الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (8

تلخيص قضايا الإيمان والكفر ، وبيان علاقة الحاكمية بها

(الحاكمية (8
عبد المنعم الشحات
الأربعاء ٢٥ فبراير ٢٠١٥ - ١٣:٥٩ م
1835

الحاكمية (8)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

[ تلخيص قضايا الإيمان والكفر ، وبيان علاقة الحاكمية بها ]

الارتباط بين قضية الحكم بغير ما أنزل الله ومسائل الإيمان والكفر :

كنا قد شرعنا في المرة السابقة في نوع من التفصيل في الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة في توصيف قضية الحكم بغير ما أنزل الله وما يدخل منها في صفوف الكفر الأكبر وما يدخل منها في صفوف الكفر الأصغر ، وبينا عدة نقاط تمهيدية لها أهمية كبيرة في بحث هذه المسألة وفي بحث غيرها .

ووقفنا عند بيان قضية وثيقة الصلة جدًا [ بهذه القضية ] وأن البعض قد عكس المسألة فعلى الرغم من أن قضية الحكم بغير ما أنزل الله شأنها شأن غيرها من سائر المخالفات في الإيمان ، إذ هي فرع على مسائل الإيمان والكفر إن أن الخلاف فيها انعكس بصورة كبيرة جدًا على مسائل الإيمان والكفر بحيث أن البعض أعاد صياغة مسائل الإيمان والكفر .

فقبل وجود الخلاف المحتدم في قضية الحاكمية يكتفي عامة السلفيين بكتاب « الإيمان » مثلًا لشيخ الإسلام ابن تيمية ، أو قبله كتب « الإيمان » التي حملت هذا الاسم ، أو تكلمت في بيان أن الإيمان قول وعمل ، وبيان المسائل المعروفة من أن الإيمان يزيد وينقص ، وبيان أن الكفر  ينقسم إلى أكبر وأصغر ، فكثير من الاتجاهات احتاجت إلى كتابة مستقلة ، وإن كان معظم الاتجاهات - ونحن منها- يدعي أن هذا الكلام موافق لكلام ابن تيمية .

والإشكال في هذه الخلافات أنك في أحيان كثيرة تدعي الدعوى أنت وغيرك ، ولكن القضية تحتاج إلى إنصاف وتجرد ورجوع إلى الله تعالى ، وتوكل عليه أن يهدينا إلى الحق والصواب ، فنقول : إن كثيرًا من هؤلاء نسبوا لكثير من علماء السلف - لاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية-  كلامًا لا يمكن لمن تدبر كلامه بتمامه أن يقول أن هذا قوله .

الحاصل أن كثيرًا من الاتجاهات احتاجت إلى أن يكون لها صياغة أخرى في مسائل الإيمان والكفر لكي تكون متوافقة مع نظرتها في مسائل الحكم بغير ما أنزل الله سواء كانوا يريدون أن يوسعوا دائرة التكفير أو يريدون أن يضيقوها ، فنشأ من هذا فساد أعظم بدل أن كان الخلاف في مسألة من المسائل مهما كانت أهميتها فتبقى هي مسألة ، لكن حينما نقلت القضية لمسائل الإيمان والكفر أصبح لها فروعًا أكثر بكثير من مجرد الكلام عن قضية الحاكمية .

نحتاج أن ننبه سريعًا على أصول مسائل الإيمان والكفر خاصة ما يتعلق به في هذه المسألة مع أن الأمر كما ذكرنا يحتاج إلى دراسة تفصيلية لها ، من المسلم به بين كل المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة أن الإيمان بضع وسبعون شعبة كما أخبر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  : « الإيمان بضع وسبعون شعبة : أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » والذي يعبر عنه جمهورهم بقولهم الإيمان : قول وعمل ، وهذا تعبير اصطلاحي عن قوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  : « الإيمان بضع وسبعون شعبة  » فالإيمان قول وعمل ، وهذا القول ينقسم إلى : قول القلب وقول اللسان ، والعمل ينقسم إلى : عمل القلب وعمل الجوارح .

 فباختصار وفق الاصطلاح الذي وضع كي يخدم قضية منهجية معينة ، وقلنا أنه لا مشاحة في الاصطلاح ما دام يعبر عن معنى صحيح ، ويخدم البيان لما ورد في الكتاب والسنة فهذا هو الاصطلاح المقبول وإلا كان مردودًا .

فمن الناحية الاصطلاحية العلماء كأنهم أعادوا ترتيب البضع وسبعون شعبة داخل أربع شعب كبيرة لأنها متشابهة من حيث أثرها في نقض الإيمان من عدمه ، وهذه القضية المحورية التي تبحث في مسائل الإيمان والكفر ، ولذلك قالوا : الإيمان : قول وعمل ،  والقول يشمل : قول القلب وقول اللسان ، والعمل يشمل : عمل القلب وعمل الجوارح ويدخل فيه اللسان ، وربما أفردوه بقسم فلا إشكال في هذا .

المسألة الثانية أنه من المتفق عليه بين أهل السنة أن شعب الإيمان البضع والسبعون أو الأربعة الكبار - لو قلنا أننا تكلمنا على أربعة أجزاء كبيرة - ليست كلها على مرتبة واحدة بل بعضها أركان ، وبعضها واجبات ، وبعضها مستحبات ، وهذا أيضًا متفق عليه بين المنتسبين إلى السنة .

ونحن هنا نتكلم من الداخل ؛ لأن للأسف نحن الآن نحقق مسألة خلافية نشأت بعد الاتفاق على هذه القواعد ، فنحن لا نتكلم عن المرجئة الذين حصروا الإيمان في القول ، ولا على الخوارج الذين قالوا : قول وعمل ولكن قالوا : إن كل هذه الأجزاء أركان في الإيمان ، فقالوا : إن الإيمان كل لا يتبعض ، فإذا ذهب بعضه ذهب كله ، لذا كان السلف يقولون : إن منهج أهل السنة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فحينما يقولون : « قول وعمل » يتبرءون من منهج المرجئة ، ولكن قولهم : « قول وعمل » مشتركة بين أهل السنة والخوارج فقالوا  « يزيد وينقص » فحينما نقول : الإيمان : قول وعمل ، يزيد وينقص ؛ أصبح الفرق واضحًا بين أهل السنة وبين المرجئة - الذين قالوا : الإيمان قول فقط- من جهة ، وبينهم وبين الخوارج الذين قالوا : قول وعمل ، ولكن جعلوه كل لا يتبعض إذا ذهب بعضه ذهب كله من جهة أخرى .

إذن فأهل السنة والجماعة يقولون : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص إذن فقد ينقص مع وجوده كأن تنقص بعض مستحبات ، وتنقص بعض واجبات ، ولكن تبقى أركانه ،  فهذا هو الكلام المتفق عليه بين أهل السنة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وما دام أن الإيمان له شعب ، فلفظ الكفر يضاد لفظ الإيمان ، وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أن كل شعبة من شعب الإيمان يقابلها شعبة من شعب الكفر ، فكما أن الإيمان بضع وسبعون شعبة فالكفر أيضًا يقابله نفس الشعب ، فكل شعبة من شعب الإيمان ، يقابلها شعب من شعب الكفر ، فلما كان الإيمان له أصل وكمال ؛ صار الكفر أكبر وأصغر .

وانتبه أننا حينما نعرض الكلام أحيانًا يبدو كما لو أنك تضع قواعد لكي تصوغ بها القضية ، وهذا الكلام لا يصلح في الكتاب والسنة ، ولكن ممكن بعد أن تستكشف هذه القواعد وتستقرأها أن تصوغها هذه الصياغة كما لو كنت تقرر قواعد ، وهذه مسألة في غاية الخطورة ، مسألة التنظير والتقعيد إذ لا بد أن تكون دائمًا عينك على المصدر الرئيس ، فالناس احتاجت أن تكون هناك قواعد مثل هذه التي نقولها ، ولكن أحيانًا يتم الاستغراق فيها ، فننسى هل هذه القاعدة أصلًا صحيحة أم لا ؟ أتت من أدلة أم لا ؟ .

