الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (10

شبهات وردود في قضية الحاكمية

(الحاكمية (10
عبد المنعم الشحات
الاثنين ١٦ مارس ٢٠١٥ - ١٠:٢٦ ص
1833

الحاكمية (10)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

شبهات وردود في قضية الحاكمية :

نتناول مناقشة سريعة مع العالمانيين وغيرهم من الذين يوجهون أنواعًا من الشبهات حول هذه القضية ، وبداية نقرر أن ما سبق بيانه من الآيات الداعية لتحكيم شرع الله تعالى ، والآمرة باتباع النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وطاعته ، ونفي الإيمان عمن لم يرد كل أمره إليه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  كافية تمامًا لإثبات هذا الحكم بالإضافة إلى إجماع الأمة على لزوم اتباع شريعة محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، وأن من جحد هذا الأمر فهو كافر باتفاق العلماء .

وأشرنا إلى أن قضية الجحود قضية مجمع عليها حتى بين الفصائل الإسلامية المعاصرة ، وأيضًا كطريقة عامة في مناقشة كل الشبهات التي تثار حول القضايا الشرعية سواء كانت قضايا كلية أو جزئية ، فهذه من أكثر القضايا الكلية - إن لم تكن هي أجمعها- قضية : لزوم تطبيق الشرع ولزوم شرعية النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في العبادات والمعاملات ، وفي العلاقات الخاصة والعامة ، والفصل بين الناس في النزاع ، فهذه قضية كلية .

ونقول كطريقة عامة في مناقشة جميع الشبهات التي توجه إلى هذه القضية أو إلى غيرها ، فإننا نقول للذي يوجه الشبهة : « اختر لك أحد أمرين لا ثالث لهما : إما أن تكون من المؤمنين بالقرآن وبالسنة وبنبوة محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، وإما أن لا تكون » .

فأما الكافر الجاحد لدين الله تعالى سواء المعلن بكفره ابتداء ، أو الذي ستكون إجابته بأنه لا يلزمه ما وجد في الكتاب والسنة ، فهذا لا مجال للنقاش معه في تفاصيل وجزئيات ، وينبغي أن يكون الحوار معه حول قضية أن يؤمن بالله وأن يصدق بكتاب الله وأنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

وأما إن زعم الإيمان ؛ فيبقى الكلام أن لا يعارض نصوص الكتاب والسنة لا بآرائه ولا بأفكاره ولا بشبهاته ولا بشبهات غيره ، وهذه الطريقة الإجمالية تغني عن مناقشة التفاصيل .

وقد كان هذا مسلك الإمام أحمد / في مناقشة من هم أمثل حالًا بكثير من هؤلاء الذين يريدون أن ينحوا الشريعة جانبًا مع بدعتهم وضلالهم وفسادهم إلا أن عندهم شبهات في أن هذا هو الدين ، فكان / يتبنى هذه الطريقة في المناقشة ، فكان يعذب ويبتلى لكي يناقش من يقولون بخلق القرآن ، فما كان الإمام أحمد / يناقش إلا بشيء واحد يقول : « ائتوني بآية من كتاب الله أو حديث من حديث رسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أقول لكم به » إذا كان عندكم نص شرعي فبها ونعمت ، وإلا ففيم المناقشة ، وفيم المجادلة ؟ !! .

وهذه الطريقة قد تكون أسلم في كثير من الأحيان لا سيما للمبتدئ في طلب العلم وهذا ليس حيدًا منه عن المناقشة ، ولكنه رجوع إلى المحكم وترك المتشابه ، فلو أن إنسانًا يدعوك إلى مناقشة قضية هل الشمس في كبد السماء أم لا ؟ وأنت تراها بعينك ، وهذه أعلى درجات الإدراك أن تراها بحواسك ، وهو يريد أن يتكلم بالبرهان ، فيذكر مقدمات ونتائج ، ويقول لك أن هذه القضية قضية خلافية وهلم إلى مناقشتها !! فهذا لا طائل وراء المناقشة معه ؛ إذ الأمر محسوم .

 وإنما يحتاج هؤلاء لطبيب يعالجهم ويناقشهم لعله يغير بعض أوهامهم أو بعض أمراضهم ويعرف أين الخلل هل هو في حواسهم ؟ أم في عقولهم ؟ أم في غير هذا ؟ هل يعتقدون ما يقولون ؟ أم أنهم يقولونه من باب الخوف أو غير هذا ؟ .

إذن فمناقشة هؤلاء أمر يتعلق بالأطباء ، فالذي يقول لك : الشمس ليست ظاهرة مع أنك تراها بعينيك ، فهذا أمر لا يحتاج أن تناقشه الناس جميعًا ، بل عدد قليل جدًا من الناس ، ولكن نحن نقول : إن طلبة العلم هم أطباء هذه الأمة ، وبالتالي نحن نعرض هذه الشبهات من هذا الباب لكن المبتدئ في طلب العلم أو الطالب في دراسة الطب مثلًا لا يتصدى لعلاج الأمراض من أول يوم في دراسته مع أنه يؤمل أن يكون في يوم من الأيام طبيبًا .

ولكن نقول هذا للمبتدئ في طلب العلم إذا وجد أن الشبهات فوق مستواه فليلجأ إلى المحكم إلى أن الشمس في كبد السماء فقط ، ويقرر لهذا الذي يريد أن يبحث معه هذه القضية أن يبحث عن طبيب متمرس في هذه الأمراض العقلية والنفسية وغيرها من الأمراض التي سببت له هذا الخطأ في الإدراك .

وقد قررنا - بفضل الله تعالى - عدد من الأدلة التي يعرف منها أن من لوازم توحيد الله تعالى اتباع شرعه الذي شرعه على لسان رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، وقلنا أن هذا يكفي ، ثم بينا أن الله تعالى قد حكم على من لم يحكم بما أنزله  ـ سبحانه وتعالى ـ  بالكفر ، وانشغلنا بقضية تستأهل أن ينشغل بها ؛ لأنها تسبب قدرًا من النزاع والصراع واللبس داخل صفوف الصحوة الإسلامية ، وبيان أي نوع من أنواع الكفر هو ، وبعد تقرير أنه كفر وأنه فساد ، فالذي يقول أن هذا لا حرج فيه البتة ؛ يكون قد خرق إجماع الأمة كلها .

وكما ذكرنا قد نحتاج أحيانًا إلى أن نناقشه ، فلو أخذنا نفصل في المناقشة لطال بنا الأمر جدًا ، وبالتالي نجتهد - إن شاء الله - أن نذكر إجماليات في مناقضة هؤلاء في أهم الشبه التي يتمسكون بها ، وكما ذكرنا لسنا في حاجة إلى هذه المناقشة لكي نقرر أصل الحكم ، ولكننا في حاجة إليها لنعلم الأطباء كيف يعالجون هذه الأمراض التي توجد عند البعض .

أيضًا مما يجعل هناك درجة من درجات الأهمية للتعرض لهذه الشبهات أن الآن صار بعض الإسلاميين يرفعون لافتة الحوار مع كل أحد ، كالحوار الإسلامي المسيحي !! والحوار الإسلامي القومي !! والحوار الإسلامي العلماني !! والحوار الإسلامي الأمريكي !! إلى آخر هذه اللافتات .

وكلمة الحوار عند القوم إذا قلت : له بأي دليل تحاور هؤلاء القوم ؟!! قال : وجادلهم بالتي هي أحسن !! يا ليت الأمر حوار بمعنى أنه دعوى للآخرين ومجادلة ، وبيان للشبهات ، فكلمة حوار متى أطلقت يعنى بها أن هناك احترام مبدئي متبادل بين الأطراف ، وأنه الحوار بديل لسياسة الرفض .

وهذه خطورة إطلاق مصطلحات الحوار ، إذن فهذا المصطلح في حد ذاته معناه أن هناك احترام متبادل ، وقبول مبدئي ، ففي هذا الحوار يقال : ما أجندة هذا الحوار أو خطة عمل هذا الحوار ؟ فيقولون : الاتفاق على النقاط المشتركة بين الحوار الإسلامي المسيحي كما يزعمون !! وكما أشرنا أن المسيح u براء من هذه الديانة المحرفة ، لكن هكذا يسمونه !!،  وليس غرض الحوار الإسلامي المسيحي الدعوة إلى الحق ولا بيانه ، وإنما غرضه ذكر نقاط مشتركة .

 وفي تدليس عظيم على الناس حينما نخرج ونقول : هناك نقاط مشتركة ، فنحن بشر وهم بشر ، وهم يقولون : للكون خالق ونحن نقول : للكون خالق ، وأكثر من ذلك هم يقولون أن هذا الخالق هو المستحق للعبادة ، كما نقول نحن !! ولكنهم يشركون معه غيره في هذه العبادة ، ويشركون معه غيره في هذا الخلق وينسبون إليه نقائص وعيوب بحيث أن إلههم لا يوجد إلا في أذهانهم هم .

فهذا الحوار لن ينص على هذا الأمر ، فتكون الوثائق التي تخرج عن هذا الحوار تدليس وتلبيس على الناس ، فيمكن أن تضطرب عقائد الناس .

نفس القضية في الحوار الإسلامي القومي الذي تقوده بعض الاتجاهات الإسلامية ، لا سيما الاتجاهات الإسلامية السياسية التي تؤمن بالحل البرلماني ، فمطلوب منها إثبات أنها معتدلة ، وتقبل الآخر فهي مضطرة لإجراء حوار مع كل أحد ، حتى أن الدكتور محمد حبيب - عفا الله عنه ، وأصلح حاله - زار نجيب محفوظ مع أن الأزهر نفسه كفر رواية « أولاد حارتنا » ، والأزهر يمثل قمة التسامح كما يقولون ، والقبول للآخر .

وفي وقت من الأوقات كفر هذه الرواية ، واضطر نجيب محفوظ آنذاك إلى أن يعلن تبرأه منها ، فلما أعطوه جائزة نوبل عنها ، تمسك بها مرة أخرى ، فقامت الدنيا ولم تقعد ، ثم ذهب لكي يزوره ، ودار حوار حول الرواية فقال : كلامًا يفهم منه قبوله للرواية من حيث المبدأ ، واعتراضه على بعض ما جاء فيها ، فهذا لو كان كتابًا مثلًا يبحث في قضايا متعددة فتقول : أقبل بعضه وأرفض بعضه ، لكن هذه رواية ذات جزئية واحدة ، وفيها إسقاط على قضية موت الإله والعياذ بالله كما جاء في ديباجة حصوله على جائزة نوبل .

يقول : « إنني أرفض بعض ما جاء فيها !! » فيا ليته يقول لنا ما البعض الذي رفضه ؟ ! وقبل هذا يقول لنا ما هو البعض الذي قبله ؟ وعلى أي أساس قبله ؟ ويدور سؤال في نفس الجلسة عن سيد قطب فيقول : سيد قطب خرج من السجن محملًا بمرض نفسي من سوء المعاملة والتعذيب ، وأثر هذا على جميع كتاباته !! .

ونحن دائمًا - بلا شك - ننبه على أخطاء الأستاذ سيد قطب / ، ولكننا نعجب أشد العجب أن رجلًا يمثل اتجاهًا إسلاميًا بهذه القوة ، ويأتي في سياق واحد فيلتمس العذر لزنديق طعن في دين الله تعالى ، ويثني على عمله ، ولا يذكر إلا الثناء ، ثم يقول : وإن كان لي بعض التحفظ !! ويأتي لرجل في وقت من الأوقات كان ينتسب لجماعته إلى وقت قريب كانوا يفاخرون بآثاره ويقول أن كتاباته نتيجة مرض نفسي !! وماذا عن الذي طعن في الدين ؟ أليس نتيجة مرض نفسي ؟ والذي وصف الأنبياء أنهم زناة وأنهم يشربون المخدرات كما ورد في الرواية أليس عنده مرض نفسي ؟ .

الآن صار الدعاة هم المرضى النفسيون ، مع أننا لا نغفل أن الأستاذ سيد قطب / كان قد غلبت عليه العاطفة أكثر ، وهذا كلام نقرره ولا يمكننا أن نقوله في حضور العالمانيين ، ففي وجود  العالمانيين لا يمكننا أن نقدح حتى في الدكتور حبيب نفسه ، ولكنه وجد عنده المقدرة والشجاعة الكافية أن يثني على هذا الرجل ، وبعد ذلك يعتذر ويقول : أنما ذهبت أجامله ؛ لأنه دافع عن الحريات حينما كنا في السجون ، بينما انغمس غيره في أدب الفراش !! ، وهل رسخ أحد أدب الفراش في العالم العربي أكثر من نجيب محفوظ ؟ !! ، ثم لو ابتليت في سبيل الله وطالب رجل كافر بخروجك فهو كافرًا .  

وقد كان سيد قطب أيضًا محتاجًا لهذه المجاملة لأنه قد مات لكي يقول أن الله وحده المستحق للعبادة ، وأن الله هو الحاكم ، وما سواه محكوم ، فسيد قطب أولى بالمجاملة  بلا شك .

 فالقضية في غاية الخطورة الآن ، فكل هذه نماذج سواء كانت تصرفات فردية أو جماعية ، فصارت كلمة حوار الآن تساوي كلمة تنازل ، وتساوي البحث عن مساحة مشتركة ، وكيف يكون بيننا وبين نجيب محفوظ مساحة مشتركة ؟ هذا رجل يطعن في دين الله تعالى والروايات التي يكتبها كلها إباحية وفسق وفجور ودفاع عن الرذيلة ، فوجدوا شيئًا مشتركًا معه فقالوا : إنه كان يدافع عنا حينما كنا في السجون ، إذن فليس هناك أحد ستختلف معه !! وفي الآخر هذا ابن آدم ، وهذا ابن آدم مثلًا والعياذ بالله !! .

فصار الأمر في خطورة أن يعلن دائمًا الحوار الإسلامي العالماني ، الحوار الإسلامي القومي ، وهذا كله محاولة لإيجاد مساحة مشتركة ، وما المساحة المشتركة التي وجدوها مع القوميين ؟ قالوا : هم يريدون رفض هيمنة الاستعمار ونحن نرفض هيمنة الاستعمار !! وليست القضية قضية أرض ولا ثروات ، إن القضية قضية عقيدة ، وهؤلاء القوميون يريدون عقائد الغرب ، ولكن بأيدٍ وطنية !!

فماذا جنينا نحن من القوميين وقد استعانوا بالأمريكان ليقتلوا بهم إخوانهم ؟! ، وفي هذا الوقت ماذا كان موقف الإسلاميين من حرب الخليج التي استعين فيها بالأمريكان وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ؟ مات واحد منهم فنعوه بأشد النعي أن هذا رجل وقف نفسه على حياة بلده ، وإن كان من أجل بلده يدمر بلاد المسلمين ، ومن أجل ملكه أتى بالكفار ومكن لهم في بلاد المسلمين .

لكن الآن هناك حوار إسلامي قومي ، فلا بد أن نراعي أن هذا رجل قومي عمل لمصلحة قومه ووطنه ، فلا بد أن نثني عليه بذلك ، فهذه قضية في غاية الخطورة محاولة إيجاد مساحات مشتركة مع كل الناس نحن نقول : نعم بالحوار الإسلامي المسيحي إن سموه ، أو الإسلامي اليهودي ، أو الإسلامي القومي ، حوار نتمسك فيه نحن بجميع ثوابتنا ، ونكلمهم من منطلق الدعوة ومقارعة الحجة بالحجة ، وقد كانوا في وقت من الأوقات يديرون حوارات بهذه الهيئة ، أما الآن فلا بد من إظهار القبول بالآخر تمامًا .

كتب الأستاذ عاكف المرشد العام مقالًا مع قدوم عيد الميلاد وعيد الأضحى ، وانظر إلى الترتيب الزمني بالعدل والمساواة الذي جاء أولًا ، يكون أولًا !! ، بينما القوميون حينما ينشرون لافتات تهنئة في الشوارع يقولون : عيد الأضحى وعيد الميلاد فراعوا أن هذا عيد الأكثرية فيقدم !! .

أما هو فمن باب إظهار درجة عالية من الإنصاف كتب هذا المقال ، ثم كان الكلام كلامًا موجه إلى من يزعمون أنهم أتباع عيسى u ولم يلتزموا بأقواله ، فكلها مقتطفات من الأناجيل التي لا يمكن أن ننسب قولًا فيها إلى عيسى بصيغة الجزم ، وهم يقولون أنهم أتباع عيسى ، وعيسى u جاء بالسلام ، وهم جاءوا بالحرب ، وهو قد جاء بالزهد في الدنيا ،  وهم ينهبون ثروات الشعوب ، خطاب إن قرأته تخاله كأنه خطاب من واعظ إلى عصاة وليس إلى كفار ، فنحن حينما نكلم عصاة المسلمين نقول لهم : أنتم تؤمنون بالقرآن وفي القرآن كذا وكذا وتؤمنون بالنبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وتخالفون أوامره !! .

فكان الخطاب كأن الإيمان بالإنجيل على ما هو عليه بحاله وليس هناك شبهة بأن يقول أنا أتكلم على الإنجيل الذي نزل على عيسى u ولكنه يتكلم على إنجيل متى ومرقص ، ويقتطف مقتطفات منهما ويقول لهم : أنتم تؤمنون بعيسى ، ولكن لا تطبقون كلامه فهل هؤلاء مؤمنون بعيسى ؟ .

فالقضية قد أصبحت في غاية الخطورة كما ذكرنا ، وبالتالي علينا أن نبين أنه إذا كان هناك حوار فهي مجادلة بالتي هي أحسن ، وبيان أنهم على الباطل ، ولكن يقول : النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  حاور النصارى وحاور اليهود ، والتقى وفد نصارى نجران ويا ليتهم يقتدون بالنبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  كما كان في حواره مع هؤلاء ، وبين لهم كفرهم وباطلهم إلى أن دعاهم إلى المباهلة لما نكثوا وكذبوا على الله  ـ عزوجل  ـ  ، وكان الحوار أن قال لهم النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  : « أسلموا » قالوا : « قد أسلمنا قبلك يا محمد » قال: « كذبتم يمنعكم من الإسلام أنكم تقولون أن عيسى ابن الله » .

فهذا هو الحوار أن نقول لهم : هذا ليس توحيدًا ، وليس معرفة لله  ـ عزوجل  ـ  ، بل يمنعكم من هذا ما قلتم من الباطل ، وما بدلتم من شريعة عيسى u ، قال : « وأنكم تستحلون الخنزير » وغير هذا مما ذكره لهم  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  .

فالحاصل أننا لو قبلنا الحوار مع أي أحد ، فهو حوار من باب بيان الحق ودعوة الناس إلى الحق ، وكما ذكرنا إجمالًا هناك مسلكين نطالب من يريد الحوار ويعرض المناقشة بالجواب على ذلك ، فنسأله أهم سؤال أولًا : من أي موقع تتحدث ؟ من موقع المسلم ، إذن نقول لك : ماذا يمليه عليك إسلامك ، فإن كان يتكلم من موقع أنه غير مسلم ، فندعوه إلى أن نبين له أدلة صدق القرآن ، وأدلة صدق النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وإعجاز القرآن في ألفاظه ومعانيه إلى غير هذا .

وإذا تطوعنا فناقشنا قضية جزئية ، فهذا من باب التطوع والنافلة ، فحينما يذكر أن الحدود الإسلامية مثلًا فيها وحشية !! والعياذ بالله ، نقول : نزل الإسلام حين نزل ولم تنزل الحدود ، نزل بلا إله إلا الله محمد رسول الله ، والحدود فرع عليها ، فتكلم في القضية الأصلية ، فلو آمنت أن هذا من عند الله ، فلا بد أن تؤمن أن  الله  ـ عزوجل  ـ  عليم خبير لطيف  ـ سبحانه وتعالى ـ  في أحكامه ، ومع ذلك فلو دخل الشيطان لك من هذا الباب نناقشك فيه ، ولكن ليس هذا هو الأصل ، وليس هو المحك الذي يجب أن نحتكم إليه .

ولو أردنا أن نقسم الشبهات التي يثيرها أعداء دين الله في وجه تطبيق الشريعة يمكن تقسيمها إجمالًا إلى ثلاث أقسام :

القسم الأول - وهو أخطرها - : دعوى عدم لزوم الشريعة ابتداء وكأن ليس هناك شيء اسمه شريعة ، فقد يدعون هذا.

القسم الثاني : دعوى عدم إمكان تطبيق الشريعة ، فيقولون : نعم هناك  شريعة ، ولكنها مستحيلة التطبيق لسبب أو لآخر , وسوف نذكر هذا .

القسم الثالث : من الممكن أن يدعوا أن الشريعة ممكنة التطبيق في ذاتها ، ولكنها غير ممكنة لموانع أخرى في العصر الحالي .

ومن الممكن أن تجد أحدهم يقول الأقوال الثالثة في وقت واحد ، والمهم أن لا تطبق !! .

فبعضهم يدعي أنه ليس هناك شريعة في دين الله تعالى ، وأن الدين علاقة خاصة بين العبد وبين ربه ، فهؤلاء جاحدون لكل الآيات التي ذكرنا ، ولذلك قلنا أننا من باب النافلة فقط في هذه القضية نجيب عن الشبهات تفصيليًا ؛ لأنه يمكن أن يجاب على كل الشبهات بإجابة واحدة : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ﴾ ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ .

فكل هذه الآيات التي ذكرناها تصلح إجابة على كل هذا الكلام كما ذكرنا ، لا سيما إن كان المتكلم يدعي الإسلام ، وإن كان لا يدعي الإسلام فاسأله لماذا تكلمني في إسلامي ؟ أنا أفهم إسلامي ، فلماذا تحاول أن تصحح فهمي للإسلام ؟! هل أنت غيور على الإسلام إلى هذه الدرجة ؟!! .

فالحاصل أننا نقول : يمكن أن نقسم هؤلاء لثلاث فئات رئيسية :

القسم الأول : من يدعون عدم لزوم الشريعة .

والقسم الثاني : من يدعون عدم إمكان تطبيقها ، فيقولون هناك شريعة ، وهي لازمة ولكن لا يمكن أن نطبقها، يقولون : البشر بدون أي ضغوط وبدون أي موانع لو طولبوا أن يطبقوا الشريعة لما استطاعوا تطبيقها !! .

والقسم الثالث : يقول : نعم ، هناك شريعة ولازمة وممكنة التطبيق في ذاتها ، ولكن ثمة موانع تمنع من تطبيقها .

أما الذين يدعون عدم لزوم الشريعة ، وأنه ليس هناك شريعة أصلًا ، أو أنها غير لازمة ، فيثيرون عددًا من الشبهات كل واحدة منها تحتاج إلى وقت طويل لمناقشتها ، فنجمل الإجابة عليها ، ويسعك في أي مناقشة أن تعود إلى الأصل الذي ذكرناه دون أن تناقش أصل هذه الشبهة .

من أخطر شبهاتهم التي يدعونها :

أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، ولذلك فإن هذه القضية من القضايا المهمة جدًا ، فانظر كيف أن طلب العلم ضروري لرد هؤلاء ، فهؤلاء يتعلمون دين الله لكي يستثمروا ما تعلموه في الطعن على دين الله تعالى ، ويقولون : العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ !! وهذا خلاف إجماع الأمة ، وخلاف فعل النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  .

وهنا قضية في طريقة المناقشة وهي أنك إذا علمت أن الذي أمامك مبطل ؛ فليس من الضرورة أن تثبت جميع [ بطلان ] باطله ، بل يمكن أن تنتقى أبطل شيء في كلامه ثم تكلمه فيه كما فعل إبراهيم u عندما قال له القائل : ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ وهذا كلام باطل ، وإحياؤه وإماتته تلك هي أن يأتي باثنين محكوم عليهما بالإعدام فيطلق أحدهما وينفذ في الآخر الحكم !! فهل يستطيع أن يحيي العظام وهي رميم ؟ وهل يستطيع أن يقلب الجماد حيًا ؟! فهذا هو الإحياء والإماتة ، فهل يصلح أن يقول لشخص في أقصى بلاد الأرض : « مت » فيموت ، فهذه هي الإماتة .

فطالما أن هناك أمر أوضح يبهت به ، وطالما عرفت في الإحياء والإماتة أن تتصرف في حدود من أمامك ­﴿ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ فعجز ولا بد أن يعترف بعجزه فيا من تدعي الربوبية ويا أيها العاجز غير لنا نظام الكون ؟!! ولن يستطيع !! .

وأيضًا يقولون : العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، نقول : إذن هناك أحكام من التي تنكرونها - معشر العالمانيين - لم تنزل بسبب ، فأكثر ما ينكرونه الحدود مع أن معظم آيات الحدود نزلت بلا سبب قال تعالى : ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ  ﴾ فليس هنا سبب ، فافترضوا جدلًا أن الآيات التي نزلت بسبب أنها خاصة بهذا السبب ، فماذا ستفعلون مع الآيات التي نزلت بغير سبب ؟!!

وهذا هو الأصل ففي علوم القرآن أن الأصل في آيات القرآن أنها بلا سبب وإنما هي تشريع ينزل إخبارًا للأمة ، وأحيانًا تقع الواقعة ؛ فينزل بعدها الحكم .

