عنه ـ  في الآية: «كفر دون كفر» وقوله أيضًا: «ليس بالكفر الذي تذهبون إليه»، وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ.

        

الشرح:

أي أن القانون النظري عنده الذي يحكم به هو الشرع، ولكن ربما يحكم في قضية أو أكثر بغير ما أنزل الله، ربما لأخذه رشوة، أو لشهوة، أو مثل هذا، فهو يتلاعب، وذلك شبه ما تكلمنا عنه في الفرق بين الحكم والفتوى، فإننا يكون عندنا حكم شرعي نطبقه على واقع؛ فيعطينا فتوى، فهذا أيضًا هو الفرق بين الحكم الشرعي والحكم القضائي، فالحكم الشرعي موجود في شرع الله تعالى، وهناك وقائع قضية يطبق القاضي الحكم الشرعي على وقائع القضية؛ فيخرج بحكم قضائي أن هذا يبرأ، أو يجلد، أو يرجم، أو هذا تقطع يده، فهذا حكم قضائي فيه شبه من الفتوى من باب أنه ناشئ من حكم شرعي مع واقع، فحينما يخالف القاضي في قضية أو أكثر لشهوة أو هوى وهو في الأصل يحكم بالشرع، فيتلاعب في وقائع القضية، فيقول مثلًا: الشهود لم يشهدوا، أو الصورة الأكثر حدوثًا في أمراء بني أمية وهي الامتناع السلبي عن تنفيذ الحكم.

وقد ذكرنا أن القاضي في العرف الشرعي أشمل من القاضي في زماننا هذا، فالقاضي في العرف كان له قدر اجتهاد، وهذا الذي يقولون عليه الآن تشريع، وفي الحقيقة أنه ليس بمشرع، وإنما هو ينظر في الشرع، إذا جدت حادثة أو نازلت نازلة فيجتهد فيها، فالقاضي مجتهد، ومطبق للشرع، ولديه سلطة تنفيذية بالاصطلاح المعاصر.

فقاضٍ يحكم في قضية زنا ويشهد أربعة شهود على قريبه أنه زنى، فالقاضي مكلف شرعًا أن يأتي به لكي يقيم عليه الحد، ولكنه بعد أن يشهدوا عليه لا يتحرك، ويمتنع امتناعًا سلبيًا عن تطبيق الحدود المناط به تطبيقها، فهو قاضٍ ينوب عن الإمام العام في تطبيق الحدود، أو منع المنكرات المنوط به منعها، فهذا أيضًا نوع من الحكم بغير ما أنزل الله, وهو الامتناع عن تطبيق الأحكام العملية, فلما أتوا إليه بالزاني لم يقل لهم: الزنا حرية شخصية، أو لما أتوه بشارب الخمر لم يقل لهم: الخمر مباحة، ولكنه استقر لديه شرعًا أن هؤلاء شهود عدول، وشهدوا عليه، فيجب أن يقيم حكم الله تعالى، فتوانى وقصر، وهذه كانت أكثر الصور حصولًا في أمراء بني أمية.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: «وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ، ومجانبته الهدى، هذا - وإن لم يخرجه كفره عن الملة-، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس، وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفرًا أعظم من معصية لم يسمها كفرًا، نسأل الله العظيم أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقيادًا، ورضاء، إنه ولي ذلك، والقادر عليه» ا.هـ .

الشرح:

انتهت بذلك الفتوى، وقد نقل الشيخ ياسر معظم ما في الفتوى ولكننا فضلنا أن نقرأها كاملة، ونستكمل في المحاضرة القادمة كلام الشيخ ياسر عن ماذا يفعل المسلمون الآن، والتعليق على بعض الآراء التي ذكرنا أنها تحتاج إلى تعليق.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1564 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1705 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2028 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1666 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