وعمومًا ما زلنا في القدر المتفق عليه بين المنتسبين إلى السنة أن الإيمان له أصل وكمال ، وأن في المقابل الكفر أكبر وأصغر ، وكون الكفر أكبر وأصغر ، هذه مسألة شرعية واصطلاحية فمن الممكن أن يكون هناك معنى معين موجود في الشرع وتضع له الاصطلاح كما قلنا أن الشرع فيه أن الإيمان بضع وسبعون شعبة وكاصطلاح أن الإيمان : قول وعمل وهذه ليست موجودة في آية ولا في حديث ولكن نحن قلنا هي تنظيم وترتيب لهذه الشعب نتيجة أننا نريد أن نتكلم بعد ذلك على أثر كل شعبة من هذه الشعب في مسألة زوال الإيمان من عدمه ، ومسائل الإيمان والكفر كما ذكرنا .

إذن فمسألة أن الإيمان يشمل شعبًا مسألة شرعية فكلمة : « قول وعمل » أو أنه : « قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح » كلام اصطلاحي يعبر عن هذه الحقيقة الشرعية ، فما دام كلامًا اصطلاحي فلا بد أن تتوقف عنده وتنظر هل عبر عنها بدقة أم لا ؟ وهل هذا الاصطلاح تشوبه شائبة أم لا ؟ إن لم يكن تشوبه شائبة يمر .

وفي المقابل قلنا : الإيمان : قول وعمل له أصل وكمال ، وهذا أيضًا اصطلاح مستفاد من النصوص الشرعية التي بينت أن هناك من يترك بعض شعب الإيمان ولا يكفر ، وأن الإيمان يزيد وينقض ، وطالما أنه من الممكن أن ينقص إذن فالجزء الموجود منه أثبتَ إيمانًا والجزء الذي نقص لم يجعل الإيمان يزول ، فالجزء الموجود هذا هو الأصل ، والقابل للنقصان هذا هو الكمال سواء كان الواجب أو المستحب ، ومن ثم صار الكفر أكبر وأصغر ، فهذه مسألة شرعية وهذا الاصطلاح بعينه استخدمه الشرع ففي الحديث : « أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » فسئل عنه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فقال : « الرياء » .

فهنا القضية أن الإيمان : قول وعمل ، يزيد وينقص له أصل وله كمال ، ويقابل الإيمان الكفر ، وطالما أن الإيمان له أصل وله كمال فالكفر أكبر وأصغر ، والكفر الأكبر هو ما يصادم أصل الإيمان ، والكفر الأصغر هو ما ينافي كمال الإيمان الواجب ، ولم يرد تسمية ترك الكمال المستحب كفرًا لأن كلمة الكفر كلمة زجر وذم ، وإن كان الكمال المستحب ينقص به الإيمان فيقال : إيمان من حصل الكمال المستحب أكمل من إيمان من لم يحصله ، ولكن لا يقال ضده أن من ترك شعبة من شعب الاستحباب أن هذا يسمى كفرًا .

إذن فكل شعبة من شعب الإيمان يقابلها شعبة من شعب الكفر ، فزوال أصله يقابله الكفر الأكبر ، وما ينافي كمال الإيمان [ الواجب ] فهو كفر أصغر ، ولا إشكال في الكلام إلى هذا الحد .

بقي أن نحدد ما الذي يدخل في أصل وما الذي يدخل في كماله ، وبالتالي ما الذي كفر به تاركه ، وما الذي لا يكفر به تاركه ، فهنا المسألة أن الإيمان له أصل وكمال وهذا كمبدأ أيضًا متفق عليه وأن الكفر الأكبر هو ما ينافي أصل الإيمان ، وهذا أيضًا متفق عليه ، وهذا أشمل تعريف للكفر الأكبر ؛ لأن من الممكن أثناء دراستنا في كتاب يتكلم على قضية الإلهية يقول : إن الكفر الأكبر هو صرف العبادة لغير الله فهذا هو الكفر الأكبر في باب الإلهية ، وليس الكفر الأكبر بإطلاق ، وهو هنا صادم أصل الإيمان فهذا ليس تعريفًا جديدًا فهو أحد أبواب الإيمان مسألة الإلهية ومصادم لهذا الأصل في هذا الباب .

من أين نعرف أركان الإيمان من واجباته ؟

ننظر في الأدلة ، فالمسائل التي أتى أن من لم يحصلها فهو كافر مخلد في النار ، أو أنه ليس من المسلمين أو نحو هذا ، فهذا من أصل الإيمان ، وأما المسائل التي يرد أنها من الإيمان الواجب أو يرد ما هو أشد من هذا أن تاركها يكفر ، ولكن يتبين بعد هذا أنه معدود في المسلمين في الجملة ، أو أنه لم يخرج من الملة ، فهذا من الإيمان الواجب ، ولكن هذا كفر أصغر كما ذكرنا .

فمن النظر في الأدلة وجدنا أن أصل الإيمان هو قول القلب وقول اللسان وأصل أعمال القلوب ، وهذه المسألة في غاية الأهمية وينبغي تحقيقها وتنقيحها من الكتاب والسنة كأصل ، ومن كلام العلماء الذين اعتبر كلامهم أصلًا في تمييز أقوال أهل السنة عن أقوال أهل البدعة لاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية ، فيجدر بطالب العلم حينما تختلط عليه هذه المسألة أو غيرها أن ينظر في كتاب « الإيمان » لشيخ الإسلام ابن تيمية ويقرؤه من أوله إلى آخره ، وينظر لشواهد قضية مثل هذه هل لها شواهد من كلامه : أم لا ؟ كما ذكرنا .

فالقضية هنا أن أصل الإيمان هو قول القلب الذي هو تصديقه ، وفي الواقع هنا مسألة لغوية وشرعية : هل التصديق هو المعرفة أم أمر زائد عنها ؟ لغة : الصحيح أن التصديق أمر زائد عن المعرفة ، وبالتالي لو أننا قلنا : قول القلب أو تصديق القلب ولم نضع معه أعمال القلوب أو أصل أعمال القلوب فهو كافٍ ، ولكن في المسائل التي فيها خلاف لا بد أن نضع العلامات البارزة التي تميزنا عن غيرنا ، فمن الممكن أن نقول : قول القلب ونسكت بناء على تعريفنا للتصديق أنه أمر زائد على المعرفة ، بينما عامة من يتكلم في المسألة عنده أن التصديق يساوي المعرفة .

لذا قلنا : أصل أعمال القلوب ، وفي الواقع هذه تحصيل حاصل عند التأمل ، ولكنها ليست تحصيل حاصل ؛ لأن هذه وقائية من الذي سيحمل قول القلب على أنه مجرد المعرفة ، فكلمة أعمال القلوب هذه وقائية إذا نحملها على المعرفة وليس هناك حرج فنحن قد نصينا على أن الجزء الذي يتوهم خروجه منها وأنه غير داخل فيها فكان النص عليه صراحة .

وهذه القضية التي أولاها شيخ الإسلام دراسة طويلة في كتاب الإيمان , الجزئية المحورية التي اعتبرها فاصلة بين أهل السنة والمرجئة دخول أعمال القلوب في مسمى الإيمان وهذه التي أشار إليها الإمام ابن القيم : في كتاب « الصلاة » وهذه تفاصيل سريعة ونحيل على كتاب « الإيمان » لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ولن تجد هذا الترتيب الذي نقوله ، ولكن اقرأ الكتاب من أوله إلى آخره ستجد أن الكتاب يدور حول هذه الفكرة المحورية ، أن أصل الإيمان هو قول القلب أي : تصديقه ، وعندما نقول : تصديقه نريد به التصديق الذي يسمى في اللغة تصديقًا ، والذي معه انقياد وإذعان كما يقول شيخ الإسلام ، وأن العرب لا تسمي ما عند إبليس تصديقًا وإن سمته معرفة .

فالحاصل أننا سنحتاط ونقول : قول القلب ، وأصل عمل القلوب ، ونقول أصل عمل ، وليس كل أعمال القلوب لأن عمل القلوب خاصة يشمل ما هو من أصل الإيمان ، وما هو من واجباته ، وما هو من مستحباته ، وإلا لو جعلت عمل القلب كله ركنًا لن يؤمن أحد ، ولأن هناك درجات من أعمال القلوب لا يصل إليها إلا الأنبياء ، ولو قلت أن القدر الواجب من عمل القلوب ركن لكان كل العصاة [ كفارًا ] لأن العبد لا يعصي الله  ـ عزوجل  ـ إلا لنقص في المحبة أو لنقص في الخشية أو لنقص في التوكل .

إذن  فهناك قدر من المحبة داخل في أصل الإيمان ، وقدر منها واجب فيه ، وقدر منها من باب الزيادة يتفاضل فيه الناس إلى ما شاء الله .

فأصل الإيمان : قول القلب وأصل أعمال القلوب ، ويسمى : « تصديق القلب » ولكن ذكرنا ما يكون من خلاف أهل البدع في المسألة .

وقول اللسان مجمع عليه من أهل السنة أنه شرط لصحة الإسلام ظاهرًا وباطنًا فكي يكون الإنسان مسلمًا لا بد أن ينطق بالشهادتين ، ولا يكون مسلمًا إلا بذلك ، إلا أن يكون عاجزًا كالأخرص أو غيره ، ولكن مع القدرة لا بد من النطق بالشهادتين ، فهذا داخل في أصل الإيمان ، إذن هذا هو أصل الإيمان ، وضده هو الكفر الأكبر .

أما القدر الواجب من أعمال القلوب وكل أعمال الجوارح مع إثبات الخلاف في المباني الأربعة ولكن على طريقة الجمهور .

وأما شيخ الإسلام فلم يعتني بتحقيق مسألة المباني الأربعة نتيجة أنه كان يرد على المرجئة ، فكان غرضه إثبات الخلاف فيها ، ولأن غرضه أن يعطينا المعالم التي تفرق أهل السنة عن غيرهم فأثبت مسألة المباني الأربعة وقال أن أهل السنة لا يكفرون بترك شيء من عمل الجوارح ، وأن هذا الفرق بينهم وبين الخوارج ، ثم رجع واستدرك ، وقال : ونحن إذا قلنا أن أهل السنة متفقون على عدم التكفير بترك شيء من عمل الجوارح،  فينبغي أن يقيد ذلك بالمباني الأربعة ، فإن فيها نزاع قديم مشهور .

وقد حاول البعض أن يقول أن ابن تيمية يحكي الإجماع والأمر ليس كذلك ، وكونه رجح سواء في نفس السياق أو في سياق آخر ، إذن فقد أثبت النزاع ثم بعد ذلك رجح ، إذن فتظل المسألة خلافية وإن كان شيخ الإسلام قد رجح قولًا دون الآخر كما يتبين هذا في موضعه ، وهذا بالنسبة لأصل الإيمان ، وأن ضده هو الكفر الأكبر كما ذكرنا .

ولا يوجد في كلام العلماء عند كلامهم عن أصل الإيمان مسألة [ التكفير بترك ] عمل الجوارح إلا إثبات الخلاف في المباني الأربعة ، وجاء ذكر عمل الجوارح في كل النصوص التي وردت عن السلف في مسألة عمل الجوارح إما أنه من الإيمان ، وليس في هذا نزاع فقد اتفقنا عليها ، وإما أن عدم التزامه كفرًا أكبر ، وعدم التزامه عمل من أعمال القلوب ، وهذا سر اللبس في المسألة عند كثير من الناس .

فعمل الجوارح في النقول الواردة عن السلف إما أن تكون نقولًا لإثبات أنه من الإيمان ، أو تكفير من أخرجه من مسمى الإيمان ، وإن كان شيخ الإسلام ينقل أن السلف لم يكفروا المرجئة ، وينكر على من يرى أن هذه البدعة مكفرة ، ولكنه يكفر المرجئة الذين يصلون إلى درجة الاستحلال ، أو مسألة نقل السلف عن تكفير من لم يلتزم الفرائض وهم أيضًا المرجئة المستحلة .

فمن الممكن أن يكون الشخص لا يلتزم الفرائض لأسباب أخرى كثيرة منها : الإرجاء ، وقد يصل الإرجاء لدرجة الاستحلال والقول بالجبر ، فعدم التزام الفرائض مسألة يحصل فيها نفي لعمل قلبي كما ذكرنا .

والمسألة المشكلة إشكالًا كبيرًا عند كثير من الناس وحينما نقول أصل الإيمان في القلب وكماله على الجوارح وهذه واردة في عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية بما لا يحصى كثرة ويدعي البعض يدعي أن هذا لم يقله أحد من السلف مع أن هذا واضح جدً ،ا لكن ينبغي أن تفهم المسألة أن تفهم جيدًا ، وهو أن أصل الإيمان في القلب ، وكماله على الجوارح ، وهناك كمال في القلب أيضًا ، فنحن قلنا أن أعمال القلوب منها : ما هو أصل ، ومنها : ما هو من الكمال الواجب ، ومنها : ما هو من الكمال المستحب ، إذن فأصل الإيمان في القلب يجب أن يوجد ما يناظره على الجوارح ، وأصل الإيمان على الجوارح النطق بالشهادتين ، وهذه القضية التي أفرد لها شيخ الإسلام ابن تيمية كلامًا كثيرًا جدًا وهي أنه يستحيل وجود شخص عنده إيمان في قلبه ولا يأبى أن ينطق بالشهادتين ، ولأن هذه مسألة عند المرجئة متصورة ، فيكون لو وجد أصل الإيمان في القلب لوجد أصله على الجوارح وهو النطق بالشهادتين ، وكلما يحصل كمال في القلب يحصل أمامه كمال مكافئ على الجوارح ، فهذا الأمر لا يخل بالارتباط بين الظاهر والباطن كما يزعم البعض ، فالارتباط هنا موجود ، وكل بحسبه ، فإن وجد الأصل هنا سيجد معه الأصل هنا ، وإن وجد الكمال هنا ؛ سيوجد معه الكمال هنا .

والإشكال الكبير الذي كان أحد أهم ما فجره قضية الحكم بغير ما أنز الله كما ذكرنا لأن بعض الناس قالوا : لن نكفر إلا من علمنا من قلبه أنه جاحد لأمر الله !! وهذا أمر لا سبيل إليه لأنه لا يمكن معرفته إلا بأحد أمرين : إما أن تشق عن قلبه ، وهذا مستحيل ، والأمر الثاني : أن يقول بلسانه أنه جاحد لأمر الله ، وغير هذا سواء كان يدعو إلى تطبيق غير شرع الله ، ويلزم الناس بغير شرع الله ، ويؤذي من يطالب بشرع الله ، فكل هذا عنده لن يكون درجة استحلال ولا جحود ولا إخلال بأصل الإيمان في القلب !! .

فلما رأى الناس ذلك قالوا : لا يصلح أن نسلم بمسألة أن أصل الإيمان في القلب فأرادوا أن ينقضوا هذه القاعدة ، ويدعوا أن هذه قاعدة المرجئة ، وفي الواقع أن هذه قاعدة أهل السنة وهي أن أصل الإيمان في القلب وأن كماله منه ما في القلب ومنه ما في الجوارح ، ومن ثم فالكفر الأكبر هو مناقضة عمل القلب وهو انخرام [ اعتقاد ] القلب ، ولذا لما عذر الله تعالى المكره علل العذر هذا فقال تعالى : ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ﴾ [ النحل : 106 ] .

فالكافر هو من شرح بالكفر صدرًا ، وهذه قاعدة شرعية كلية ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في ثنايا الكلام في كتاب « الإيمان » وذكرها بعبارات في غاية الوضوح العلامة السعدي : في باب الردة في أكثر من موضع من كتبه . فالقاعدة الجامعة المانعة لباب الردة من شرح بالكفر صدرًا ، ولكن كيف سنقول ذلك ونقول أن الشرع كفَّر المستهزئ ؟ بل قبل ذلك لماذا كفر إبليس وفرعون والمستهزئون برسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ   ؟ .

