الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ

يجب على كل مدع أنه متبع أن يتبع على الحقيقة، دون شعارات وهتافات وازدواجية وتعدد الشخصيات

لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ
خالد آل رحيم
الخميس ١٠ مارس ٢٠١٦ - ١١:٥٣ ص
1302

{لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. أخرج الترمذي، عن عبد لله بن سلام قال: لو نعلم أي الأعمال أحب إلي الله لعملناه، فأنزل الله تعالى:

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}. قال عبد لله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حتى ختمها. قال الألباني صحيح الإسناد.

وهذه الآية تعالج قضية خطيرة من قضايا الأمة، وهي الانفصال بين الإيمان وتطبيقه واقعا عمليا، أو بين القول والعمل أو العلم والعمل، وإذا كانت الآية أُنزلت في خير الخلق بعد الأنبياء وهم صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم- فمن باب أولى هي لمن دونهم أوجب، طبقا للقاعدة المشهورة أن (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، قال ابن عاشور رحمه الله: (ناداهم بوصف الإيمان تعريضا بأن الإيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن أن يخالف فعله قوله في الوعد بالخير).

وقال القرطبي رحمه الله: (قال المثنى: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس؛ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "أتيت ليلة أُسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون".

 وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا. فسكت. ثم قيل له: حدثنا. فقال: أترونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله!

قال الشاطبي في الموافقات: (والعلم لا يراد به أصلا إلا العمل وكل علم لا يفيد عملا ولا يتوقف عليه حفظ مقاصد الشريعة فليس في الشرع ما يدل على استحسانه، والعلم المعتبر شرعا الذي مدح الله تعالى ورسوله أهله-على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هداه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها، وعندئذ يصير العلم وصفا من الأوصاف الثابتة لصاحبه، يأبى للعالم أن يخالفه لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا وفق اعتيادا، وإن تخلف يكون تخلفه لعناد أو غفلة) اهـ.

ولذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه دائما ما يناشد حملة العلم قائلا: (يا حملة العلم: اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمُهم عملهم، يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضا، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه؛ أولئك لا تصعد أعمالهم إلى الله عز وجل) اهـ.

وقال الحسن البصري رحمه الله: (العالم الذي وافق علمُه عمله، ومن خالف علمُه عمله فذلك راوية؛ سمع شيئاً فقاله).

وقال سفيان الثوري رحمه الله: (العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا). وقال: (العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل).

ولذلك عقب المولى تعالى على ذلك بقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. والمقت هو: أشد البغض لمن قام بفصل القول عن العمل. والله تعالى لم يذكر كلمة (مقتا) إلا في موضعين في القرآن -غير هذا الموضع- للدلالة على عظم الأفعال التي تستوجب مقت الله تعالى؛ فقال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.

وقد وبخ المولى تعالى أحبار اليهود كذلك على هذا الأمر قائلا لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

وهذا في الأمة كثير فتجد من يتحدث عن توحيد الأمة مستدلا بكتاب الله تعالى وسنة نبيه، وهو يعمل ليل نهار على تمزيقها. ويدعو إلى الحفاظ على الأخوة الإيمانية وهو يقطع أوصالها ليل نهار. ويدعو إلى تحريم الغيبة والنميمة وهو يهتك الأستار في كل أوان، ويدعو إلى حرمة دماء المسلمين وهو من يزج بهم للمهالك وسفك الدماء، وهو الذي يدعو إلى وجوب التثبت في الأخبار وهو الذي يطعن في القريب والبعيد من أجل هواه، وهو الذي يقرأ قول الله تعالى على لسان شعيب لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

ويخالف هذا الأمر جملة وتفصيلا، وليس أشد من وعيد الله تعالى لأولئك كما روى أسامة بن زيد رضي عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه" (البخاري).

إن الواقع مُحزن والخطب جلل وليس لنا مخرج إلا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- الذي يعطي لنا أروع الأمثلة عن ذلك؛ فقد سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: "كان خلقه القرآن، أو كان قرآنا يمشي على الأرض". فليس في الإسلام شخصية مزدوجة، وليس في القرآن دعوة لذلك، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كذلك، فيجب على كل مدع أنه متبع أن يتبع على الحقيقة، دون شعارات وهتافات وازدواجية وتعدد الشخصيات، فهذا جالب لمقت الله تعالى وغضبه.

والله من وراء القصد.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة