الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

علماء يمنعون زواج الصغيرة دون أن يطعنوا في الأحاديث الصحيحة

لو بحثت جميع الأمور تحت مظلة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين؛ لاندثر الخلاف أو قل وانضبط على أقل التقديرات

علماء يمنعون زواج الصغيرة دون أن يطعنوا في الأحاديث الصحيحة
عبد المنعم الشحات
السبت ٢٣ مايو ٢٠١٥ - ٢١:٠٣ م
3568

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد أشرت في أكثر من مناسبة إلى أن بعض مَن يهاجمون سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ويطعنون في أصح دواوينها «البخارى ومسلم» يحاولون أن يصوروا للناس أن تضعيف الأحاديث الصيحة بل والطعن في التراث جملة وتفصيلًا هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن نتفادى بها بعض الشبهات التي يروج لها المستشرقون حول الإسلام، ومِن أكثر هذه الموضوعات ما يُسمَّى بمسألة زواج الصغيرة، وهم ينطلقون من أصلين:
 
الأول: أن نكاح الصغيرة أمر في غاية النكارة، وبعضهم يتعمد إغفال الفرق بين العقد والدخول، والبعض الآخر يذكر الفرق ومع هذا فيستنكر غاية الاستنكار أن يتم العقد على صغيرة مِن دون إذنها حتى لو أُجِّل الدخول إلى حين الاستطاعة.
 
الثاني: أنه لا يمكن أن نتفادى من الناحية الفقهية القول بجواز عقد زواج الصغيرة حتى نضعف الأحاديث التي رواها البخاري عن سِن عائشة رضي الله عنها عند الزواج مِن النبي صلى الله عليه وسلم.
 
ثم يضيف هؤلاء إلى هذا مسألة أخرى وهي الخلط بين مناقشة مسألة جواز تزويج الصغار ومسألة رفع الأمم سن الزواج إلى الحد الأقصى لسن البلوغ (18 سنة) رغم اليقين بأن الغالبية العظمى يبلغون بالفعل قبل هذا السن، ونحاول في هذه المقالة أن نناقش المسألة بشيء مِن التأصيل العلمي.
 
أولًا: سن زواج عائشة رضي الله عنها عند الزواج مِن النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه بين المحدثين وأصحاب السير:
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين».
 
وهذا الحديث مروي بلفظه أو بمعناه في معظم دواوين السنة، كما رواه أهل السير واعتبروه مِن الأمور المتفق عليها بينهم؛ فقال ابن عبد البر في الاستيعاب: «ولا أعلمهم اختلفوا في هذا»، وقال ابن كثير في السيرة النبوية: «وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس».
 
ثانيًا: الأصل في التشريع عدم تزويج الصغيرة حتى تبلغ وتستأذن:
مع ثبوت حديث عائشة رضي الله عنها، فإن النصوص العامة الواردة في هذا الباب تقتضي عدم تزويج الصغار (ذكورًا وإناثًا)، وذلك لقوله تعالى: ?وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ?؛ فعلق الاستقلال بالمال على البلوغ راشدين، وعبر عن البلوغ بقوله: ?إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ?، وفي حق المرأة خاصة ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «ولا تنكح البكر حتى تستأذن». رواه البخارى وغيره، ولاحظ أن البخاري روى حديث عائشة وروى هذا الحديث، ويبقى الفقه في التعامل مع نصوص الوحي والاستفادة منها.
 
ثالثًا: الجمع بين النصوص:
في هذه المسألة نمتلك نصًّا عامًّا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح البكر حتى تسـتأذن»، ونمتلك واقعة عين فعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا النص العام.
 
فائدة: تعارض العام والخاص:
وعمومًا فإذا تعارض عام وخاص؛ حمل الخاص على خصوصه، وعمل بالعام فيما عدا ما خصص ويُسمى هذا تخصيصًا.
 
ولنضرب على ذلك مثالًا مِن الحياة الواقعية:
إذا أعلن وزير التعليم مثلًا موعد ابتداء العام الدراسي أنه فى يوم (س) فهذا نص عام يشمل جميع محافظات الجمهورية، ثم إذا جاء وكيل وزارة التعليم في محافظة (أ) فأعلن موعد ابتداء العام الدراسي في ذات الموعد (س) فهذا يكون من باب التأكيد، وأما إذا جاء وكيل الوزارة في محافظة (ب) فأعلن عن ابتداء الدراسة في موعد آخر (ص) فيعلم أن هذه المحافظة لها موعد خاص، ويُسمى هذا تخصيصًا فتعمل جميع المحافظات بالموعد (س) إلا المحافظة المخصصة فتعمل بالموعد (ص).
 
مثال شرعي:
قوله تعالى: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُم الْمَيْتَة? مع قوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان؛ السمك والجراد».
 
وقوله تعالى: ?وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? مع قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ?.
 
وهنا يأتي دور العلماء في تحديد قدر التخصيص الوارد بهذا الفعل مِن النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النص العام فاختلفوا على مذاهب.
 
رابعًا: مذاهب العلماء في تزويج الصغار:
المذهب الأول: مَن قصر التخصيص في أضيق حد ورأى أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم:
ويطبق في حق باقي الأمة النص العام: «لا تنكح البكر حتى تستأذن».
 
ولا شك أن التخصيص هنا بالنبي صلى الله عليه وسلم يناسب كماله صلى الله عليه وسلم الخلقي والخلقي كأعلى ما يكون مِن الكمال البشري، وهذا لسرعة نضج عائشة رضي الله عنها مِن الناحية العقلية والنفسية وعظيم النعمة عليها بزواجها مِن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب إلى هذا ابن شبرمة مِن تابعي التابعين.
 
المذهب الثاني: مَن قصر تزويج الصغيرة على الأب وعلى أن يقيد البلوغ بالإطاقة:
وهؤلاء نظروا إلى أن الأصل في فعل النبي صلى الله عليه وسلم التشريع العام، ووجدوا أن في إباحة هذا الأمر -مع أنه خلاف الأصل- رخصة وتوسعة قد يحتاج إليها؛ كمن تعيش مع وليها في بلاد غربة ويرد أن يعقد لها على مَن يثق فيه حتى إذا ماتت لحقت بأهل زوجها.
 
وهؤلاء نظروا مع هذه الرخصة إلى أمرين:
الأول: أن هذا استثناء مِن التشريع العام فلا ينبغي أن يتجاوز به قدره.
 
الآخر: أن هذه الرخصة قد يُساء استعمالها مِن قِبَل ولي المرأة، فانتهى نظرهم في المسألة إلى قصر هذه الرخصة على الأب؛ لعظيم شفقته على ابنته، ولأنه يؤمن ألا يُسيء استعمال هذه الرخصة، ومنعوا منه إذا كان مَن يزوج المرأة جدها أو ابنها أو أخوها أو عمها، وهذا هو مذهب مالك رحمه الله.
 
المذهب الثالث: مَن قصر تزويج الصغيرة على الأب والجد، وعلى أن يقيد البلوغ بالإطاقة:
وهو كسابقه في كل شيء إلا في مسألة أن الأصل عند هؤلاء أن الجد أب؛ فيلحق به في كل الأمور أخذًا مِن قوله تعالى: ?وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ?، وهذا هو مذهب الشافعي.
 
المذهب الرابع: مَن أعطى هذه الرخصة لكل الأولياء:
وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، والذي وجد أن تترك هذه الرخصة في يد الولي أيًّا ما كان؛ ثقة في أن أي ولي ابنًا كان أو أخًا أو عمًّا يبحث في العادة عن مصلحة مُوَلِّيَتِه.
 
المذهب الخامس: اعتبار هذه الرخصة منسوخة بحديث: «لا تنكح البكر حتى تستأذن»:
وقد ذهب إلى هذا العلَّامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني مِن المعاصرين، ومذهبه مِن الناحية العملية متطابق مع مذهب ابن شبرمة، ولكنه يختلف معه في التوجيه الفقهي.
 
خامسًا: مِن آثار اعتبار حديث: «لا تنكح البكر حتى تستأذن» هو الأصل:
الأثر الأول: تأكد استحباب عدم الأخذ بهذه الرخصة ما لم تدعُ إلى ذلك حاجة:
 
وبغض النظر عن الدرجة التي نظر بها كل فقيه ما بين قاصر لها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين موسع لها لكل ولي صغيرة مرورًا بمن يقصرها على الأب أو الأب والجد معًا؛ فيبقى أن الأصل هو إعمال الحديث، قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (وهو ممن يقول بقصر هذه الرخصة على الأب والجد): «وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يُزَوِّج الْأَب وَالْجَدّ الْبِكْر حَتَّى تَبْلُغ، وَيَسْتَأْذِنهَا لِئَلَّا يُوقِعهَا فِي أَسْر الزَّوْج وَهِيَ كَارِهَة، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يُخَالِف حَدِيث عَائِشَة؛ لِأَنَّ مُرَادهمْ أَنَّهُ لَا يُزَوِّجهَا قَبْل الْبُلُوغ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَة ظَاهِرَة يَخَاف فَوْتهَا بِالتَّأْخِيرِ كَحَدِيثِ عَائِشَة، فَيُسْتَحَبّ تَحْصِيل ذَلِكَ الزَّوْج؛ لأَنَّ الْأَب مَأْمُور بِمَصْلَحَةِ وَلَده فَلَا يُفَوِّتهَا».
 
الأثر الثاني: جواز منع هذ الرخصة متى أسيء استخدامها:
وممن ذهب إلى هذا مِن المعاصرين العلَّامة ابن عثيمين؛ حيث قال في شرحه على صحيح البخاري: تقدم لنا أن الرجل يجوز أن يزوِّج ابنته الصغيرة إذا كانت بكرًا، ومعلوم أن الصغيرة لا إذن لها؛ لأنها لم تبلغ، وهذا قول جمهور أهل العلم، واستدلوا بالحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله، وبعضهم حكى الإجماع على أن للأب أن يزوِّج ابنته الصغيرة بدون رضاها؛ لأنه ليس لها إذن معتبر، وهو أعلم بمصالحها، ولكن نقل الإجماع ليس بصحيح؛ فإنه قد حكى ابن حزم عن ابن شبرمة أنه لا يصح أن يزوج ابنته الصغيرة حتى تبلغ، وتأذن؛ وهذا عندي هو الأرجح، والاستدلال بقصة عائشة فيه نظر، ووجه النظر أن عائشة زُوِّجت بأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، وأن عائشة ليست كغيرها مِن النساء؛ إذ أنها بالتأكيد سوف ترضى وليس عندها معارضة، ولهذا لـمَّا خُيرت رضي الله عنها حين قال لها النبي صلى لله عليه وسلم: «لا عليك أن تستأمري أبويك»؛ فقالت: إني أريد الله ورسوله. ولم تُرِدْ الدنيا ولا زينتها.
 
ثم إن القول بذلك في وقتنا الحاضر يؤدي إلى مفسدة كما أسلفنا سابقًا؛ لأن بعض الناس يبيع بناته بيعًا، فيقول للزوج: تعطيني كذا، وتعطي أمها كذا، وتعطي أخاها كذا، وتعطي عمها كذا ... إلى آخره!
وحين تكون قد كبرت فإذا هي قد زُوجت فماذا تصنع؟!
وهذا القول الذي اختاره ابن شبرمة ولا سيما في وقتنا هذا، هو القول الراجح عندي، وأنه يُنتظر حتى تبلغ ثم تُستأذن.
 
فعائشة رضي الله عنها تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين، يعني قبل أن تبلغ سنَّ التمييز، وتوفي عنها بعد تسع سنين؛ حيث توفي الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة مِن الهجرة فهذه تسع سنوات.
إذًا توفي عنها ولها ثماني عشرة سنة، ومع ذلك أدركت هذا العلم العظيم الذي ورثته الأمة من بعدها. اهـ.
 
فنراه هاهنا رغم ترجيحه لمذهب ابن شبرمه الذي قيد المسألة برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه تنزلًا مع مذهب الجمهور قد قرر أن ما استجد مِن فساد أهل هذا الزمان يرجح الرجوع للأخذ بمذهب المضيقين في هذه الرخصة في زماننا هذا.
 