فالإيمان عند المرجئة الإيمان هو التصديق فقط ، إذن فالكفر عندهم هو التكذيب ، فلما يقال لهم : إبليس غير مكذب ، وفرعون غير مكذب قال تعالى : ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ﴾ [ النمل : 14 ] ولهم أقوال عجيبة منها أن يقولوا : نزع التصديق منه حينما قال هذه الكلمة !! أي أن رده لأمر الله في حد ذاته عندهم ليس كفرًا ، ولكن عاقبه الله عليه بأن نزع التصديق من قلبه في هذه اللحظة !! .

فالمرجئة عندهم الإيمان هو التصديق ، والكفر هو التكذيب ، أما أهل السنة فعندهم الإيمان : قول وعمل ، وعندهم أركان الإيمان،  ليست التصديق الذي هو المعرفة ، وإنما أركان الإيمان : قول القلب وأصل عمله ، فالكفر عندهم ما ينخرم به هذا الأصل ، وكيف ينخرم ؟ الله تعالى مطلع على ما في القلوب ، أما بالنسبة للبشر فإن قلنا لا ينخرم إن بأن يصرح الإنسان إذن فنحن نعكس المسألة ، فنقرر قاعدة ونناقض بها الشرع ، فقد قال الشرع :  احكم بالكفر على المستهزئ وحكمنا بالكفر على هؤلاء ، فنقول أنه يمكن أن يقول الإنسان قولًا أو يفعل فعلًا يدل دلالة قاطعة على انخرام الإيمان في قلبه .

إذن هل يمكن أن يكفر من غير أن يقول الإنسان عن نفسه : أنا كافر ؟ نعم ، وذلك إذا كان فعله لا يحتمل دلالة إلا ذلك ، كما لو ألقى مصحفًا في القاذورات ، ومع ذلك نقول أنه لو كان هناك ما يدل على أن هذا لا يعلم أن هذا مصحف ، فمن الممكن أن نسأله ، فإذا كان يعلم أن هذا مصحف ثم ألقاه ، فلا وجه أن نسأله ,وإنما نقول عنه : كافر ، ثم ندعوه ليدخل في الإسلام ، فالذي رمى مصحفًا مجلدًا بغلاف يشتبه عليه مع باقي الكتب فهذا أولًا نقول له : انتبه هذا مصحف ولا نكفره ، فلو قال :أعرف أنه مصحف فهذا كفر لأن هذا الفعل يدل على ما في القلب ، لذا فهو كفر ، ولو قال: لا أعلم أنه مصحف لا يكفر ، ولو رمى المصحف وهو يعلم أنه مصحف ، ونحن نعلم أنه متأكد أنه مصحف ، نقول له : قد كفرت ، فادخل في الإسلام ، فرق بين الصورتين .

إذن هناك أفعال تدل دلالة قاطعة على انخرام الإيمان في القلب ، وكل المسائل التي أجمع السلف عليها أنها كفر أكبر لا بد أن تجد فيها دلالة على انخرام الباطن ، كأن يسب الله  ـ عزوجل  ـ  أو يسب النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أو ينكر معلومًا من الدين بالضرورة ، وقالوا : « معلومًا من الدين بالضرورة » لكيلا يكون هناك احتمال كأن يكون غير فاهم للنص أو في هناك احتمال أنه يطعن في ثبوته أو في دلالته ، لكن هذا الذي يحكم بكفره حينما يجحده هو معلوم أنه من الدين .

فكل الأفعال الظاهرة التي جاءت في الكتاب والسنة أولًا ، ثم اتفق السلف ثانيًا على التكفير؛ لأنها تدل دلالة قاطعة على انخرام الباطن  وليس على التكذيب فقط، بل على انخرام الباطن فربما يكون تكذيبًا أو إباء أو استكبارًا ، أو على انعدام التعظيم ، فكل هذا انخرام للباطن ، وانعدام الخوف أيضًا قال النووي : من قال : « لا أخاف القيامة كفر » إذن هذه القاعدة الجامعة لباب الكفر الأكبر وهي ما يدل دلالة قاطعة على انخرام الباطن .

وهناك أمور بطبيعتها تدل على ذلك فنسميها كفرًا أكبر ابتداء كالاستهزاء بالله  ـ عزوجل  ـ  أو برسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أو رد أمر الله  ـ عزوجل  ـ  أو أمر رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وهذه الأشياء تجدها موجودة في باب الكفر الأكبر .

وهناك مسائل الشائع أن الناس لا تفعلها كذلك مثل المعاصي ، فهي في الأصل معصية ويفعلها الناس معصية فنقول : فاعلها لا يكفر إذا استحلها ، ومن استحلها من غير أن يفعلها يكفر ن كأن عندنا شيئان : فعل المعصية ، واستحلالها ، فلو جمع بينهما فقد جمع بين الكفر والمعصية ، وإن عمل المعصية فقط فسيكون قد ارتكب معصية ، ولو استحلها فقط فعلها أو لم يفعلها فهو كافر كفرًا أكبر والعياذ بالله .

فالحاصل أن الكفر الأكبر هو الذي يصادم أصل الإيمان ، أو هو الذي يدل دلالة قاطعة على انخرام الباطل ، فهنا لن نأتي لمسألة فيها دليل من الكتاب أو دليل من السنة أو من الإجماع على أنها كفر أكبر ، ثم نتساءل هل هذه فيها دليل على انخرام الباطن أم لا ؟

وهنا نقطة الكل يدور حولها : هل معنى ذلك أننا سنعيد تقييم المسائل التي أتت في الشرع أنها كفر ونقول هذه فيها انخرام وهذه ليس فيها انخرام ؟  القاعدة لا تنقض الدليل وإنما الدليل ينقض القاعدة ، وحينما نقعد قاعدة لا بد أن تكون معبرة عن كل الأدلة فإذا وجدنا تعارضًا قدمنا الدليل عليها ، فيستثنى من القاعدة أو يضاف إليها قيد ،  إذ لا يصلح أن نضع القاعدة ، ثم نقيم بعد ذلك ما ورد في الكتاب والسنة ، ولكن هذه المسألة كي نقيم بها المسائل المشكلة من المسائل التي فيها خلاف ، وهذه القاعدة استخدمها ابن تيمية في مسألة ترك الصلاة .

ولو تأملت كلام ابن تيمية في مسألة ترك الصلاة لعملت أنه يرى أن ترك الصلاة لا يكون كفرًا أكبر إلا إذا دل على انخرام الباطن ، ولذلك المسألة التي يجزم بها هو وتلميذه ابن القيم أن من عرض على السيف ففضل القتل على الصلاة أنه كافر كفرًا أكبر ، مع أن شيخ الإسلام لم يبدع من خالفه في هذه المسألة ، وأثبت أنها مسألة خلافية , مسألة من عرض على السيف ففضل القتل على الصلاة ، ولكنه اندهش من غفلة بعض العلماء عن المعنى الذي أشار إليه ، وهو أن تفضيل القتل رفض قلبي للصلاة ، وليس تكاسلًا ، وهذا مجمع عليه بين أهل السنة أن انخرام عمل القلب كفر ، فكيف تقول عن هذا أنه متكاسل ، وقد كنت تعامله على أنه متكاسل حتى عرض على السيف وفضل القتل على الصلاة فهل سيظل توصيفك له أنه متكاسل ، وأنك لا تعرف الذي في قلبه ، ولذلك سوف تقبل منه ما أظهره ؟ ! يقول : لا هو أظهر ما في قلبه.

 إذن فمن الممكن أن يظهر الشخص ما في قلبه بدلالة لا تحتمل التأويل ، ودلالة العرض على السيف عند شيخ الإسلام لا تحتمل التأويل ، وكل من جاء بعد شيخ الإسلام قبل منه هذا الكلام .

والآن يقولون أن الشيخ الألباني من أكثر الناس تساهلًا في هذا الباب في الدائرة السلفية ، فالشيخ الألباني يرى أن تارك الصلاة إذا عرض على السيف يقتل موافقة لشيخ الإسلام ، فطالما بين الدليل وانتبهت إليه يصعب أن يخالف أحد في هذه المسألة .