الأمر الثاني : أن هذا خارج عن إجماع الأمة ، وفعل النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  الذي كان يأتيه الحكم وينزل بسبب مسألة فتتطبقه الأمة في عصره وبعد عصره على كل من كان وعلى نفس حالة ، فآيات الظهار لها سبب ، ومع ذلك أجمعت الأمة على أن هذا الحكم باقٍ في عصره  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وبعد عصره ، وهكذا إذن فهذا خلاف إجماع الأمة .

وقد نبهنا أثناء دراستنا لعلوم القرآن على مسألة مهمة جدًا وهي أن القول بأن العبرة بخصوص السبب المنسوب إلى بعض أهل العلم يقولون أن هذه الآية إما أن نعتبرها نصًا على الحالة التي نزلت فيها وعلى كل ما شابهها ، فهذا يسمى : « العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب » .

وإما أن يعتبرها نصًا على الحالة التي نزلت فيها ويستفاد منها حكم غيرها بطرق أخرى ، ولم يقل أحد أن الآية نزلت بسبب واقعة فلا يلتفت إلى ألفاظها ولا إلى معانيها البتة !! إذ في هذا نسبة النقص والعيب إلى الله تعالى والعياذ بالله !! .

فمسألة يمكن الإجابة فيها بنعم أو لا أو يحل أو يحرم ، فيعدل الله تعالى عن هذا إلى ذكر الصفات : والذين يفعلون كذا والذين يأتون كذا ، ثم يكون هذا الكلام بلا فائدة ، فهذا من أعظم النقص والعياذ بالله .

بل متى عدل الله تعالى في الواقعة الخاصة عن ذكر حكمها المختصر إلى ذكر الألفاظ العامة ، فإن هذا لحكمة وهي بيان أن هذا الحكم يعم .

ومما يطعن على هذا قوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  : « إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لجميع النساء » فكل الآيات والتشريعات التي شرعت بسبب أجمعت الأمة على بقائها ، كمشروعية التيمم حيث كان له سبب ، ثم بقي في حياته  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وبعد مماته ، وهكذا في جميع الآيات ، فهذه من الأمور التي لا بد أن نلتفت إليها .

وهذا الكلام كله لا بد أن يكون قبله وبعده ديباجة عن حرية الرأي وحرية الفكر من أجل أن يترك لهؤلاء حرية التبديل والطعن في دين الله تعالى ، فيقولون : لفلان آراؤه الجريئة في قضية العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأنه يرى أن العبرة بخصوص السبب ، وأن المتطرفين سوف يعترضون من أجل هذا ، وهذا مصادرة للفكر !! .

فنحن نقول أن الكلام واضح جدًا في كتاب الله  ـ عزوجل  ـ  وفي سنة رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، والذي يريد أن ينتسب للإسلام فعليه أن يمتثل بهذا ، وإلا فليصرح بكفره ونفاقه وزندقته والعياذ بالله .

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مبدأ قانوني ، والعجيب أنهم يريدون أن يسحبوه من الشرع ؛ لأنه تقع وقائع معينة في المجتمع ، فيعقدون جلسة للمجالس التشريعية لتشرع قانونًا ، ومتى شرعته ، وجعلته قانونًا فهل سيقولون هذا لا يطبق إلا على الحالة التي بحثت ؟!! .

ففي هذا الكلام طعن في دين الله تعالى ، وكثير من التغابي وليس الغباء ، فيتغابى أصحاب هذا القول ؛ ليطعنوا على دين الله تعالى ، ويمرروا تحكيم الناس لغير شرع الله تبارك وتعالى .

وأيضًا مما يتمسكون به حديث تأبير النخل ، وهو حديث مشهور جدًا عند هؤلاء القوم ، فهم يريدون أن يبينوا أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لم يلزم الأمة بأحكامه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فماذا سيصنعون بالآيات التي ذكرناها والتي نتكلم فيها ، والأحاديث التي بينها النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في لزوم حكمه ؟ وقول عمر للذي قال للنبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  : « اعدل يا محمد » فقال عمر : « دعني أضرب عنق هذا المنافق » إلى غير هذا من النصوص ؟ .

الحاصل أنهم يتكلمون يحتجون حديث تأبير النخل والقصة مشهورة وصحيحة أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لما رآهم يأبرون النخل : « أظنكم لو تركتموه لأثمر » ففعلوا هذا فلم يخرج إلا بلح صغير جدًا فقال لهم :« أنتم أعلم بأمور ديناكم ».

كما ذكرنا أنه لم يحصل أبدًا من الصحابة بعد هذه الواقعة في حياته  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أو بعد مماته أن احتج أحد بهذه الواقعة على رد أمر من أمر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  بل امتثلوا جمعيًا أمر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، واعتبروه المرجع عند التحاكم وعند النزاع ، وغاية ما فيه أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  بين لهم فقال لهم  :« أظنكم لو تركتموه لأثمر » مع أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  بين أن هذا مجرد ظن إلا أنهم التزموه ، فهذا الدليل حجة عليهم لا لهم .

ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قال : « وأنا ألتزم أنه ما استدل مبطل على بدعته أو على باطله بدليل إلا وكان في عين هذا الدليل ما يرد عليه باطله » .

فهو  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  عندما قال لهم : « أظنكم » بين أن المسألة أنه ليست أمرًا شرعيًا ، ومع ذلك التزموا كلامه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، ثم بين النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فقال : « أنتم أعلم بأمور دنياكم » إذن فالأصل في كل ما تكلم فيه النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أنه من أمر الدين وأنه يجب اتباع سنته فيه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ولزوم حكمه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، فإن جاء دليل على أن هذا من أمور الدنيا ؛ فحينئذ يقال فيه أنتم : « أعلم بأمور ديناكم » .

فهذه القضية إنما قدرها الله تعالى ؛ ليعلم الناس أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  بشر يخطئ ويصيب ببشريته ، وإنما تأتيه العصمة من قبل الوحي .

فكان لا بد وأن يتكلم برأيه في مسائل ، ثم يظهر خطؤها قدرًا من الله  ـ عزوجل  ـ  حتى يحمى جناب التوحيد ، وليس لكي يهدم شرع النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، ويرد بذلك شريعته ، فهؤلاء لا يقيمون لدين الله  ـ عزوجل  ـ  وزنًا ولا يعرفون لشرع الله  ـ عزوجل  ـ  حرمته .

فكل ما قاله النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  من أمر الدنيا من الذي أخبره ؟ هل أمر تحريم الزنا وتحريم الفواحش من أمر الدنيا ؟ !! فلماذا علق الله  ـ عزوجل  ـ  عليه أنواع العقوبات في الدنيا والآخر ؟ !! . فالمسألة في غاية العجب ، فإنه سيجعل هذا من أمر الدنيا فهل أمر الدنيا عند هؤلاء هو التجارة أو الزراعة والصناعة أم أن أمر الأعراض أيضًا من أمر الدنيا ؟! ! أم أمر المعاملات التجارية التي ينشأ فيها أنواع من البغي والظلم والفساد من أمر الدنيا ؟!! فماذا يصنع مع قوله  ـ عزوجل  ـ  :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ فإن قال : إن هذا من أمر الدين ؛ سيسلم بعدها أن أمر الأعراض من أمر الدين ، وأمر الدماء من أمر الدين ، وأمر الأموال من أمر الدين .

إذن لم يبق مجال يطبق فيه حديث : « أنتم أعلم بأمور ديناكم » ، لكنهم يطبقون هذا الحديث على أن الأعراض من أمر الدنيا ، فنختار فيها نحفظ أعراضنا أم نجعلها حرية شخصية ، وأن الأموال من أمر الدنيا بكل تفاصيلها : ربا, ميسر ,قمار ، فكيف تجمع بين هذا وبين هذا الوعيد الشديد الذي أنزله الله تعالى على من خالف شرعه في هذه المواطن ؟ !! .

أيضًا من الشبهات التي تمسكوا بها :

قضية تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ، وهذه قضية سبق أن فصلناها أكثر من مرة لحاجتنا إليها من عدة جهات :

 أولًا :لحاجتنا إليها في فهم أقوال العلماء ، وفي نقل فتاوى العلماء ، وحاجتنا إليها في الرد على أهل البدع ، وذكرنا أن ملخص القضية أن هناك حكم شرعي  فيه تفصيلات واقعية ، فمثلًا يحرم أكل الميتة إلا لمضطر ، فهذا حكم شرعي ، ومسألة ما هي المذكاة وما هي الميتة ؟ هذا أيضًا حكم شرعي .

فهناك شروط معينة متى اجتمعت في الحيوان صار مذكى ، وإلا فهو ميتة ، ويكون مذكى حينما يقطع الأوداج ، ويكون الذابح مسلمًا أو كتابيًا ، ويذكر اسم الله ، فإن أردت أن تعرف هل الحيوان الذي أمامك ميتة أم مذكى ؟ فهذه مسألة واقعية ، فإنك تريد أن تبحث من الذي ذبحه ؟ وكيف ذبحه ؟ فستقول وقتها : هو ميتة أم مذكاة ، فإذا كان ميتة فإنه يحرم ، وإذا كان مذكى فإنه يحل .

فإذا كانت ميتة والإنسان مضطر فإنه يحل ؛ وإلا فيحرم ، ويسأل عن حال الإنسان هل هو مضطر أم لا ؟ وفي نهاية الأمر نقول لشخص : كُلْ منها ، ونقول للآخر : لا تأكلْ .

فهذه الفتوى التي تغيرت بتغير الظروف والملابسات وإسقاط الحكم الشرعي على الواقع المناسب له ، فهم يتكلمون عن تغيير الأحكام وتبديل شرع الله ، والرضا بغير حكم الله ، وعدم تحكيم النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فيما شجر بينهم ، فعليهم أن يسموا الأمور باسمها ، فليس هذا من باب تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان كما يزعمون .

ومسألة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان من أين أتوا بها ؟ من كلام الفقهاء  مع كونهم لا يعترفون بالفقهاء أصلًا ، وإذا كانوا قد اعترفوا بهم ، فهؤلاء الذين قالوا بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان هم الذين قالوا : أجمعت الأمة على حرمة الخمر ، ومن قال بحلها فهو كافر ، وأجمعت الأمة على حرمة الزنا ، ومن قال بحله فهو كافر ، وأجمعت الأمة على حرمة الربا وحرمة الميسر ، وأجمعت على لزوم الحدود ، فالذين علموك : تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان هم الذين علموك أن هذه أحكام ثابتة لا تتغير .

و ليس هناك أحكام تتغير بتغير الزمان والمكان ، ومن نافلة القول أن نشير إلى أن بعض الإسلاميين يقبل هذا المبدأ ، حينما يقول لهم أن اختلاف فقهاء الشريعة عندنا سنختار منه المناسب لحالنا ، وهذا نوع من التلاعب بالأحكام الشرعية ، فنحن نختار من اختلاف الفقهاء الموافق للدليل ، وقد يسع الخلاف في مسائل ، ولكن لا ننتقي من أقوال الفقهاء عند تغير الظروف , فهم يقولون : أدرج مع هؤلاء الفقهاء أقوال أهل الدنيا وانتقي منها هي الأخرى ، فليس هناك باب للقول بتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان أبدًا ، بل القول بتغير الفتوى .

فكل أحكام الحلال الحرام مقيدة بالمقدرة والاستطاعة ، وفيها مجال لإعمال الضرورة ، فأحيانًا تقول أن الضرورة هنا ليست موجودة ، فلا يشير أحد من العلماء مطلقًا إلى وجود ضرورة في المسألة ، ثم تنشأ ضرورة بعد ذلك ، فيبحث العلماء هذه الضرورة الجديدة التي طرأت ويقدرونها بقدرها وفق الضوابط الشرعية ، ولكن لا يصلح أن نقول أننا ننتقي من أقوال الفقهاء ما يناسب حال الزمان ، فهذا سيكون فيه نوع من تبديل الأحكام .

وأيضًا مما يستدلون به أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  قد حكم بين أهل الكتاب بشريعتهم فقال من الممكن أن نحكم بين أي أحد بالشريعة التي يرتضونها .. وسبحان الله ! ما أقبح هذا القياس ! هل يريدون أن ينزل المسلم نفسه منزلة أهل الكتاب ، فلو سلمنا جدلًا أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  حكم بين أهل الكتاب بشريعتهم ؛ إذن فيحكم بين أهل الإسلام بشريعتهم .

ومن أراد أن ينزل نفسه منزلة أهل الكتاب فالقضية واضحة فهو يريد أن يخرج من دين الله والعياذ بالله ، فما أبعد هذا القياس ومصادمته للأدلة الشرعية ؟! ناهيك أن الجمهور على أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لم يحكم بينهم بشريعتهم ، وإنما لو تحاكموا إلينا ؛ لوجب أن نحكم بينهم بشرع الله تعالى .