وقال أيضًا: فالذي يظهر لي أنه مِن الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر، أن يُمنع الأبُ مِن تزويج ابنته مطلقًا، حتى تبلغ وتُستأذن، وكم مِن امرأة زوَّجها أبوها بغير رضاها، فلما عرفت وأتعبها زوجها قالت لأهلها: إما أن تفكوني مِن هذا الرجل، وإلا أحرقت نفسي، وهذا كثير ما يقع؛ لأنهم لا يراعون مصلحة البنت، وإنما يراعون مصلحة أنفسهم فقط، فمنع هذا عندي في الوقت الحاضر متعين، ولكل وقت حكمه.
 
ولا مانع مِن أن نمنع الناس مِن تزويج النساء اللاتي دون البلوغ مطلقًا؛ فها هو عمر رضي الله عنه منع مِن رجوع الرجل إلى امرأته إذا طلَّقها ثلاثًا في مجلس واحد، مع أن الرجوع لمن طلَّق ثلاثًا في مجلس واحد كان جائزًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وسنتين من خلافته، والراجح أنها واحدة.
 
ومنع مِن بيع أمهات الأولاد فالمرأة السُّرِّيَّة عند سيدها إذا جامعها وأتت منه بولد صارت أم ولد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، كانت تباع أم الولد، لكن لما رأى عمر أن الناس صاروا لا يخافون الله، ويفرِّقون بين المرأة وولدها، منع رضي الله عنه مِن بيع أمهات الأولاد.
 
وكذلك أيضًا: أسقط الحد عن السارق في عام المجاعة العامة.
 
سادسًا: حيل البعض لرد هذه الأحاديث الصحيحة:
مما سبق يتضح لنا تطبيقًا عمليًّا لقوله تعالى: ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ?.
 
فينبغي على عامة الناس ممن لم تثبت أقدامهم في علوم الشريعة إذا وقعت لهم الشبهة أو أشكل عليهم بعض الأمور المتشابهة أن يردوها إلى الراسخين في العلم، وقد رأينا كيف تعامل الأئمة الأعلام مع هذه المسألة قديمًا، وكيف تعامل العلماء الأثبات مع هذه المسألة حديثًا، وكيف أدركوا المحكم والمتشابه والثابت والمتغير من الشريعة دون أن يطعنوا في تراث الأمة أو يهدموا بناءها الحضاري، فضلًا عن منهجها العقدي والعبادي والعملي.
 
وأما مَن ليس كذلك فالعلم الشرعي وإن كان ذكيًّا لامعًا كالعقاد، فمن الوارد أن يخطئ خطئًا فاحشًا فضلًا عن من ليس له حظ مِن العلم الشرعي ولا الذكاء الفطري.
 
وقد وقع العقاد رحمه الله في ورطة محاولة تزييف التاريخ وتغيير سن زواج النبي صلى الله عليه وسلم مِن عائشة؛ استغلالًا لحالة كتب السيرة التي يغلب عليها أن يكون للواقعة الواحدة عدة روايات، وهذا راجع إلى أن الصحابة والتابعين اعتنوا عناية فائقة بحفظ كل ما له علاقة بالتشريع، وأما القصص فقد جمعها ابن إسحاق مِن لسان عجائز عصره، فاختلفوا اختلافات واضحة، ومع هذا فلم تختلف كتب الحديث ولا كتب السيرة في سن عائشة رضي الله عنها عند الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العقاد -سامحه الله- لجأ إلى الروايات الواردة فى سن أسماء وفاطمة رضي الله عنهما، والروايات الواردة في تواريخ زواجهما، مع أن هذه الروايات ليست مسندة ولا تنطبق عليها معايير القبول التي ارتضاها الله لنا في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا?، وفي النهاية وباستعمال  طريقة طرح التواريخ بعضها مِن بعض، وصل بنا إلى أنَّ سن عائشة رضي الله عنها عند الزواج مِن النبي صلى الله عليه وسلم كان اثني عشر سنة، وهو سن كان مقبول اجتماعيًّا في زمن العقاد رحمه الله، ولم يعبأ العقاد بأنه صادم المرويات الصريحة لذات المراجع التي احتج بها بعد عملياته الحسابية، ولا دار في خلده إن ذات السن الذي استحسنه وروى النصوص التاريخية للحصول عليه سوف يصبح يومًا ما ليس مقبول اجتماعيًّا، وربما يكون ليس مقبول طبيًّا أيضًا (مما يؤكد نسبية هذه الأمور عبر الزمان مِن الناحية الطبية والاجتماعية).
 