فابن تيمية لا يكفر تارك الصلاة إلا في حالتين وهو يراهم أنهما تدلان على انخرام الباطن ، ونحن نوافقه على إحداهما : وهي من عرض على السيف ، والثانية نقول أن عندنا دليل يدل على أنها لا تصل إلى انخرام الباطن ، والدليل مقدم على النظر والاستقراء ، فهو يقول : الترك المحض الكلي بحيث يترك الصلاة بالكلية ولا يصلي أبدًا ، فشيخ الإسلام يرى أن هذا دليل على انخرام الباطن فهو لما قال أنها كفر ، قال : هذا لا يكون من مقر بها أبدًا مع إن أقواله في هذه المسألة محتملة ، وتحتمل أن يكون يضيف إليها أن يعرض على السيف .

إذن أصبحت هي نفس المسألة الأولى لكنه يرى إجماع عمل المسلمين على إن تاركي الصلاة كان يصلى عليهم ويورثون وغير هذا ؛ لأنه لم يكن أحد من السلف يكفر تارك الصلاة لمجرد تركه للصلاة ، فهو يرى إلا أن يكون تركًا كليًا .

وهذه المسألة تحتمل الخلاف مع شيخ الإسلام ابن تيمية ، ونحن نقول : إن حديث الشفاعة يدل على خلاف هذه المسألة ، وإن هذه المسألة افترضها شيخ الإسلام ابن تيمية هذا مذهبه ، ولم يدع أنه إجماع من السلف ، ومع كونه لم يدع الإجماع في المسألة التي هي أوضح منها ، فعندنا فرق بين أن يقول هذه المسألة هي المجمع عليها ، وبين أن يقول أن هذه المسألة إحدى فروع مسألة مجمع عليها ، فالإجماع على أن انخرام القلب كفر ، وهو يقول إن العرض على السيف لمن يدعي التكاسل ويستمر في قوله أنه متكاسل ، هذه ينبغي أن تكون إحدى فروع القاعدة الأخرى ، ولكن ليس كل الناس موافقين على أن هذه إحدى فروعها ، وهو لم يدع الإجماع فيها ، بل نسب هذا القول إلى مذهب أحمد لإحدى الروايات عنه ، أنه حتى لو عرض على السيف لا يقتل .

فهذا هو الضابط هنا مسألة انخرام الباطن ، وهذا هو القدر المجمع عليه ، ويضاف إليه المباني الأربعة عند بعض السلف ، وبعضهم يقول : إن المباني الأربعة لو كانت بهيئة تدل على انخرام الباطن مثل ابن تيمية عنده أن ترك الصلاة قد يدل في حالات على انخرام الباطن وهذا مذهبه : في هذه المسألة .

كلمة انخرام الباطن كلمة جامعة وأحيانًا يقولون الجحود كما قال الطحاوي : « ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه » وقد استنكرها كثير من العلماء عليه لأن كلمة جحود مسألة اصطلاحية تساوي التكذيب ، والتكذيب ضد التصديق ، والتصديق كمسألة اصطلاحية يساوي المعرفة ، ولكن حسن الظن بالعلماء أن نقول أن القضية ليست كذلك ، فابن تيمية يقول : إن التصديق كالإيمان : قول وعمل ودليله حديث : « كتب على ابن آدم حظه من الزنا » وفيه : «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه » فالجوارح تزني ، والفرج إذا زنى الزنا الأكبر يسمى هذا تصديق لزنا الجوارح .

فهنا قال أصل التصديق : قول وعمل ، وأنه إذا قلنا أن ضده الجحود ، فإنه يشمل : الاستحلال والجحود والإباء والاستكبار ونحو هذا ، فاقتصر بعض العلماء على كلمة « الجحود » ، واقتصر بعضهم على كلمة « الاستحلال » ولا بد من معرفة مقصودهم من هذه الكلمة هل معنى ذلك أن من يأتي يقول أن الله قال : كذا ، ولكن لا يلزم الطاعة ؟! فهذا عند المرجئة مسلم رغم أن هذا نفس فعل إبليس !! ، فإبليس لم يقل لله تعالى أنت لم تأمرني ، وإنما اعترض على أمر الله ، وهذا اصطلاحًا يسمونه : الإباء والاستكبار أو الأمر الأشمل من هذا أن نقول أنه انخرام الباطن .

يبقى هنا أن المسائل التي الأصل فيها أن الشرع عدها كفرًا أكبر ، أو أن غالبًا فعلها أن تكون بهذه الهيئة التي فيها كفر أكبر نطلق القول أنها كفر ولا نقيدها بالاستحلال فلا نقول من سب الله يكفر إذا استحل ، وهذا لسببين :

1- أن هذا كفر وليس فيه تفصيل .

2- أننا لو قلنا : « إذا استحل » سيكون كلامنا من باب تحصيل الحاصل فنسأل من يقول يكفر إذا استحل ماذا تقصد بقولك: استحل : هل أن يقول : أنه حلال أم انخرام الباطن ؟

 نحن قلنا أن كلمة الجحود والاستحلال يطلقها البعض ويريد بها انخرام القلب نقول لو أراد بها أن يقول أنه حلال فهذا يكفر حتى وإن لم يستحل فتخيل شخصًا يسأل ما حكم سب الله تعالى ؟ فيقول يكفر إذا استحل ، فنريد أن نسأل هذا عدة أسئلة :

ما معنى إذا استحل عندك : هل معناها أن يقول أنها حلال أم معناها أنه ينخرم باطنه ؟ بمعنى أن يكون عنده تكذيب أو إعراض أو إباء أو استكبار أو ينتفي عنده التعظيم أو تنتفي عنده المحبة أو تنتفي الخشية ، فإن قال: أن يقول أنه حلال ؟ فنقول له : هذا قول غلاة المرجئة ، ولو قال أنه يعني به : انخرام الباطن ، فنسأله : هل كلمة السب في حد ذاتها تحتمل التفصيل بمعنى أن السب يوجد أحيانًا مجردًا عن كل هذه الاحتمالات ويوجد أحيانًا معها فإن ادعى أنه يمكن أن يوجد السب مجردًا عن انخرام الباطن ، كأنه يوجد مع من عنده محبة وخشية وتعظيم وانقياد فنقول لهذا : كيف ذلك ؟ فهذا أمر يأباه العقل ويأباه الشرع قبله   لأن الشرع قال أنه كافر والشرع الذي قال لك :  أن الكافر هو من شرح بالكفر صدرًا .

فنقول لهذا : اتهم رأيك لحكم الشرع فالشرع الذي قال لك أن سب الله تعالى كفر هو الذي قال لك أن الكافر هو من شرح بالكفر صدرًا ، فلو توهمت أن السب يوجد عري عن هذا الأمر ويوجد معه أحيانًا فنقول لهذا اتهم رأيك أنت ومقتضى أن الشرع يقول لك أن الكفر الأكبر هو من شرح بالكفر صدرًا ، وأن الساب كافر ، فلا بد أن توقن أن السب لا يكون إلا ممن شرح بالكفر صدرًا .

ولو قال أنا أقول الاحتمالات للذي لا يعلم معنى الكلام الذي يقوله فنقول : هذا لا يقال في النوع بل يقال في المعين ، فوارد أن يقرأ شخص كلامًا أعجميًا ، ولم يفهمه ، وعلم أنه سب لله تعالى ، ومن الممكن أن يكون عنده محبة وتصديق وانقياد ، أو يقرأ كلامًا لشخص كافر لكي يرد عليه ، أو شخص أخطأ من شدة الفرح ، فنقول لهذا : لا تخلط بين النوع والعين فنقول لهذا : التفصيل عندك من جهة المعين ، ونحن نتكلم في النوع ، ونسألك ما حكم الاستهزاء بالله تعالى ؟ ما حكم سب الله تعالى ؟ فلا تقل إذا استحل ، ولكن قل : هذا كفر  إلا أن يكون هناك مانع من موانع التكفير ، فهكذا تنضبط المسألة وتفهم والمانع أن هذا لم يفهم ما قال ، أو يكون في غير وعيه أو نحو ذلك .