فدع هؤلاء ونتنهم ، ودع هؤلاء وعفنهم ، فلا تطالب أن يكون المسلم مثلهم ، فهؤلاء كفرهم الشرع ، وبين أنهم بدلوا شرع الله تعالى ، فلو افترضنا جدلًا أن في الشرع أن الله  ـ عزوجل  ـ  أمر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أن يحكم بين أهل الكتاب بشريعتهم ؛ لكان هذا تأكيدًا على أنها مع كونها شريعة فيها تحريف وتبديل ، إلا أنها أولى بالرجوع إليها من آراء الرجال .

وكان سبب الحكم بينهم بشريعتهم أنهم بدلوا لما تحاكموا إلى النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في قضية الزنا كيف يجورون على الأدلة الشرعية أعظم جور ، فهم بدلوا حكم الرجم إلى الجلد والتحميم ، فلما جاءوا إلى النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أمره الله أن يحكم بينهم بما أنزل الله ، وكان الحكم ما زال باقيًا في التوراة معهم الرجم ، فهل الله أمره أن يحيلهم إلى التوراة أيًا ما كانت ؟ ! أم لأن هذا الحكم خاصة كان ما زال موجودًا في التوراة ؟ .

وعلى أي حال فهذا استنكار على أنهم بدلوا وحرفوا ، وعدلوا عن الحكم الذي عندهم في التوراة إلى حكم استحسنوه بآرائهم ، فكفرهم الله تعالى ، وحكم بكفرهم وظلمهم وفسقهم ، وأمر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أن يحكم بينهم بما أراه الله ، أو أن يحكموا بما أنزل الله في كتبهم ، فكيف يقولون أن المسلم من الممكن أن يترك حكم الله تعالى ويعمل عمل اليهود ! وهذا بدليل هذه الواقعة !! فمن المؤكد أن من قال هذا فهو أعمى البصيرة ، ومع ذلك فهذه شبهات تقال وتردد والعياذ بالله .

أيضًا أحيانًا يتحدثون عن الوقعتين المشهورتين عن عمر  ـ رضي الله عنه ـ  وقد سبقت الإشارة إليهما مرات ، أن عمر  ـ رضي الله عنه ـ  عطل حد السرقة عام الرمادة ، ويبقى السؤال هل عطله مطلقًا ، وقال أن هذه وحشية ونحن نستبدله أم ماذا حدث ؟ فهذا دليل عليهم وهو أن يذكر في التاريخ أن هذا العام لم يقم فيه الحد ، ولو كانت المسألة يسيرة لما ذكر ت .

وبينا أن القضية أن عمر لم يعطل حد السرقة ، فهذا هو نموذج تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ، فالقضية أن الحكم ظل قائمًا أن السارق يقطع بشروط أن لا تكون له شبهة ، والسارق من مجاعة له شبهة ، فلم يقطع عمر  ـ رضي الله عنه ـ  في هذا العام لهذا السبب ، وليست القضية كما توهموا أنه عطل الحد .

من الممكن مثلًا في بعض بلاد المسلمين التي كانت تحت الحكم الروسي ، وهكذا يكون هناك فتوى عامة أن المسلم من الممكن أن يكتم إسلامه ، ومن الممكن أن لا يظهر اسمه الإسلامي ولا عقيدته الإسلامية ، فهل يقال عن هذه الفتوى أنها إباحة الكفر والعياذ بالله ؟ !! .. لا بالطبع .. فإنه ما زال أنه يجب أن يدخل الإنسان في دين الله ، وأن ينطق بالشهادتين ، وأن يظهر ذلك إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، فتعم البلوى في زمان معين وفي مكان معين بأن كل الناس يكون معهم رخصة ، وليس هذا إباحة للكفر كما أنه لو عمت البلوى في مكان معين بأن هناك معصية لا تكتمل أركان إقامة الحد فيها ، فيدرأ الحد بالشبهة .

وأيضًا مشهور ادعاءهم أن عمر  ـ رضي الله عنه ـ  عطل سهم المؤلفة قلوبهم ، وهذا أيضًا من الكذب على عمر  ـ رضي الله عنه ـ  فما زال القرآن يتلى بفضل الله  ـ عزوجل  ـ  لم يحصل فيه تحريف ولا تبديل ، وما زال أئمة الفقه من بعد عمر  ـ رضي الله عنه ـ  يذكرون هذا السهم في كتبهم ،  وهذا يصلح كمثال لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان .

فالذين يعطون من الزكاة كفار نرجوا تأليف قلوبهم  وهم مطاعون في أقوامهم  فنرجوا بتأليف قلوبهم مع كفرهم حتى وإن لم يسلموا أن يردوا أذى قومهم عن المسلمين ، ووقتها كان  الإسلام ظاهر بفضل الله  ـ عزوجل  ـ  فقال : « كنا نعطيهم لما كان في الإسلام ضعف » فهذا بيان لشروط الحكم ، فالمسألة متى يكون سهم المؤلفة قلوبهم ؟ « وأما إذ أعزنا الله فلا نعطيهم » فلو لم يجد الإمام فقراء أو لم يجد ابن سبيل مثلًا ، فابن السبيل يعطى زكاة ، أو قال أن الفقراء أولى في هذا العام ، وهذه المسألة ما زالت مبحوثة في كتب الفقه .

فحينما يجمع الإمام الزكاة هل يوزعها على الأفراد الثمانية ؟ أم من الممكن أن يقول هذا العام سنعطي كل الزكاة للفقراء لأجل مجاعة ونحوها ؟ والراجح أنه يجوز ، فهذا ليس تعطيلًا ، ولكنه تطبيق لحكم الله وفق شروطه ، فليس الأمر كما يزعمون والعياذ بالله .

 ومن ضمن دعواهم عدم لزوم الشريعة أن يكون في خياله أن الشريعة هي الحدود ، وينطلق من هذا الخيال المريض أن الشريعة ليست إلا الحدود ، وكما ذكرنا أن الآيات التي نزلت في تكفير من حكم بغير ما أنزل الله كانت في تغيير اليهود حد الرجم إلى حد الجلد والتحميم فلو كانت القضية قضية الحدود فالقضية خطيرة .

أيضًا فالقضية كانت حدًا واحدًا بدل إلى عقوبة أخرى خففت أو غيرت ، ولكن القضية ليست الحدود كما أشرنا ، فالقضية أن الإسلام منهج حياة ، والعالمانية منهج حياة  آخر ، فالمسألة أشمل مناقضة ومعاداة لدين الله تعالى في هذه الصورة المعاصرة .

وبعد أن كانت الشريعة عنده هي الحدود ، فنقول لو افترضنا جدلًا أنها كذلك فتبديل حد من حدود الله كفر, فيقولون : الحدود في دين الله تعالى مستحيلة التطبيق !! يقولون مثلًا : واقعة الزنا ، لا بد فيها من أربعة شهود يرون واقعة الزنا فرجه في فرجها كالمِرْوَط في المكحلة ، قال : وهذا مستحيل وبالتالي فكل هذه الزوبعة لا طائل من ورائها !! .

وهذا كفر مستقل أن يزعم أن دين الله  ـ عزوجل  ـ  عبث حيث  يقول أن في الشرع حد مستحيل التطبيق !! وهذا الذي يزعمونه عبث ينزه عنه آحاد الناس ، وقد ثبتت حالات يرى فيها الشهود ، وقد وجدت في عصر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، والزنا يثبت بغير الشهود ، فإنه يثبت بالاعتراف ، ثم إن الآن هناك زنا علني ليس في الشوارع والطرقات ، وإنما على شاشات الفضائيات تنقله ويشاهده ملايين البشر ، فمن أين أتوا بقولهم يستحيل أن يراه أربعة ؟ فهم لا يفقهون أن الشرع ، لما شرع الحدود شرعها كوسيلة زاجرة لمن جاهر بمعصيته .

إذن فحينما يرى الناس رجلًا فاجرًا ، وليس منه فائدة ، فإنه سيزني في الطريق العام ، وكما يحصل في كثير من طرقات المسلمين نسأل الله السلامة والعافية ، فسيكون في آخر الزمان من يزني علانية ، ولكن الذي يحصل الآن أنه من الممكن أن يقع زنا في طرق نائية ، أو زنا في أماكن مشهورة بالفسق والفجور .

فما هو الواجب على المسلم لما يجد شخصاً يزني ؟

إذا غلب على ظنه أن هذا الرجل يستجيب للموعظة فليعظه ، فلو كان يوعظ ثم يعود ، فهذا سيزني في الطرقات وسيشاهده الناس فيجترئون على الزنا ، فهذا يستدعي شهودًا أربعة يرونه على هذه الحالة فيشهدون عليه ، وهناك أشياء كثيرة مما ينكرونها موجودة في قانونهم الوضعي ، ولكنهم لا يفقهون فالقضية معاداة للدين ، فكثير من الجرائم تثبت بالشهود عندهم .

ففي النهاية أن أقصى درجة الإثبات إما الاعتراف - والاعتراف موجود في الشرع وفي القانون الوضعي - وإما أن تكون من شاهد له وضع قانوني مميز وهو الذي له ضبطية قضائية سواء كان جهاز الشرطة أو غيره .

فأعلى درجة ثبوت جريمة عندهم هو الشهادة ، ولكن الشهادة عنده : شهادة آحاد الناس وشهادة الموظفين الموكول لهم الشهادة ، فهم يثبتون الزنا عندهم  في أحوال هو مجرم عندهم فيها ، وهي أحوال تقاضي الأجرة !! إذن فمن الممكن أن تثبت الجرائم .

نفس القضية التي فيها أن الشرع أباح تعدد الزوجات ولكن علقه على العدل ، ثم بين استحالة العدل ، فهذا ينتج منه تحريم تعدد الزوجات ، فهذا كلام ينزه عنه قول آحاد البشر ، فإذا كان الشرع قد قال : « يباح بشرط » ثم نفى الشرط عن كل الناس ، فلا بد أن يكون المثبت غير المنفي ، وإلا يكون عبثًا .

فعدم استطاعة العدل بين الزوجات في الميل القلبي فقط ، هذا هو الذي من المستحيل أن يحصل ، ولكن في الشرع إن أردت أن تعدد ؛ فلتعدل ، واعلم أن قلبك سيميل أكثر إلى إحداهن ، فلا تجعل لهذا أثرًا في الظاهر ، فيستقيم الكلام بذلك ، أما أن يقال أنه علقه على شرط مستحيل ويبقى هذا حكم تشريعي لا يلتفت له إلا في القرن الرابع عشر الهجري .

فكل الأمة تذكر إباحة تعدد الزوجات بشرط العدل ، ويقولون هذا العدل في القسم والمبيت وكذا وكذا ، ثم بعد أربعة عشر قرنًا [ يخرج علينا ] من يكتشف أن هذه الآيات كانت عبثًا ولغوًا ، وأنها تتكلم عن شيء مستحيل الوقوع !!  فهذا كلام في غاية العجب .

فدعوى استحالة التطبيق مبنية أولًا على فساد في الاعتقاد وهو أن الشريعة ليس فيها إلا الحدود ، ثم إن كل الحدود ممكنة التطبيق ، وإلا لم يكن الله  ـ عزوجل  ـ  ينزلها في كتابه ، وإذا كانت مستحلية التطبيق فلما يرونها وحشية ؟ !! فتارة يقولون : الحدود وحشية !! وتارة يقولون : مستحيلة التطبيق !! فهذا كلام متناقض في حد ذاته كما ذكرنا .

كل هذه أنواع تلتقي في محصلة واحدة هي أن الشريعة غير لازمة ، ومن ضمن الكلام الذي يقولونه أن العبرة بروح الشريعة ، وهذا الكلام سفسطة والعياذ بالله ، يقصدون به أن الشريعة أتت من أجل تحقيق العدل ، وتحقيق المساواة ، فسواء حققنا هذا بالأحكام التفصيلية أو عدلنا إلى غيرها ، فنحن وقتئذ طبقنا روح الشريعة !! والعياذ بالله .  

وهؤلاء حكموا بغير ما أنزل الله كما ذكرنا ، ثم إن روح الشريعة شيء من اثنين :  إما أن تقول : إن الحكم الشرعي التفصيلي هو الذي يحقق هذه الروح المدعاة للشريعة ، أو أن الحكم الوضعي المبدل هو الذي يحقق هذه الروح ، أو أن أحدهم أكثر تحقيقًا لهذه الروح من الآخر ، فادعاء أنه يطبق روح الشريعة ، فلم لم تطبق روح الشريعة وعينها إلا إذا كنت ترى أن عين الشريعة غير صالحة ؟ !! فهذا أيضًا اتهام للشريعة والعياذ بالله ، وفوق هذا فإنه عدول عن اللزوم الشرعي الذي أَلْزَم المسلمين بتحقيق شرع الله تعالى .

فهذه قضية تكرر كثيرًا أن التشريع الوضعي مأخوذ من روح الشريعة ، فهل يليق بعاقل أن يقول أن هذا الكلام من عند الله ، وأن الله تعالى عليم حكيم خبير ، ثم يأتي له كلام تفصيلي فيرمي التفصيل ويأخذ الإجماليات ويتعب نفسه في مناقشات ومساجلات وأبحاث من أجل أن يأتي بتفصيل آخر ويقول : ليس هناك مشكلة ؟ !! .

فهذا بلا شك من العبث والجنون ، فلو أن هناك شخصًا ادعى أنه يؤمن بالشرع ، ويؤمن بأن أحكامه محكمة ، ثم يقول : قد تناسيت هذه الأحكام التفصيلية ، وكأن الشرع لم يأت إلا بالأحكام المجملة ، فيقر أن هناك تفصيل ويتركه دون مبرر ، فنسأله : ما المبرر ؟ !! قدم على الأقل مبررًا واحدًا  لتركك التفصيل ما دامت تؤمن بالشرع وتؤمن بالكتاب وتؤمن بالسنة ، فلو أن هناك باب من الأبواب اكتفى الشرع بالإجمال فيه مثل أبواب مصالحة الدنيا الذي نسميه : «  المصالح المرسلة » ، فطالما أن الشرع اكتفى بالإجمال وترك لك أمر الاجتهاد في التفاصيل ، ففيم الاجتهاد في تفاصيل جاءت مفصلة في الشرع إلا إذا كان الذي يفعل هذا لا يؤمن بدين الله تبارك وتعالى ولا يؤمن بشرع الله  ـ عزوجل  ـ  ؟!! .

ولعله يقرب من هذا ادعاؤهم أنه لا يلزم من الشريعة إلا ما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة !! وهذا كله هروب من الأحكام التفصيلية ، ولكن سيبقى أن كل ما يقولونه لن يروج إلا على الجهال ؛ لأن أكثر شيء ينفرون منه الحدود وأكثر شيء قطعي الثبوت وقطعي الدلالة هو الحدود ، فحد الزنا - وهم ينفرون منه غاية النفرة ؛ لأنه يتعارض مع القوانين الوضعية الغربية - هذا قطعي الثبوت قطعي الدلالة فماذا يفعلون فيه ؟ وكذلك حد السرقة قطعي الثبوت قطعي الدلالة .

إذن فمع هذا الادعاء لا يلتزمون به ، فيقولون : لن نطبق إلا الحد قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، يقولون قطعي الثبوت وقطعي الدلالة إجماليات فيها روح الشريعة ، إذن فروح الشريعة هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، والتفاصيل ليست قطعية ، ومن الممكن أن نتركها !! .

فهناك أشياء كثيرة مما يريدون تركها أو مما تركوه بالفعل قطعي الثبوت قطعي الدلالة مع الإشارة إلى أن هذه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ، وأنه لا يحل لأحد ثبت لديه قول الله  ـ عزوجل  ـ  أو قول رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أن يدعه لقول أحد من الناس ، فماذا لو كان القول هو محتمل الدلالة ؟! فماذا يفعل في كلام البشر ؟! وهل القوانين الوضعية ليست ظنية الدلالة ؟ إنها ظنية الدلالة جدًا من باب أولى ، ولذلك هل يقولون نلغي القانون ؟! كلا ، بل إما أن يجتهدوا في تفسيره وإما يطلبوا من المشرع والعياذ بالله - المجالس التشريعية - أن تكتب مذكرة تفسيرية للقانون لترفع الاحتمال الذي فيه ، وإما يوكله إلى فقهاء القانون كما يدعون لتفسير القانون أو يعطوا إحدى الهيئات القانونية حق تفسيره ، فوجود الظنية لا يعني الترك ، وهذا أمر في غاية الوضوح فطريًا .

وذكرنا قبل هذا مثالًا أبسط من هذا : رجل موظف في مكان ما يأتيه كلام من رئيسه هل لو كان الكلام محتملًا يلقي به عرض الحائط ؟ ولو كان محتملًا لاحتمالين أو ثلاثة هل يأتي بحل رابع مناقض للاحتمالات الثلاثة ؟ أم أنه يجب أن يختار من وسط هذه الاحتمالات ؟  فأن يأتي بحل رابع مما لا يقول به عاقل أبدًا .

ولذلك كما ذكرنا الإجابة المجملة على كل هؤلاء هو هل أنتم مسلمون ؟ فإذا كان غير مسلم فقد فرغنا منه ، أما المسلم فنقول له : يجب عليك أن تطيع أوامر ربك  ـ سبحانه وتعالى ـ  ، فهذا الكلام كله من الممكن أن يتكلم فيه الفقهاء في مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ، هل هذا الدليل قطعي الثبوت أم لا ؟ قطعي الدلالة أم لا ؟ لكن الروح العامة هي القضية المهمة : هل تتكلم انطلاقًا من أنك تريد أن تعرف أمر مولاك  ـ سبحانه وتعالى ـ  وترى لزومه ؟ أم تريد أن تتخلص منه ؟ فهذه القضية التي يجب أن يعيها هؤلاء .

وبالمناسبة هناك دعوى معينة تخرج أحيانًا تناشد القضاة أن يلتزموا بروح القانون !!  فهل دون نصوصه هل القانونيون يلتزمون بها ؟ أبدًا , فإنهم يقولون : هذا يهدم النظام القضائي ، فالرجوع لروح القانون هذا نوع من الاجتهاد عند عدم النص ، فقانونهم الوضعي معظم عندهم ، ولكن شريعة الله تعالى ليست معظمة .

وهذه قضية بديهية فإذا كنت ترى أن المصدر الذي يأتيك منه هذا الكلام مصدر تجب طاعته ، فستجتهد أن تفسر الكلام إذا محتملًا على أقرب الاحتمالات ، أو على الأقل لن تخرج خارج كل هذه الاحتمالات تمامًا بدعوى احتماله ، وهذه قضية مهمة جدًا .

فدعوى أن العبرة روح الشريعة إذن فالشريعة مطبقة !! وهذه دعوى أخرى تقال ، فالشريعة مطبقة في كل أنحاء بلاد المسلمين ؛ لأن العبرة روح الشريعة ، وروح الشريعة هي العدل والعدل هو الرجوع إلى الأمة !! .

إذن فالذين يقولون أن الزنا حلال مطلقًا طبقوا روح الشريعة !! ، والذين يقولون أنه مجرم في مواطن أيضًا قد طبقوا روح الشريعة !! والذين يقولون تعدد الزوجات بشرط موافقة الزوجة الأولى فهؤلاء أيضًا قد طبقوا روح الشريعة !! والذين يجعلون الزواج بالزوجة الثانية أشد جرمًا من الزنا هؤلاء قد طبقوا روح الشريعة !! وهكذا لأن كل مشرع لقانون يدعي أن فيه العدل ، وروح الشريعة عند هؤلاء هي العدل !! .

إذن فكل ما يقوله البشر هو من روح الشريعة والعياذ بالله ، فهذا من الطعن في دين الله ، ومن التحايل على دين الله تبارك وتعالى .

ويقولون هي مطبقة بالفعل ؛ لأننا طبقنا روح الشريعة أو مطبقة حرفيًا بنسبة 95 % !! ولا أدري من أين أتت هذه النسبة ؟! فهي نسبة في غاية العجب وأحيانًا يجعلونها 99% !! ولعل العصر تغير ونسب التسعينات عمومًا أصبحت غير مناسبة ، فمن الممكن الآن أن يقولوا أنها مطبقة في الثمانينات فمن الممكن مسايرةً لروح العصر أن تكون مطبقة بنسبة 88% ، ونحن لا نتكلم في نسب ، فالقضية قضية عبودية ، والعبد لا يجاوز مقامه ولا يطغى ، ولا يصير من الطواغيت الذين يجاوزون حدودهم سواء في مسألة أو في أكثر ، فنحن لا نتكلم على نسب وإنما نتكلم على مبدأ لزوم دين الله تعالى في جميع شؤون الحياة .

مسألة أخرى وهي حينما سقطت الخلافة العثمانية بدأت دعاوى كثيرة لإعادة الخلافة ، فجاء الغرب وهو لا يريد أن تقوم الخلافة مرة أخرى واتخذ صنائع وأذنابًا رددوا أن الإسلام لم يشترط الخلافة ، ولم يجعلها نظام حكم ثابت ، وأن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  كان بين الناس نبيًا لا حكمًا !! وهذا من أبطل الباطل والله تعالى قال : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ وبين النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فقال : « إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر أخطئ وأصيب» فلو قال معنى أخطئ وأصيب أن ذلك في الشرع فهذا كفر والعياذ بالله ، وإنما يخطئ ويصيب في القضاء أي : في تطبيق الحكم الشرعي على الواقع .

وقال  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  :« ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر» فهذا دليل أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  كان قاضيًا يقضي بين الناس فوق كونه مشرعًا ، فهذا مقام وهذا مقام ، وكان حاكمًا عامًا .

وما هي وظائف الحاكم العام ؟

فعندنا نحن إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين ، وعندهم هم وظيفته توفير حاجات شعب أو نحو هذا ، وعلى تعريفهم فإن هذا  مما كان النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  يقوم به فكان يبرم الاتفاقيات فلماذا يأتون على المعاهدات ويقولون أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أبرم معاهدة مع اليهود ؟ !! فهذا بأي صفة ؟ وأبرم معاهدة مؤقتة مع المشركين بأي صفة ؟! وأمر بالقاتل في موطن والإمساك في مواطن بأي صفة ؟ وفدى الأسرى بأي صفة ؟

قالوا إن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لم يكن حاكمًا !! ، بل كان حاكمًا عامًا على الأمة ، وكان قاضيًا فيها ، فلما قبض  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أجمعت الأمة على أن لا بد له من خليفة ، فلو لم يكن هناك منصب غير منصب النبوة - وهناك إجماع أنه لا نبوة بعد النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ - فلو لم يكن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  يشغل منصبًا آخر أو وظيفة أخرى غير وظيفة النبوة ، ففيم كان اجتماع الصحابة ؟!! فقد تركوا تغسيله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  إلى أن يحددوا من الذي سيخلفه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  .

وقد ادعى على عبد الرزاق في كتابه « الإسلام وأصول الحكم » أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لم يكن حاكمًا وإنما كان نبيًا فقط !! والمعاهدات والحروب والسلم والحرب هذا كله عنده لا قيمة له ، وقال : إن الخلافة بعده اجتهاد بشري معصوم لأن إجماع الصحابة حجة عندنا هذا لو افترضنا جدلًا أن هذا اجتهاد بشري ، ثم يقول : وتغيرت الظروف فتولى أبو بكر  ـ رضي الله عنه ـ  ببيعة الخاصة ، وتولى عمر تولى بالعهد ، وهذا يدل على أن الأمر متروك للاجتهاد !! ولكن يبقى أن هناك أصلًا متفق عليه أنه لا بد للمسلمين من خليفة .

فنزع الأزهر درجة العالمية من علي عبد الرزاق بعد إصداره كتاب « الإسلام وأصول الحكم » لمخالفته إجماع المسلمين ، ويقولون الأزهر وقتها كان يسيطر عليه المتطرفون !! وهكذا حينما كفر الأزهر رواية  « أولاد حارتنا » كان يسيطر عليه متطرفون ، وحينما كفر ناصر أبو زيد كانوا  متطرفين ، وحينما يسحب العالمية من علي عبد الرازق متطرفون ، وكذلك كتاب « الشعر الجاهلي » لطه حسين ، فمتى كانت مرحلة الاعتدال في الأزهر بالضبط ؟هل هناك حقبة تاريخية الأزهر كان فيها معتدلًا أم أن كل تاريخه تطرف ؟ .

فنحن نتكلم من حين سقوط الدولة العثمانية إلى أمر منذ سنوات ، أم أن المسألة عندهم لا اتباع لا لكتاب ولا لسنة ولا حتى الهيئات العلمية التي رفعوها فوق الرؤوس ، فيدعون - زورًا وبهتانًا- أن هذه مرجعيتهم ، ولكن مرجعيتهم هي العالمانية التي تفصل الدين عن الحياة ، لكن حينما تقول شيئًا ، ويجد عند هؤلاء أمرًا أيسر منها ، يقولون هؤلاء الذين نرجع لهم في الفتوى .

فالقضية هنا ليست قضية مناقشة كتاب « الإسلام وأصول الحكم » ؛ لأن هذه قضية جزئية ، فالإسلام الذي  يدعيه على عبد الرزاق مع مخالفته للإجماع أنه يدعي أن الإسلام لم يعمل آلية خاصة لإفراز الحاكم ، وبالتالي سنجعل خليفة عام مثل الخلافة العثمانية ليس هناك مشكلة ، سنعمل إمارات ليس هناك مشكلة أيضًا ، فهذا الذي يدعيه ، فما علاقة هذا بلزوم تطبيق الإسلام في جميع مناحي الحياة حتى القضائية منها ؟! .