ثم جاء شاب مسلم يسمى شافاناس فكتب مقالًا باللغة الإنجليزية حول هذا الموضوع، واستعمل فيه طريقة العقاد، ولكن مع اختلاف المستهدف حيث كان السن المستهدف في هذه المرة هو (18) ثم جاء شاب يدعى عبد الله بوبنهايم، فترجم مقال شافاناس إلى الألمانية، وبعدهما ظهر مقال البحيري والذي نشره في اليوم السابع (ويذكر أن اليوم السابع نشرت مقالة للدكتور محمد عمارة في الرد على البحيري حتى قبل أن يترك البحيري العمل فيها).
 
وسكت البحيري فترة ثم خرج ليجعل مِن هذا البحث المنتحل «الغير منضبط مِن الناحية الحديثية ولا الفقهية ولا التاريخية» منصة صواريخ أطلقها على كتب التراث قاطبة مبتدئًا مِن صحيح البخاري.
 
سابعًا: اعتبار سن الطفولة ثمانية عشر عامًا وآثاره في قضية الزواج وغيرها:
مما سبق يتضح أن قضية زواج الصغيرة نظرًا للتغييرات البدنية والنفسية في هذا الزمان تقريبًا لم يعد لها حاجة، وإنما المشكلة في تحديد سن يمثل الحد الأدنى للزواج، مع العلم أن البلوغ يحدث عادة في بلادنا قبله، وهذا تماشيًا مع ما قررته الأمم المتحدة مِن اعتبار سن الطفولة ثمانية عشر عامًا، وهذا يترتب عليه عدة أمور:
 
أ‌-   منها تخفيف العقوبات عن مَن لم يبلغ هذا السن، ورأينا كيف تقع حوادث اغتصاب، بل وقتل مِن شباب في السادسة عشر والسابعة عشر، ومع هذا يعاملون بقانون الطفل.
 
ب‌-         ويترتب على هذا حبس هؤلاء البالغين في دور رعاية الأحداث مع أطفال (لم يبلغوا بالفعل) وتحصل الكثير مِن الجرائم مِن أجل ذلك
 
ت‌-         كما أن مروجي المخدرات وعصابات السرقة بالإكراه تتعمد تصدير هؤلاء في جرائمهم لضمان تخفيف العقوبة عليهم.
وكل هذا فرع على اعتبار أفراد بالغين بدنيًّا وجنسيًّا أنهم ما زالوا أطفالًا.
 
ث‌-         ويبقى أمر الزواج؛ فواضعو هذا السن متأثرين بثقافة بلادهم التي تبيح الحرية الجنسية في سن مبكر، بينما تبالغ في رفع سن الزواج، وبالتالي لا يناسب هذا المسلمين الذين يحرم عليهم دينهم الزنا، وإذا كانت البيئات الحضرية في بلادنا قد ارتفع فيها سن الزواج تلقائيًّا، فإن المناطق الريفية والبدوية مِن بلادنا ما زالوا في حاجة إلى بقاء سن الزواج في حد أدنى من هذا للفتيات، وأحيانًا للفتيان الذين يحصل لديهم النمو الجسدي والاستقلال الاقتصادي فى سن مبكر.
 
ونحن ندعوا المنصفين إلى أن يجروا تحقيقًا ميدانيًّا في الريف المصري حول الآثار الاجتماعية المدمرة لرفع سن زواج الفتيات مِن 16 إلى 18.
 