والأمر الآخر لو ادعى أن هذا القيد لا يضرك ذكره ، فنقول له : إن ذكره حينئذ من باب تحصيل الحاصل ، فإذا كانت مقرًا معنا أن السب حكم الله تعالى بكفر قائله ، وأنه طالما قال ذلك فلا بد أن يكون باطنه منخرمًا ، لأن الشرع قال أن الكافر كفرًا أكبر هو من شرح بالكفر صدرًا ، وقال : إن المستهزئ كافر فإذا هو شرح بالكفر صدرًا ، ولا نعرض المسألة على رأينا مرة أخرى ، وهذه هي النقطة التي تخوف الفريق الآخر فيقولون : تتكلم على المسائل التي فيها كفر وتبحث وتسأل : هل هذا شرح بالكفر صدرًا أم لا ؟ فنقول له : لن يحدث هذا الأمر ، فنحن سنوقن أن كل فعل وصفه الله بأنه كفر أكبر أن هذا لا ينشأ إلا عن انشراح الصدر بالكفر ، فيقول: ما يضر حينئذ أن نقول : « إذا استحل » ؟ .

فنقول له : لأن هذا سيكون من باب تحصيل الحاصل ، فسيكون الأمر وكأننا نقول : لا يكفر إلا إذا كفر ،  فإننا حينما نقول : إن ساب الله  ـ عزوجل  ـ  لا يكفر إلا إذا استحل ، وكلمة « الاستحلال » عندك معناها انخرام الباطن ، فسيكون المعنى : لا ينخرم باطنه إلا إذا انخرم باطنه !! أو لا يكفر إلا إذا كفر !! فسيكون في الكلام نوع من الاضطراب ، ومن تحصيل الحاصل ، ثم إنه يوهم بالتفصيل وقد نفيته .

فلو قلتم من أول الأمر أن السب عندك محتمل أن يكون منخرمًا أو غير محتمل ؛ فستكون قد ناقضت الكتاب والسنة ، وذلك لأن الكتاب فيه أن الكفر يكون ممن شرح بالكفر صدرًا ، وفيه أن هذا كافر ، فلا بد أن يكون هذا شرح بالكفر صدرًا ، والمسألة لا تحتمل التفصيل ، ولكنها تحتمل من جهة المعين ؛ لأنه من الممكن أن يكون فاقدًا لوعيه إلى غير هذا .

فإذا ادعيت عدم احتمال التفصيل فلم تضع هذا القيد فضلًا أن يكون قيدًا موهمًا ؟! فيقول : أنت تقول أن فاعل المعصية لا يكفر إلا إذا استحل ، فنقول : ذلك ليس لأنها  تحتمل التفصيل ، بل لأن الأصل فيها أنه لا يكفر لأن ترك شيء من عمل الجوارح بإجماع أهل السنة ليس كفرًا ، ولا يكون كفرًا إلا إذا ترك شيئًا من عمل القلب الذي هو الانقياد القلبي أو الإذعان القلبي .

ولذلك نقول في المعصية : لا يكفر إلا إذا استحل ، ولكن في النهاية لو أن رجلًا قال : أن المستهزئ يكفر إذا استحل وهو جزمًا مستحل ، فنقول : هذا كلام فيه قدر من الاختلاط والاضطراب ، ولكنه أهون من أن يصر على أن المسألة فيها تفصيل ، إذن فنحن نقول : إن أصل الإيمان هو قول القلب ، وأصل أعمال القلوب ، ومعه قول اللسان ، وضده هو الكفر الأكبر ، والكفر الأكبر هو أن يقول الإنسان قولًا أو يفعل فعلًا يدل دلالة قاطعة على انخرام الباطن ، والمسائل التي عندنا فيها دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أن هذا كفر أكبر ، إذن فهذا دليل أيضاً على أن هذا انخرام الباطن عندما نضم معه دليل قوله تعالى : ﴿ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ﴾ فالدليل الذي يدل على أن هذا كفر أكبر هو نفس الدليل الذي يدل على أن باطنه منخرم ، وبذلك تستقيم القاعدة .

أما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله فإن عندنا آثار عن السلف أنها كفر أكبر ، وآثار أنها كفر أصغر بدون ذكر ضابط ، فمن أين نأتي بالضابط ؟ إلا أن يكون عندنا ضابط إجمالي في المسألة ، فنقول : حالات الحكم بغير ما أنزل الله التي تقتضي انخرامًا في الباطن هذه كفر أكبر ، والمسائل المجمع عليها لن نعيد نظرها ، وقد نقل ابن كثير لنا الإجماع على أن التبديل كفر أكبر ، فمسألة التبديل فيها استحلال ، وفيها انخرام للباطن ، فهي كفر أكبر .

إذن نقول أنه ورد عندنا تفصيل في المسألة فمن الممكن أن تكون أكبر ، ومن الممكن أن تكون أصغر ، واتفقنا على مبدأ التفصيل ، والضابط الإجمالي ، وأعم ضابط هو انخرام الباطن من عدمه ، مع الأخذ في الاعتبار أننا لن نعيد بحث مسألة فيها دليل طالما أن عندنا إجماعًا أن التبديل كفر أكبر ، فالمسألة لا تحتاج بحث ، ولتتماشى الأدلة مع بعضها سنقول أن التبديل لا يكون إلا ممن انخرم باطنه .

وهكذا استقامت المسألة بدون عبث بمسائل الإيمان والكفر ، وبدون إخلال بالثابت عن السلف في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، فالإشكال هنا أن البعض غلا كما ذكرنا في قضية الحاكمية ، وفي المقابل حاول البعض أن يهون من القضية ، فقال : إن هذا كفر دون كفر ، وحاول أن يوسع دائرة الكفر دون كفر ، فإذا قلنا لهم : هناك حالات أكبر وحالات أصغر ، قالوا : الأكبر لا يكون إلا إذا استحل !! .

وقولهم : « إلا إذا استحل » من الممكن أن نجد هذه الجملة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم ، وذلك لأن المسألة التي فيها تفصيل والتي من الممكن أن تكون أكبر ومن الممكن أن تكون أصغر ، تكون في الحالات التي تدل فيها على انخرام الباطن ،  فسواء قلنا : انخرام الباطن ، أو إذا استحل أو إذا جحد ، فنحن نعرف أن هذه المصطلحات متقاربة أو مترادفة عند السلف ، وبالتالي هذه المسألة عندما تقرأ سترى النقول كما هي .

فهؤلاء يأتون بنفس النقول ، وهؤلاء يأتون بنفس النقول ، لأن كل شخص يوجه المسألة الوجهة التي يراها ، وهذه الوجهة التي ندين لله تعالى بها أن انخرام الباطن يساوي الاستحلال يساوي الجحود عند السلف، وأن الحكم الذي فوق هذا كله إذا كان دليل يقطع أن هذا كفر أكبر ، فنقطع أنها فيها استحلال أو جحود أو انخرام للباطن .

وحينما يقول مرة : إذا بدل فهو كافر كفرًا أكبر ، وإذا خالف في قضية معينة يكون كفرًا أصغر ، ومرة يقول : إذا استحل ، ومرة يقول : إذا جحد ، فكل هذه مترادفة فيما نرى ، ولا إشكال فيها ، ولكن بعضهم يأتي بقول أحد العلماء مثل شيخ الإسلام ، وهو يقول : « إذا استحل » وبعضهم يأتي بنفس الكلمة ويقول أن الشيخ محمد بن  إبراهيم قد قالها في موطن رغم أن الفتوى طويلة وقد صدرها بقوله : « إن من الكفر الواضح المستبين ، تنزيل القانون اللعين ، منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب رسوله ؛ ليكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين » فيقولون : له موطن آخر يقول فيه : « إذا استحل » ؟ والجواب على ذلك أن الموطنين يؤيد كل منهما الآخر وفق هذه الرؤيا « إذا استحل » ومنها أن يبدل ، وإنما نحتاج أن نقول أنه لا يكفر إلا إذا استحل عندما نبحث عن قرائن وفي حالة عدم وجودها نقول أنه كافر كفرًا أصغر ، وهو الذي هو أخذ رشوة وعنده القانون الشرعي ولكن ويخالف في تطبيقه ، فلو قال أنه يحق له كقاضٍ أن يفعل ذلك ، وإن هذا حلال بالنسبة له ، فهذا مستحل لمحرم ، والثاني مستحل ، وليس هو مستحل لأنه يقول : إنها حلال ، ولكن لأن باطنه منخرم ، إذ عنده رد ، أو إباء ، أو تكذيب ، أو انعدام تعظيم ، فعنده شيء ما انخرم به باطنه ، وانخرام الباطن يسمونه استحلالًا على أساس أن هذا أشهر أنواع انخرام الباطن .