فهو سيبدأ يحصر الكلام في الدعوة إلى تطبيق الشريعة في جزئية صغيرة جدًا ، وهذه الجزئية الصغيرة ليست من الإسلام ، فالحدود غير ممكنة التطبيق ، أو وجود حاكم وانتبه أن هناك فرق كبير بين آلية إفراز ، وبين أن نقول لزوم تطبيق الشريعة مع أن لزوم وجود حاكم ، والأصل أن يكون خليفة واحدًا لجميع المسلمين هذه قضايا مجمع عليها ، ولكن الطعن فيها لن يعطيهم حقًا أن يطعنوا على لزوم الشريعة ابتداء ولزومها في جميع مناحي الحياة ، فليس هناك تلازم بين القضيتين مع أن ما ادعوه هم من عدم وجود إجماع أو أدلة تدل على وجوب نصب الخليفة من الباطل الذي شهد الأزهر به في بعض مراحله .

ملخص هذه الشبهات أنها تريد أن ترمي إلى جزئية واحدة وهي أن الدين لم ينزل بشريعة ، أو أن شريعته ليست ملزمة ، بعدة طرق يمكن أن يصلوا إليها ، وهذا من الكفر ونحن نؤكد دائمًا على أن لمسألة تكفير المعين شروط لكن هذا القول من الكفر لمصادمته للمعلوم من الدين بالضرورة كما سبق بيانه .

هذا الكلام الذي نذكره بعد سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن كان هذا الكلام على أشده وبدرجة عالية جدًا يكرر الكلام الذي فيه أنه يجب على المسلمين أن ينسوا قضية أن هناك شريعة يجب أن تطبق ولكن بفضل الله تعالى صار الأمر في طريق غير ما حسب هؤلاء وانتشرت الصحوة الإسلامية .

وصار أصل تطبيق الشريعة معلومًا في أوساط المسلمين ينادون به ويسعون إليه ، فوضعت أنواع العراقيل أمام تطبيق الشريعة وهي دعاوى عدم إمكان تطبيق الشريعة ، فبعضها  دعاوى فيقولون : إنه مستحيل لو أن شخصًا ممكن في الدنيا بأسرها - فليس هناك قوى عالمية تضغط عليه ولا غير هذا - وأراد أن يطبق الشريعة فلن يستطيع - في زعمهم - ويقولون أن ذلك يرجع لأسباب :

أولها : اختلاف الفقهاء والمذاهب ، وفي هذه الحالة يستدعون الصراعات المذهبية ويدخلون الدروز والنصيرية والعلويين والإسماعيلية والشيعة وكذا وكذا ، وكل هؤلاء يدخلونهم في القضية ، ويقولون اختاروا لنا شيئًا من هذا أي إسلام تريدون أن تطبقوه ؟ ! ! . فنقول للمتكلم : من أي خندق تتكلم ؟ ! فإذا كان يتكلم من خندق الكفر ، فلا شأن له بنا نحن المسلمين ، وإن كان مسلمًا نقول له : أنت حينما أصبحت مسلمًا اخترت إسلام الشيعة أم إسلام الإسماعيلية أم إسلام النصيرية ؟ مع أن الإسماعيلية والنصيرية والدروز خارجين عن الملة ، أم ماذا اخترت لنفسك ؟ ! .

فالمسألة ليست مسألة تطبيق الشريعة فقط ، فإنه لو ادعى ذلك فستكون القضية الدخول في دين الله ابتداء ، فستكون القضية يستشكل عليها هذا الأمر ، فنقول له كما أنك عرض عليك كثيرًا من العقائد التي تنتسب إلى الإسلام ، فاخترت منها ، أو على الأقل استبعدت منها ، فهو يدعي أنه مسلم ، ويستبعد من كل هؤلاء الذي ينادون بتطبيق الشريعة فنقول له : قد أخذت منهم موقفًا ؟ فإذا كان المناظر لنا يناظر ويدعي أنه لا يمكن تطبيق الشريعة من أجل هذه الشبهة ، فنقول له : أنت على الأقل في هذه القضية التي نتكلم فيها أخذت فيها موقفًا ، إذن فيمكنك أن تتخذ موقفا في باقي القضايا .

وقد قلتم في قوانينكم الوضعية أن قوانين الأحوال الشخصية تؤخذ من الشريعة الإسلامية فماذا عملتم رغم وجود نصيرية ووجود شيعة وغيرهم ؟من المؤكد أنه كان لها حل وإن كنا لا نقرر أن الحل الذي قدموه حلًا صحيحًا في ذاته ولكننا ننبه على الفرق بين من هو حريص فعليًا على التطبيق وبين من يضع العراقيل .

فالقانون الوضعي عندهم قانون ملزم فحينما يقول له هنا : ارجع للشريعة ، لا بد أن يجد حلًا كيف سيرجع للشريعة رغم وجود الاختلافات ؟!! ومع ذلك فالاختلاف سنة كونية بمعنى هم سينحون الإسلام جانبًا فماذا سيطبقون في الاقتصاد الاشتراكية ؟ أم الرأس مالية ؟ أم مزيجًا بينهما ؟ !! .

وحينما يتكلمون عن الاشتراكية ، ففي أي اشتراكية سيتكلمون اشتراكية روسيا ؟ أم اشتراكية الصين ؟ أم الاشتراكية القومية العربية ؟ أم اشتراكية عدم الانحياز ؟ وداخل كل قضية منها آلاف القضايا .

إذن فدعوى وجود اختلاف لا يمنع وجود أيدلوجية عامة يتم الاتفاق عليها كمبدأ ، فحينما يتكلمون ويقولون : سنتبنى سياسة الاشتراكية في الاقتصاد ، أو سياسة الاقتصاد الحر ، فهذه أيدلوجية فيها ثوابت وفيها متغيرات ، فيأتي في المتغيرات ويناقشها جزئيًا إلى أن ينتهي قانون يكون ملزمًا للناس ، إذن فالاختلاف بين المذاهب الإسلامية لن يكون معوقًا لتطبيق الشريعة بفضل الله تعالى .

فالقضية ما هي آلية التعامل مع الخلاف ؟ فهذا موضوع سابق لأوانه أن نتكلم فيه  مع هؤلاء ، فنحن فقط نقول لهذا : عندك آليات جاهزة للتعامل مع كل الخلافات ولكن أنت تعرقل فقط وتدعي شبهات في وجه تطبيق الشريعة ، ولكن إذا كان الكلام على من هم حريصين جدًا على تطبيق الشريعة ، فلدينا آلية لحل الخلاف سبق بيانها في غير هذه المناسبة .

أيضًا قد يدعون - من ضمن الدعاوى التي هي من باب وضع العراقيل - فيقولون : الشريعة غير ممكنة التطبيق أو يقول أن الدعاة إلى تطبيق الشريعة لا يمتلكون برامج عملية لتطبيقها !! فليس عندهم قوانين مقننة ، وليس عندهم سياسات واضحة ، وهذا الكلام يقال ، وقد كان هذا حصل في إحدى المناظرات التي كانت اشتهرت بين الإسلام والعالمانية ، وقلنا : إن هذه المناظرة خطيرة ؛ لأنها كانت بين عالمانيين صرف ، وبين إسلاميين متعلمنين ،  فكانت المناظرة بين الغزالي والهضيبي والعوَّا ، وكانوا سيمثلون فيها الإسلاميين في مقابل فرج فودة وأذنابه .

فكانت أحد الشبهات التي أثارها فرج فودة أن قال لهم : أنتم لا تمتلكون برامج عملية ، فكان الرد عليه : ضع لنا أنت هذه البرامج !! ، فهذا الرد في حد ذاته رد سيئ بهذه الصيغة لأننا كيف نأتي برجل لا يؤمن بالإسلام ولا يؤمن بلزوم شريعته ، ونقول له : ضع لنا أنت البرامج !! ولكن كان يمكن أن تقال الصيغة كالآتي : من أي خندق تتكلم ؟ وهل مسلم أو ليست بمسلم؟ فإذا كنت مسلمًا يلزمك تطبيق الشريعة ، فلسنا نحن فقط المطالبين بوضع البرامج .

وإذا كانت المسألة مسألة برامج فأنت أيضًا مدعو بحكم إسلامك أن تشارك في هذا وإذا كان هناك تقصير في وضع البرامج ، فأنت من جملة هؤلاء المقصرين لا أن يطعن في الشريعة بزعم عدم وجود برامج .

وبالنسبة لمسألة تقنين الشريعة كما ذكرنا من الذي قال بلزوم تقنين الشريعة ؟!! هل نحن أمة مبتوتة الأصل ليس لها تاريخ ليس لنا واقع كان موجودًا في النظام ، فقد كانت دولة الإسلام إدارة دولة مترامية الأطراف ؟ يقولون : كان ذلك قديمًا ! وبالعكس فقديمًا كان لا يوجد وسائل مواصلات حديثة ، ومع ذلك كانت دولة قوية فتية .

فإذا كان عندنا نظام موجود منه ما هو من الثوابت ومنه ما هو من اجتهاد أسلافنا فلماذا نضيعه ؟ نحن نحيلهم ونقول لهم : هل الأمة الإسلامية وجدت هكذا فجأة يعني أمة لقيطة ؟ أم أنها أمة لها تاريخ إ؟ إذا كانت أمة لها تاريخ فلا تقولون لنا الآن : أين حلولكم العملية ؟ ، بالعكس بل نقول لهم نحن : أين حلولكم العملية ؟ نحن أمة ظلت الشريعة مطبقة فيها إلى عهد قريب جدًا ، وظلت الحكومة الإسلامية كخلافة إسلامية موجودة وظلت راية الإسلام مرفوعة .

إذن فلا تطالبني الآن بحلول عملية ، فنحن واقع موجود ، وهؤلاء العالمانيون وأذنابهم هم الذين لا واقع لهم ، ولا تاريخ لهم إلا عند غيرنا ، فالعالمانية جسم غريب على الأمة لا ماضي لهم في هذه الأمة ، فكيف يطالبوننا نحن ببرامج عملية ؟ !! فلذلك لكي يغلق علينا دائمًا هذه السكة ، وهذه إحدى الدعاوى يقولون : الشريعة التي تدعون إليها لم تطبق في التاريخ !! فلماذا تريدون أن تدعون إليها ؟ !! والذي يجد منهم أن هذه مغالطة تاريخية يقول : لم تطبق إلا في عصر الخلفاء الراشدين ؟ !! وما المشكلة في ذلك ، وهذا إن جاريناهم في الكلام .

إذن فقد طبقت ، فنحن نريد عهد الخلفاء الراشدين مع أننا لا نطمع إلى هذه الدرجة فنحن أدرى بما ندعو إليه فهم يدعون العالمانية ويعرفونها ، فنحن ندعوا إلى الإسلام ونقول : إن الإسلام هو الذي طبق في عهد الخلفاء الراشدين ، وفي عهد الدولة الأموية ، وفي عهد الدولة العباسية ، وفي عهد العثمانيين ، فهذا هو الإسلام الذي ندعوا إليه .

ونحن لا نطمع لهذه الصورة المثالية لكن أين أن الإسلام لم يكن مطبقًا عبر تاريخ الأمة ؟ ونحن حينما نقيم تاريخ الأمة نقول : إن هذه الانحرافات انحرافات خطيرة ، وهي التي أدت بنا إلى هذا الحال ، ولكن حينما نتكلم عن ميزانه فنقول : كان الإسلام مطبقًا ، وكانت راية الإسلام مرفوعة ، ومن أين كان القضاة يتخرجون من جامعة السوربون في فرنسا ؟ !! أم كانوا يتخرجون من المساجد ؟ وحينما تأتيهم قضية هل كان عندهم قضاء في ذهنهم أم أن كل واحد منهم كان يخترع ؟ !! .

محال أن يقول أن هذه البلاد المترامية الأطراف لم يكن لها إدارة ، فهذا هو الذي ندعوا إليه ، فقد كانت أمة تجاهد وتقاتل ،  تسالم أحيانًا وتحارب أحيانًا ، فكان هناك أمة ، وكانت رايتها الإسلام ، وكان منهجها دين الله تبارك وتعالى ، إذن فهذا واقع يفرض نفسه في التاريخ ، فهم الذين لا تاريخ لهم .

وقد يستدرج بعض الإسلاميين ليتكلم في برامج علمية ، فيقول: نحن كان عندنا قانون لتقنين الشريعة ، سنحاول الرجوع له ، وعندنا مشروع دستور إسلامي نريد الرجوع له ، فما القضية ؟ الدستور يمثل المرجعيات العليا لأي نظام ، حتى مرجعيتنا العليا ما زلنا نريد أن نصنعها ؟ فحينما نقول لهم : نحن عندنا مشروع دستور إسلامي ، فنحن نجعل أنفسنا بمنزلة طفل يحبو وينافس رجلًا بالغًا ناضجًا ، فليست القضية كذلك بالمرة ، بل ثوابتنا معروفة وموجودة في تراثنا كما ذكرنا .

وبالنسبة لقضية التقنين فاختيار الأمة عبر تاريخها عدم التقنين ، فلماذا يلزمونا بإجراءات غيرنا ؟ !! إن كان غيرنا قنن ، فعندنا نحن شيء حي , شخص عنده جماد وشخص عنده مادة حية أفتجبرني أن أنزل إلى مستوى الجماد ؟ !! نعم هناك دول غربية اختارت عدم كتابة الدستور ، فقالوا إن المرجعيات العليا لثقافتهم موجودة فلا يحتاجون أن يكتبوا دستورًا ، فلماذا نحن طالما لم نكتبه على هيئة مواد يقال : أين برامجكم العملية ؟ فادعاء عدم إمكان التطبيق لعدم وجود برامج عملية [ باطل ] ، فإن كان صاحب هذا الاعتراض مسلمًا فنقول إذن لو افترضنا جدلًا أن أمة الإسلام كلها تفتقد البرامج العملية فأين جهودك في إقرارها ؟ !! وهذا فرض ليس في محله فالبرامج العملية موجودة ؛ لأننا أمة لنا تاريخ ، وهو يريد أن ينفي هذا التاريخ ، فكيف كان  تاريخ الأمة خلال ألف وخمسمائة سنة ؟ .

يقول : هذا نظام وضعي كأي نظام وضعي ، وهذا الذي يقوله كذب على التاريخ ؛ لأن راية الإسلام كانت مرفوعة على الأقل ، وكانت مرجعية الأمة أن اسمها خلافة إسلامية والعجيب في كتب التاريخ يقولون أن الاحتلال العثماني لمصر استمر قرابة ثلاثمائة سنة ، ولم يقم عبر هذا التاريخ إلا عدد من الثورات كانوا يعدونها أربعة وأكبر واحدة فيهم ثورة قرية كذا في محافظة كذا على أحد ولاتهم ؛ لأنه ضرب رجلًا بغير حق ! فهل هذه ثورة ؟ !! فعندنا إذن في اليوم بمعدل عشرين ألف ثورة !

يقولون ثلاثمائة سنة لم يحصل فيهن غير أربع أو خمس ثورات ، وأسباب ذلك أن اعتقاد المصريين أن الخلافة العثمانية خلافة إسلامية يجب طاعتها ديانة ، فأين الديمقراطية ؟ وأين حكم الأغلبية ؟ فالناس موافقة وراضية ومقتنعة ومعتقدة ، ولكن أيضًا اسمه احتلال !! وبحثوا أنهم قاموا بثورات ، إذن كان اسمها خلافة إسلامية .

وكانت الناس تدين لها بالولاء في وقت كانت فيه في غاية الضعف يعني ليس لها قوة ثم يقولون : لم تكن موجودة !! فهذه مغالطات تاريخية لا يمكن أن يقولها إلا جاحد ، ويقولون : عدم إمكان التطبيق سواء لادعاء اختلاف الفقهاء ، أو ادعاء افتقاد البرامج ، أو أنها لم تطبق عبر التاريخ ، وهذه يقولها كي لا نقول له برامجنا موجودة في تاريخنا ، لو كان السؤال عن البرامج .

ويأتي آخرون فيقولون : الشريعة لازمة وحسنة وكذا وهناك تشريع طبق عبر التاريخ ، ولكنه طبق من قديم الزمان قبل النظام العالمي الجديد وقبل وجود الهيئات العالمية ، فالآن صار مبدأ العالمانية مبدأ عالميًا يجب فرضه ، ومبدأ الدولة القومية بديلًا عن الدولة الجامعة لا سيما إن كانت دينية إسلامية ، وهذا من ضمن ثوابت النظام الجديد ، وحقوق الأقليات التي تتعارض مع شرع الله تعالى في تعامله مع أهل الذمة.

وبالنسبة لمسألة ميثاق حقوق الإنسان وأنه نص على حقوق معينة معارضة للشرع ، فهناك أناس أحيانًا تتكلم كلامًا مشتملًا على مجازفات كثيرة ، وقد يكون البعض صريحًا ، ويواجه مواجهة مباشرة ، فيقولون : في دين الإسلام مشاكل وحينما تطبقونه هل ستطبقونه كله ؟ أم ستستثنون منه ما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان ؟ وما يتعارض مع مبدأ فصل الدين عن الدولة ؟ وهل ستطمحون إلى إقامة خلافة إسلامية أم لن تطمحوا ؟ وماذا سيكون موقف الأقليات غير المسلمة في الدولة المسلمة لا سيما مع وجود نصوص واضحة وصريحة وقطعية الثبوت وقطعية الدلالة فالجزية مذكورة في القرآن ومجمع عليها بين العلماء ؟ .

يقولون : هذه مشاكل موجودة ، فاختاروا منذ البداية ماذا ستفعلون في هذه القضايا  ما دامت تنوون تطبيق الشريعة ؟ !! ولكي يسمح بالعمل السياسي لبعض الاتجاهات الإسلامية التي تتبنى العمل السياسي فمطلوب منها مسبقًا أن ترد على هذا الكلام ، وحقوق الإنسان تشمل حرية الكفر وحرية الفكر ، ولذلك زاروا نجيب محفوظ كما أشرنا في أول الكلام ، فللإسلاميين تاريخ أسود في عرف هؤلاء في مصادرة الفكر ، فلا بد أن يتوبوا إلى النظام العالمي من مصادرة الفكر  فيزور أئمة الكفر وأئمة الزندقة ويعتذر عن ماضيه الأسود في محاربة الفكر ومحاربة حرية الرأي !! .

وهذه هي أصرح اعتراضات تقال ، ونحن نعترف بوجود إشكال ، ولكن عند من يريد الجمع بين طاعة الله وطاعة النظام العالمي الجديد ، ونحن حينما نقول تطبيق الشريعة لا نقول طاعة نظام عالمي جديد ولا قديم ، وإن كنا نقول أنه لا يجب على المستضعف ما يجب على الممكن ، فلا نبدل الشرع ولا نتركه ولكن إذا عجزنا عن شيء منه عذرنا فيه إلى أن يأذن الله تعالى .

إذن هذه هي المبادئ التي صارت مقررة عند هؤلاء القوم ونقول لهم : هذه المبادئ مخالفة لدين الله تعالى ، والخروج عنها عند هؤلاء إن كان يستوجب الذم والعقاب ، فهذا لن يدفعنا إلى أن نغير دين الله تعالى ، وإلا فلو كانت هذه هي الطريقة [ للتمكين للدين ] لحرف الدين منذ اليوم الأول ، فما الذي كان المشركون يريدونه من النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  إلا شيئًا من الاعتراف بآلهتهم ، أو حتى السكوت عنها .

ونحن لا نملك أن نبدل شيئًا من دين الله تعالى ، ومسألة الضعف والعجز مسألة أخرى غير مسألة التبديل الأحكام ، فلا يبد الأحكام ثم ويقول أنه مستضعف ، فماذا ستفعل وقت أن تصوب الكلام ؟ هل ستعترف أنك كنت تكذب على الله ـ سبحانه وتعالى ـ  ؟ فتقول مثلًا : إن الجزية مسألة تاريخية وسقطت ؟ ومن الذي أعطاك حق إسقاطها ؟ وما هو الدليل ؟ وهل ستجرؤ في يوم من الأيام أن تطالب بها ؟ !! .

يقول بالنسبة لمسألة حرية الرأي في الإسلام ، فالإسلام لم يصادر رأيًا ، فإن كان  كذلك فما يسمى تكفيره لأئمة الكفر ؟ .

فجزيرة العرب ناهيك عن العالم كله قبل بعثه النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  كان فيها توحيد وفيها شرك ويتعايشون تعايشًا سلميًا نتيجة أن أهل التوحيد في ذلك الوقت كفوا عن الدعوة إلى توحيدهم وقنعوا فقط بأن يكملوا حياتهم موحدين لما أوذوا وابتلوا ، ولم يكن هناك إشكال موجود ، فقد كان ورقة بن نوفل موجودًا في مكة .

وبالنسبة لموقف الإسلاميين من رفض الآخر ، فالإسلام يرفض الآخر هذه قضية لا تقبل المساومة ، فعنوان الإسلام رفض الآخر : «لا إله إلا الله » لا معبود بحق إلا الله ، ولاء وبراء ، نفي وإثبات ، فهذه قضية لا يستطيع أحد أن يغير فيها .

فيقول البعض : هذه الأشياء ستمنع من تطبيق الشريعة ، فنقول لهذا : من أي خندق تتكلم ؟ فالمسلم لا بد أن يبحث هل عذره الله تعالى في تأخير تطبيق شيء من هذا أم لا ؟ وهل إذا أخر التطبيق عذره الله تعالى في أن يقول على الله ما لم ينزل الله تعالى به سلطانًا ؟  هذه هي أهم القضايا التي يمكن ذكرها .

أيضًا مما يذكرونه وهذه القضية يمكن إدراجها تحت النقاط الثلاث التي ذكرنها : فهناك أناس يقولون الشريعة غير لازمة أصلًا ، وهناك أناس يقولون الشريعة غير ممكنة التطبيق في كل الأزمنة إلا زمن الخلفاء الراشدين ، أو قد يستثنون وقد لا يستثنون ، فهناك من يقول : هناك مشاكل عصرية لو طبقت الشريعة ستصطدم بالنظام العالمي ، وتصطدم بكذا وكذا .

فالقضية التي يكررونها كثيرًا : - وكما ذكرنا إن شئت أدرجتها تحت أي بند من هذه الأقسام - ادعاء جمود الشريعة ، فيقولون أن هذه الشريعة نزلت من ألف وأربعمائة سنة ، وهنا مسألة خطيرة جدًا وهو أنه يصور أننا ندعوا إلى اتباع الأئمة الأربعة !! .

وأحيانًا يكون عند الإنسان  نقطة ضعف شديدة فلا يواجه قول الخصم ، وإنما ينحل إلى الخصم قولًا ويكون أقدر على مواجهته ، فأنت تقول له : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ فلم تقل : من لم يحكم بما قاله أبو حنيفة ، أو بما قاله مالك ، أو بما قاله الشافعي ، أو بما قاله أحمد ، لكن القضية هنا كيف ينسب نفسه إلى الإسلام ، ثم يطعن في حكم الله هكذا صراحة فيقول : الذي كتب الشريعة فقهاء أربعة ؟ !! كما قالت هذه المرأة الماجنة : فقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام !! .

من الممكن أن يقول شخص صراحة : عصر الظلام ، ومن الممكن أن يقول شخص : القرون الوسطى ، والقرون الوسطى كانت أصلًا عند الكفار قرونًا مظلمة ، وكانت هي أفضل قرون المسلمين بفضل الله تعالى .

يقولون كيف نخضع لهؤلاء فهؤلاء وهم لم يشاهدوا الاختراعات الحديثة ، ولم يشاهدوا كذا ، ولم يشاهدوا كذا ، فالقضية هنا أننا نتكلم عن حكم الله تعالى لا عن مذهب من المذاهب ، إذن فالذي يريد أن يتكلم نقول له : اعرف حقيقة قولك ، واعرف لوازم قولك ، فأنت الآن تدعي أن الشريعة لا تساير العصر إذن الله تعالى حين أنزل هذه الشريعة وجعلها هي الشريعة الخاتمة وهي اللازمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، أكان في علم الله ما سيستجد من حوادث أم لم يكن ؟ ! فإن كان في علمه وأنزل هذه الشريعة وهي - في زعمك - غير صالحة ، فهل هذا يليق بالله تعالى ؟ !! وإن قال : إنه لم يكن يعلم فهذا أظهر في الكفر والخروج من دين الله تعالى ؟ !! .

ولو أنه أنصف ورجع إلى دين الله تعالى وإلى كلام هؤلاء الفقهاء الذين يظنهم هو وأمثاله أنهم ولدوا في عصور الظلام ، لو رجع لوجد الإمام الشافعي / صنف لنا في علم أصول الفقه لكي يخدم هذه القضية أنه ستأتي نوازل وسيكون ثَم مجتهدون وسيحتاجون إلى طرق في الاجتهاد وطرق في الاستنباط ، وكيف يفهمون من النص أمور غير الأمور الواضحة الظاهرة منه ، وكيف يلحقون الأصول بالفروع ، فهو علم لو درسوه - والله - لخجلوا على الأقل إن لم يؤمنوا بدين الله تعالى ، فإنهم سيخجلون من أن يكرروا هذا الكلام .

 فشريعة الله  ـ عزوجل  ـ  صالحة في كل زمان ومكان ؛ بدليل يسير جدًا وهو علم الله وحكمته ، فالإيمان بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، يساوي الإيمان بالله ، والكفر بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان يساوي الكفر بالله ؛ لأنه باختصار ﴿  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : 14 ] .

فالله  ـ عزوجل  ـ  يعلم ما خلق  ـ سبحانه وتعالى ـ  ، فهو يعلم خلقه ، وقد شرع لهم ما يصلحهم ، ومن حيث التفاصيل يرجعون إلى كلام الفقهاء وينظرون ما كان عندهم من سعة الأفق بفضل الله تعالى ، وينظرون في البحوث المعاصرة ، هل عرضت علينا مسألة - نحن معشر المسلمين -  فلم نجد لها حكمًا ؟ .

فقد اخترعوا كل ما شاءوا أن يخترعوا من أمور ، وعند الأمة بفضل الله تعالى قواعد فالأصل في الأشياء الإباحة ، فما الذي جد في المدينة الحديثة ؟ هل فيها طرق ومواصلات وناطحات سحاب ؟ فعندنا الأصل في الأشياء الإباحة ، أنواع من الزراعات الجديدة التي اكتشفت في الأمريكتين وغيرها فماذا اكتشفوا لنا ؟ التبغ والكوكايين وغيرها فعندنا :  « لا ضرر ولا ضرار»  هل اكتشفوا أنواعًا أخرى من الثمار قال تعالى  : ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [ الأعراف : 32 ] تلاعبوا في أمر النسل والأجنة فعندنا القواعد : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » وعندنا قواعد أن المرأة لا يجوز لها أن تكتم ما خلق الله في رحمها ، فعلمنا من هذا أنها مستأمنة على رحمها .

وبناء على هذا بحثنا وقد اخترعوا الاستنساخ ، فإن كانوا قد اخترعوا وإن لم يكن قد كذبوا في هذا ومشهور عندهم الكذب ، قلنا لهم : أنا علمنا من شرع الله أن أعظم أسباب تحريم الزنا أعظم أسبابه اختلاط الأنساب ، وهذا ينتج عنه اختلاط الأنساب فهو محرم كحرمة الزنا .

فلله  ـ عزوجل  ـ  في كل ما يحدث من النوازل حكم ، كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم في فتواه ورده على هؤلاء .

فادعاء جمود الشريعة وعدم قدرتها على ملاحقة العصر مجرد دعوى لا تصدر من مؤمن ولا من دارس لهذه الشريعة ، ولكي يؤكد نظريته سيأتي بأناس جامدين بالفعل ، فماذا نصنع في هؤلاء ؟ فعندهم حتى الآن في أمريكا ذاتها ولاية ترفض دخول الكهرباء !! فماذا نصنع ففي كل الدنيا يوجد من يكونون جامدين ؟ , شخص درس فقه الأئمة وليس عنده استعداد لأن يجتهد ولكن لدى الأمة كلها بفضل الله تعالى من تراث الاجتهاد ما لديها .

وليفرقوا بين الدين الذي هو دين عن أقوال الفقهاء ، فنحن نفرق كإجراء داخلي عندنا لتعظيمنا لدين الله تعالى لأن كلًا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، ولكن مع هذا لا يمكننا أن نتنازل عن تراث سلفنا الذين نقلوا لنا هذا الدين ، فبعضه مجمع عليه فهذا صار لازم لنا ، وبعضه من سبيل المؤمنين ، وبعضه من كلام أهل العلم الذين يجب رد النزاع إليهم ، فلو أننا تركنا هذا لتركنا خيرًا عظيمًا .

فهذا هو الدين عندنا ، ونقول له : اقبل بمبدأ الرجوع وانظر كيف يتصرف المسلمون في العلماء بدين الله ؟ لكن لا تملي علينا شروطًا مسبقة ، إذن يجب الفصل بين الدين الذي هو دين عن أقوال الفقهاء ، أو فصل لي في كلامك في العالمانية والديمقراطية والاشتراكية والرأس مالية ، كلام الله عن كلام البشر ، فنحن نأخذ كلام في كلامكم ونترك كلام البشر ، وكلام الله في كلامهم صفر ، لا توجد أي نسبة إلى الله تعالى ، فلماذا نحن فقط الذين سنفصل ؟ يقولون : افصلوا كلام الله عن كلام البشر ، فنقول لهم : وأنتم أيضًا افصلوا كلام الله عن كلام البشر ، وافصلوا لنا في كل مسألة فافصلوا كلام ماركس عن كلام غيره حتى نرى هؤلاء الذين أسسوا الاشتراكية , ولن يستطيع أن يفصل ، وبالتالي لا نتفاوض معهم من موطن الضعف ، فيملون علينا شروطًا ويقولون : افصلوا القطعي عن الظني ، ثم بعد ذلك سنستكمل معكم ، وافصلوا ما تنسبونه إلى الله عما تنسبونه إلى البشر ، ثم نتكلم معكم.

فنحن لسنا في حاجة للكلام مع أحد بهذه الشروط المجحفة ، فنحن ندعوهم إلى أن يؤمنوا بالله ، فمن أراد أن يؤمن بالله  ـ عزوجل  ـ  وأن يتلزم بدين الله تبارك وتعالى فهذا السبيل أمامه أما أنه يملي شروطًا ففي المقابل هذه الشروط لو طبقها على أقوالهم لتبين عورها بفضل الله تعالى .

هذه جملة من الاعتراضات التي قد يعترض بها هؤلاء على تطبيق دين الله تعالى أردنا الإشارة السريعة إليها ونعود ونكرر أنه هناك رد واحد على كل هذه الشبهات من كان منتسبًا للإسلام يتكلم من خندق الإسلام ، فعليه متى أثار هذه الشبهة أن يجيبنا نحن عن ما معنى الإسلام عنده ؟ وما معنى الأوامر القرآنية الآمرة بتحكيم شرع الله وتحكيم كتاب الله وتكفير من حكم بغير ما أنزل الله ؟وما معنى آيات تحريم الربا والخمر والزنا والميسر وغيرها في كتاب الله فضلًا عن سنة رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ؟ وما معنى الآيات التي تتكلم عن الدين وكتابته وتوثيقه والشركة والبيع والذبائح إلى غير ذلك في القرآن فضلًا عن السنة ؟ فماذا سيفعل فيها ما دام أنه ينتسب للإسلام ؟ .

فإنه لا يملك إلا أن يؤمن بالله ، ويقول : آمنا به كل من عند ربنا ، وبذلك نكون قد انتهينا بفضل الله  ـ عزوجل  ـ  من هذه القضية ، وبقي لنا فيها تعليق في « فضل الغني الحميد » على هذه القضية .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الأخ يقول أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أخطأ في الحكم الشرعي ونزل الشرع بتصويب هذا الحكم  وأننا ذكرنا أن من نسب الخطأ إلى النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في الحكم الشرعي فهذا كفر ، ولكن قد يخطئ في تطبيقه بصفته قاضٍ  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فيكون أحد الخصمين ألحن بحجته من الآخر

نقول : الحكم الذي سبق بيان هذه القضية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في الحكم الشرعي وبالتالي قد يخطئ ويصيب ولكن متى استقر الحكم ولم ينزل الوحي بتصويبه فإما أن يكون وحيًا ابتداء ، وإما أن يكون في حكم الوحي نتيجة أن الوحي قد صوبه ، فبالتالي نقول أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  معصوم من الخطأ في التشريع من هذا الباب ، ولكنه قال : « إنما أقضي بنحو ما أسمع» .

فهذه مسألة أخرى أنه يقضي في مسألة شرعية حكمها مبين ، ويقضي فيما بين الناس بنحو ما يسمع ، فهذا واضح في المسألة ، وهذا الفرق بين الاثنين ، إذن فاجتهاد النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وخطؤه أمر وارد ، ولكن من زعم أن هناك قول للنبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في مسألة استقر الشرع عليها ، ولم ينزل وحي بنقضه وبيان أن هذا خطأ فهذا كفر بإجماع الأمة كما ذكرنا .

ورد أثناء الكلام مع مناقشة العلمانيين نقول لهم : حتى الصورة التي فيها ضعف وفيها نقص في عصور الدولة الإسلامية ليتنا ننال شيئًا منها فالأخ جزاه الله خيرًا يستدرك هل يجوز لنا أن نطلب واقعًا فيه فساد أم نطلب التطبيق الكامل للشرع ؟

هذا من باب التنزل في المناقشة ، فنحن ندعوا إلى تطبيق دين الله  ـ عزوجل  ـ  جملة وتفصيلًا ولكن نقول لهم لا تزعموا أنه لم يكن هناك وجود لواقع هو أفضل بكثير مما نحن عليه ويا ليت هذا الواقع الذي نحن فيه يداني ذلك الواقع الذي يعتبرونه ليس تطبيقًا للإسلام ولكن الواجب الدعوة إلى تطبيق دين الله تعالى كله .

نرجوا أن يكون هذا الأمر واضحًا في قضية أن هذا من باب إثبات أن هذا كان وجودًا للدولة الإسلامية ، وقيامًا لأركانها مع أنواع من التقصير يجب على من أدرك هذا الزمان أو من سيدرك زمانًا مثله أن يدعوا إلى الله ، وأن يأمر بالمعروف وينهى على المنكر ، ولكن الآن هم يقولون أن هذا لم يكن واقعًا إسلاميًا بالكلية ، وأن واقع تطبيق المناهج الكفرية على المسلمين أمثل حالًا منه ، فهذا بلا شك أمثل بكثير .

سقوط الجزية للذميين إذا شاركوا في الجيش ؟

الكلام في غاية العجب ، هل لما نزلت آيات الجزية كان المشركين لا يستطيعون القتال مثلًا , فالجزية ليست ضريبة خدمة عسكرية كما يقولون بل قال تعالى : ﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ  ﴾ [ التوبة : 29 ] علامة ذلة وصغار ، ورد النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  المشركين ، وقال : « ارجع فلن أستعين بمشرك » فهو رفض وجودهم في الجيش ، فلا نخالف الأمرين معًا ، فنقول : أن المخالفة في أحد البابين [ ليست ] مسوغة للمخالفة في الباب الآخر ، فمبادئ المواطنة والدولة القومية يقولون أن أهل الوطن الواحد يتعاونون في الدفاع عنه , هذا كلامهم ، ومعنى ذلك أنه لا بد أن يدخلوا الجيش ، وبذلك تسقط الجزية !! ويقول : هذا ثمرة لهذا ، فهاتان مخالفتان كل واحدة منهما مخالفة مستقلة .

وأما وفد نصارى نجران فقد دخلوا المسجد ويجوز دخول الكافر المسجد إذا كان هناك مصلحة كي يسمع كلام الله أو يعقد معاهدة أو غير هذا ، ولكن لم يصح أن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ   تركهم يتعبدون فيه أو نحو هذا ، ويقولون استدل بها محمد عمارة وغيره على سماحة الإسلام !! .

فهم لم يأتوا بالمناظرة كاملة هم دائمًا يقتطعون ما يريدون وكما ذكرنا ما احتج مبتدع على بدعته بدليل إلا وكان في هذا الدليل ما يرد عليه ، فقد كانت المناقشة كلها في موضوع واحد هل ينفعهم ما هم عليه من انتسابهم للمسيح u وادعائهم أنهم عرفوا الله أم لا ؟  هل هذا هو موضوع الحوار الإسلامي المسيحي الذي يدعون إليه ؟ !! .

دعك من قضية دخولهم المسجد فنفس القضية لو أن أحدًا سيدخل المسجد كي يُدعى إلى الله غير شخص يُدخل من أجل أن يعظم ، ولكي تميع قضايا المسلمين ، ويبقى أن الذي يريد أن يحتج بالقصة يأتي بها كاملة من كتب الحديث الصحيحة ، وبفضل الله هذه القصة رغم أنها من قصص السيرة ، إلا أنها ثبتت بأسانيد صحيحة من طرق المحدثين ، فيأتي بها طالما سنحتج بها في الأحكام ؛ فلا بد أن نراجع تصحيحها وتضعيفها على طريقة المحدثين ، ويأتي لنا بالآيات التي نزلت من سورة آل عمران ثمانين آية من أول السورة في بيان كفر النصارى وباطلهم وإعراضهم ونحو هذا ، فليأتوا بها كاملة ، ثم يستدلوا منها ، وليس يجتزئ بعضها ناهيك أن يكون مما لم يثبت .

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

[ تمت مناقشة قضية الحاكمية وما يتعلق بها ، والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ]

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1567 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1708 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2035 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2038 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1670 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1430 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