بل إننا نتساءل: هل مِن حقوق الإنسان أن تمنع إنسانًا نضج بدنيًّا واستقل ماليًّا (ويحدث هذا في البادية المصرية قبل سن الـ18 أحيانًا)، وأهم من ذلك إذن له خالقه، فبأي حق تمنعه من تلبية حاجاته الطبيعية؟
 
ثامنًا: كلام الشيخ محمد بخيت المطيعي في وضع سن لزواج البالغين:
وقد أثير هذا الأمر حينما حاولت الدولة العثمانية والدولة المصرية بعدها وضع حد أدنى لسن الزواج، فأيده بعض علماء الأزهر، ومنهم الشيخ الخضري رحمه الله، وعارضه وبقوة معظم علماء الأزهر، وعلى رأسهم العلَّامة محمد بخيت المطيعي شيخ الأحناف في زمانه وممثل الأزهر الوحيد في لجنة دستور 1923 وصاحب اقتراح مادة الإسلام دين الدولة التي تضمنها هذا الدستور.
 
وقد احتج محمد الحضري بك بمذهب ابن شبرمة في منع زواج الصغيرة، ورد عليه الشيخ محمد بخيت المطيعي بمناقشة في مسألة زواج الصغيرة، إلا أنه عاد وقرر ما قررنا هنا مِن أنَّ حتى القائلين بجواز تزويج الصغيرة لن يتحمسوا له كثيرًا في هذا الزمان (كان هذا في عام 1923).
 
ولكن المشكلة التي أرقت الشيخ محمد بخيت المطيعي وغيره مِن العلماء منع زواج البالغين أو إهدار كل علامات البلوغ وقصر البلوغ على بلوغ سن 18 عامًا، وفيما قال في رد هذا مقال طويل نقله عنه العلَّامة محمد رشيد رضا صاحب المنار ومما جاء فيه: «والإجماع قائم على أن الصبي والصبية متى بلغا الحلم, بأن حاضت الصبية أو احتلمت أو حبلت وكانت رشيدة وقت بلوغها؛ وجب تسليم أموالها إليها بدون تأخير, ولو كانت بنت تسع سنين, وكذلك الصبي إذا احتلم أو أحبل امرأته, وتبين رشده وقت البلوغ وجب تسليم أمواله إليه, ولو كان سنه اثنتي عشر سنة بدون تأخير, ولا اعتبار بالسن في هاتين الحالتين، وأما إذا لم تحض الصبية ولم تحتلم ولم تحبل, ولم يحتلم الصبي ولم يحبل امرأته كان بلوغهما حينئذٍ بالسن, وهو خمس عشر سنة عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة, وعليها الفتوى عند الحنفية, كما أن العادة الفاشية أن الصبي والصبية يصلحان للزواج وثمراته في هذه المدة ولا يتأخران عنها».
 
وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للصغير ثمان عشرة, وللصبية سبع عشرة
 
سنة، وعلى كل حال فاعتبار السن أمارة للبلوغ وحدًّا له متأخر بالإجماع, عن
اعتبار الحيض والاحتلام حدًّا للبلوغ وأمارة له, فلا يصار إليه إلا عند عدمهما, لا فرق في ذلك بين أن يزوج الإنسان نفسه، أو يزوجه وليه بإذنه على اختلاف المذاهب في تفصيل ذلك, وبين أن يملك التصرف في ماله، ومتى بلغ بالسن على اختلاف المذاهب, فإن كان رشيدًا وجب تسليم ماله إليه عقب بلوغه هذا السن, وإن كان سفيهًا وجب الحجر عليه على قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومَن وافقهم, ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة، بل يؤخر ماله إليه إلى أن يبلغ سنه خمسًا وعشرين سنة, فإنْ بلغ ذلك السن سلم إليه ماله على كل حال.
 
ومِن هنا يعلم أن القضية التي تحتاج إلى بحث شرعي واجتماعي منصف عميق، هي قضية سن الطفولة وما يرتب عليها مِن آثار، ويتبين أنه لو بحثت جميع الأمور تحت مظلة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين؛ لاندثر الخلاف أو قل وانضبط على أقل التقديرات.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.