فبدأ الفريق الذي أراد أن يهون المسألة بدعوى منع الغلاة فيها يركز على قضية الاستحلال ، ويغلو فيها شيئًا فشيئًا حتى وصلوا لدرجة أن يفعل ما يريد أن يفعله ، ويأتي بقوانين من أي مكان ، ويلزم الناس بها ، ويؤذي من يفعل خلاف ذلك ، فهذا يحرم شرع الله وليس فقط يستحل غيره ، فهو يستحل غيره ، ويحرم شرع الله ، وكل هذا عندهم لا يصل إلى الاستحلال !! ، فمتى يكون مستحلًا عندهم ؟! يكون مستحلًا إذا سئل فأجاب : هذا حلال !! وهذه هي الصورة الوحيدة عند البعض .

وبينما قال الآخرون : نعود إلى مسألة الاستحلال من بدايتها وإلى مسائل الكفر من أولها ، ونعيد صياغتها ، فخرجوا علينا بمسألة أن الكفر الأكبر قد يكون بالعمل !! وهذه من أخطر القضايا .

فما معنى أن هناك كفر أكبر بالجوارح المجردة ؟

فادعاء أن هناك كفر العمل مجردًا عن كفر القلب مسألة في غاية الخطورة ، والذي يقولها يريد هذه المسألة ، يريد مسألة أنه يحكم بغير ما أنزل الله فيقول عنه : كافر كفرًا أكبر بالعمل ، فنقول له : قل أنه كافر كفرًا أكبر بالاعتقاد بانخرام عمل القلب ، ودليلك الإجماع ، وطالما أن هناك إجماع على أنه كافر كفرًا أكبر فهذا يدل على أن هذا منخرم باطنه ، إذن فليس هناك إشكال ، فلسنا مضطرون لهذه المسألة .

والمسألة الأخطر منها هو قولهم : « استحلال عملي » ما معنى استحلال عملي ؟! وما الفرق بين من يفعل الكبيرة وبين من يستحلها عمليًا ؟ فبوسع كل شخص يدعي انتسابه إلى السنة وحينما يريد أن يخرج أحدًا من الإيمان فعل معصية أن يقول : هو مستحل لها ، أو بالمجاهرة ، وهذا من خرق لإجماع أهل السنة .

فكل هذا كانوا يريدونه لكي يقولوا أن الحكم بغير ما أنزل الله ، وإن كان عمليًا إلا إنه أكبر ؛ لأن هناك كفر أكبر عملي ، ولأن هناك استحلال عملي ، وهذا كله يفتح باب التكفير على مصرعيه .

وهنا أيضًا مسألة تحتاج إلى تمحيص اصطلاح آخر في غاية الأهمية وهي قضية الكفر الأكبر والأصغر ، والكفر العملي والاعتقادي لأن كثيرًا من العلماء عندما يتكلم ، يقول : إن الكفر منه ما هو أكبر ، ومنه ما هو أصغر ، وأحيانًا يقول : الكفر منه عملي ومنه اعتقادي ، فهل كلمة الكفر العملي عند من أطلقها ترادف الكفر الأصغر ؟

   فابن القيم : مثلًا قال : إن الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة من الكفر العملي جزمًا ثم قال بعد قليل : ولكن الكفر العملي منه : ما هو مخرج من الملة ، ومنه ما هو غير مخرج من الملة ، والعجيب أن بعض الناس أخذ العبارة الأولي لكي يدلل بها على أن الحكم بغير ما أنزل الله عند ابن القيم من الكفر الأصغر ، فكيف ذلك وكتاب « الصلاة » مؤلف لبحث خلاف السلف في تكفير تارك الصلاة ، فواضح أنهم لما يصفوا أن هذا من الكفر العملي أن هذا لا يكافئ أن هذا كفر أصغر .

فالقضية هنا أن الكفر العملي قد يطلق ويراد به الأصغر ، وقد يطلق ويراد به ما يفعل بالجوارح ، وفي هذه الحالة ينقسم إلى : أكبر وأصغر ، ولكن السؤال : متى يكون الكفر العملي أكبر ؟

والجواب : أن الكفر العملي يكون كفرًا عمليًا أكبر إذا كان متضمنًا لكفر القلب ، وهذا الكلام قاله الشيخ حافظ بن أحمد حكمي عندما قال : إن الكفر اعتقادي ، وعملي في « 200 سؤال وجواب في العقيدة » وكان يعني بالعملي الكفر الأصغر ، فاستدرك على نفسه في السؤال الذي بعده وقال : إذا قيل لنا : هل السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول والهزل بالدين ونحو ذلك هذا كله من الكفر العملي وهي من الكفر الأكبر ؟! قال : هذه الأربعة ليست من الكفر العملي إلا من باب أنها تؤدى بالجوارح ولكنها في واقع الأمر من الكفر الاعتقادي ؛ لما تضمنته من فساد القلب وانخرامه أو كما قال : .

إذن فكلمة كفر عملي وكفر اعتقادي فكأن هناك كفر اعتقادي مجرد واضح  كأن يعتقد أن هناك إله مع الله مثلًا ، فهذا مفروغ منه ، وهناك كفر عملي واضح كأن يفعل معصية وهو يرى أنه عاصٍ ، وهناك كفر عملي وهي الجزئية التي قلناها أن يعمل عملًا يدل دلالة قاطعة على انخرام الباطن .

ومن الممكن أن يستخدم بعض العلماء كلمة الكفر العملي بمعنى الأصغر لكن هذا الاصطلاح يحتاج إلى تنقيح ، وحينما يرد هذا الكلام في كلام أحد من العلماء فلا بد أن نبحث عن مقصده بعباراته الأخرى ، وماذا يقصد بهذه المسألة ؟ هل يقصد أنه كفر عملي من باب أنه يقع بالجوارح ، أم يقصد عملي مجرد أي عملي ليس فيه كفر قلب معه ؟ هذا بالنسبة لمصطلح الكفر العملي والكفر الاعتقادي حيث أن البعض استثمر نقولًا في هذا الباب ، وكانت هذه النقول أحد أسباب الإشكالات في المسألة . 

من هذا العرض يتبين أن مسائل الإيمان والكفر تنسجم مع مسائل الحكم بغير ما أنزل الله ، وما ورد من كلام السلف فيها ، وأنه ليس هناك تعارض وأكدنا على ضرورة توضيح المقصود من الاصطلاحات إذا كان الكلام يتعلق باصطلاحات حادثة أو اصطلاحات لم يتفق العلماء على معناها فنعرف المعنى المقصود بالاستحلال عند من يقول بالاستحلال ومن يقول بالكفر العملي والكفر الاعتقادي ماذا يقصد بذلك ، إلى غير هذا من الأمور التي هي في غاية الأهمية .

ونبهنا أيضًا على ضرورة أن تكون الأدلة هي الحاكمة ، لا أن تكون محكومة ، وأننا حينما نستخرج قواعد ونؤصل أصولًا ينبغي أن تكون منبثقة من الأدلة ، وأننا لو توهمنا خلافًا بين شيء من هذه القواعد ، أو وجدنا تعارضًا بينها وبين بعض الأدلة ، فإن القاعدة تكون ناقصة أو مضطربة ، أو تحتاج إلى تقييد أو غير هذا ، وليس العكس بأن نعتبر القاعدة أصل تحاكم به الأدلة ، كما هو آفة معظم من يبحث في هذه المسألة ، فهذا أحد أهم الأمور التي ينبغي أن تتضح في هذا الباب .

عدنا وبينا أن تبديل الشرع بمعنى أن شخصًا يدعو - فضلًا أن يطبق - إلى أن يطبق في الناس شرع غير شرع الله تعالى وأن هذا مجمع على أنه كفر أكبر ، وبالتالي إذا قلنا أن هذا فيه إجماع على أنه كفر أكبر ، فلا بد أن يكون فيه خلل قلبي ما سواء عرفناه أو لم نعرفه ، والخلل القلبي واضح جدًا لمن تأمل أن التبديل لا يمكن أن يوجد من مقر مذعن ، ولا يأتي إلا من تكذيب ، أو من إباء ، وتصور حصوله من غير هذا نوع من العبث .

وبالتالي نقول : إن قضية التبديل كفر أكبر بإجماع السلف ، ولا تحتاج إلى أن يعاد بحثها مع أننا قد أعدنا بحثها ؛ لكي نبين أنها جارية على الأصول ، وأن الذين نقلوا لنا نقولًا  أخرى يقولون فيها أن الشخص يكفر إذا استحل ،نقول : ومن الاستحلال التبديل ، فقوله : « إذا استحل »أشمل من «إذا بدل » لأن من الاستحلال أن يبدل ويخالف في قضية معينة ، وبعد ذلك يقول : أنه يحق له بصفته قاضٍ أن يفعل ذلك ، فكلمة إذا استحل أشمل من كلمة إذا بدل، وكلمة بدل أشهر أنواع الاستحلال ، وأشهر أنواع الكفر الأكبر ، وبذلك تلتئم النقول عن العلماء السابقين في المسألة ، ولا يوجد تعارض بين أقوال العالم الواحد .

وهذه مسألة في غاية الأهمية وهي أن العالم الواحد حينما يتكلم في مسألة فلا بد أولًا  أن نكون منصفين في الرجوع إلى الكتاب والسنة ، وعدم جعل كلام أحد أصل ترد من أجله الكتاب والسنة .

وثانيًا: أن يكون عندنا أمانة في نسبة كل قول إلى قائله فلا يكون بدوافع الحب مثلًا فنريد أن نبرأ عالمًا من قول نراه خطأ ، فالأصل الإنصاف والتجرد في معرفة قول العالم الفلاني ؛ كي تنسبه إليه ، فمسألة الشرع شيء ، ومسألة أن تنسب الكلام لشخص وأن رأي فلان في المسألة كذا شيء آخر .

فالأول أن نحقق ما قاله كل عالم ومعرفة دليله ، ومنه نقول : إن الكلام الشرعي كذا وكذا ، سواء وافق قول فلان أو وافق قول علان ، فحينما نرى قول عالم له نصوص متعارضة ، فهذا ينشأ إما من أن له اجتهادين في المسألة ، وإما أنه تكلم في مسألة في موطن أوفى من موطن آخر ، أو أن المسألة فيها تفصيل ، أو أن المسألة فيها اختلاف لفظي ، فلا بد أن ننقح بأمانة وصدق وتجرد كلام العالم ، ونجمع كلامه في المسألة كلها وننظر فيه ، فإذا كان الاختلاف نتيجة أنه غير اجتهاده ، فنعرف أن له قولان في المسألة ، وقد غير اجتهاده ،  والأصل خاصة في المسائل العقدية الكبرى أن الإمام الواحد يكون له قول واحد في المسألة إذ يجمع الكلام كله ويرد المجمل إلى المفصل ، ويرد المتشابه إلى المحكم وهكذا .

فهذا أمر في غاية الأهمية فحينما نراه مرة قال : « تبديل » ومرة قال : « استحلال » ومرة قال : « إباء » وخاصة لو طبق على نموذج مثل ابن كثير حيث طبق الكلام على التتار ، فالتتار لم يقولوا أن هذا من عند الله ، ولكنهم قالوا : إن هذا شرع جنكيز خان ، فمن أين نقول أن مذهب ابن كثير والإجماع الذي حكاه أنه لا يكفر إلا إذا نسب هذا الشرع المبدل إلى الله تعالى  ؟ ! ويقولون كان عند التتار كفريات أخرى ، فكانوا يعتقدون أن ملكهم هو ابن الله ، ونحن نرى أن ابن كثير قال : أنهم فعلوا كذا وهذا من الكفر ، وقال في تفسير قوله تعالى : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : 44 ] ولم يتعرض في بيان سبب كفرهم لأسباب أخرى ، ولأن الذين يعتقدون ذلك ويرتكبون هذه الأسباب الأخرى ليسوا جميع التتار فهذا كلام في غاية التناقض كما ذكرنا .

فمن الأمور التي يلزم فعلها تحقيق موقف العلماء ، وهذا أصل مع الأخذ في الاعتبار أن في النهاية لو وجدت أدلة ووجدنا بعض العلماء خالفها ، سنقول كل يؤخذ من قوله ويترك ، ولكن المسألة أنه ينبغي إذا كلامه إذا كان فيه نوع تعارض أن يُحل ، ولا بد من حله ، فإما أن يكون له قولان في المسألة ، وإما أن يرد هذا الكلام لهذا الكلام ، وإما يقال : تعارضا فتساقطا فماذا تأتي بكلامه الموافق لك وتركت كلامه المخالف ؟! ، فأقصاه إذا لم يكن لها حل لا يمكن أن ننسب لهذا العالم قولًا وذلك إذا كان القولين في نفس الدرجة من القوة ونفس الدرجة من الوضوح ، ولكنهم متعارضان لا يمكن التوفيق بينهما ، فلا تقل : العالم الفلاني يقول : كذا لأنه في المقابل ، سيقول الآخر وهو كذلك يقول كذا ، فعلى الأقل هذا العالم لن تستطيع أن تدرجه معنا عندما نستقصي أقوال العلماء في المسألة ، وينطبق هذا على قول القدماء وقول المعاصرين .

فقول القدماء كان واضحًا جدًا في تكفير من حكم بغير شرع الله مبدلًا لشرع الله كما ذكرنا وضرب ابن كثير مثالًا بالتتار ، وواقع التتار كان معروفًا ، وحكى الإجماع في هذا ، وكلام ابن تيمية وابن القيم واضح أيضًا في المسألة .

وكذلك كلام والعلماء المعاصرين كالعلامة أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ الشنقيطي أيضًا واضح جدًا في المسألة ، ولو قلنا هناك اختلاف فسيحل بنفس الأسلوب ؛ لأن أيضًا كلام الشنقيطي ذكرنا منه طرفًا واضحًا جدًا في المسألة وكلام الشيخ محمد بن إبراهيم من أكثر من فصل في المسألة .

يبقى كلام الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ العثيمين وقد يحتاج إلى بعض التوضيح ، وقد قدمنا قبل ذلك أن هناك قدرًا من الخلاف مثبت وموجود في فتوى الشيخ الألباني ، وتعليق الشيخ العثيمين عليها ، وكان هذا كافيًا جدًا بعيدًا عن التطويل الممل ، والمساجلات الطويلة بين أناس ، فأصبح فريقان يتعاركان ، والفريق الذي انتسب للشيخ الألباني أخذ قوله وتوسع جدًا في تجفيف هذا التكفير حتى وصلوا إلى قول يشبه قول المرجئة ، وحتى أيضًا الفريق المنتسب للشيخ ابن عثيمين لم يلتزموا قوله في بيان المسألة كعقيدة وليس من أجل أن نمتحن الناس فيها ولا نثير الكلام على المعينين .

فوجد غلو في الطرف الآخر ، ولكن لم يلتزموا نفس درجة الأدب التي التزمها الشيخ العثيمين : مع العلامة الألباني في أن يكون الرد بالدليل مع مراعاة إنزال الناس منازلهم ، فصارت فتنة كبيرة جدًا ، ومن الممكن أن نكتفي بقراءة فتوى الشيخ الألباني ، ونضيف إليها تعقيبات الشيخ ابن عثيمين التي نراها منضبطة أكثر مع ما سبق ذكره من قواعد وأدلة وبها يتبين لنا غلو الطرفين المتصارعين الذين يدعيان أن الأئمة من أول شيخ الإسلام ابن تيمية حتى  ابن باز وينتقي من كلام كل شخص ما يراه أنه شاهد له ويرد ما لا يراه .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1564 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1705 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2028 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1666 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