الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف -4

حسن التحاور مع المعارضين باللسان الفصيح لا بالسيف أو التقبيح وقبول النصيحة ولو جاءت من المخالفين

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف -4
محمود قناوي
الأربعاء ٣٠ مارس ٢٠١٦ - ١٢:١٧ م
1749

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف (4)

كتبه/ محمود قناوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

من أدلة عدل ملوك السلف حسن التحاور مع المعارضين باللسان الفصيح لا بالسيف أو التقبيح وقبول النصيحة ولو جاءت من المخالفين:

1- موقف للخليفة جعفر المنصور:

فقد ذكر الغزالي وابن بليان وغيرهما، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة، وكان يخرج سحَرا فيطوف بالبيت، فخرج ذات ليلة، فبينما هو يطوف إذ سمع قائلا يقول: اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ سمعه ثم رجع إلى دار الندوة. وقال لصاحب شرطته: إن بالبيت رجلا يطوف فأتني به. فخر صاحب الشرطة فوجد رجلا عند الركن اليمني. فقال: أجب أمير المؤمنين. فلما دخل عليه، قال: أنا الذي سمعتك آنفا تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني.

فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الذي داخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله وامتلأت بلاد الله بذلك بغيا وفسادا أنت هو.

فقال له المنصور: ويحك كيف يداخلني الطمع، والصفراء والبيضاء ببابي وملك الأرض في قبضتي؟.

فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، وهل داخل أحد من الطمع ما داخلك؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبين رعيتك حجابا من الجبس والآجر، وحجبة معهم السلاح، وأمرت ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، نفر استخلصتهم لنفسك وأمرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الجائع ولا العاري، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق. فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجمع الأموال وتقسمها، قالوا: هذا خان الله ورسوله فما لنا لا نخونه؟ فأجمعوا على ألا يصل إليك من أموال الناس إلا ما أرادوا. فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاء المظلوم إلى بابك وجدك وقفت رجلا ينظر في مظالم الناس، فإن كان الظالم من بطانتك علل صاحب المظالم بالمظلوم وسوّفَ من وقت إلى وقت، فإذا اجتهد وظهرت أنت صرخ بين يديك، فضربه أعوانك ضربا شديدا ليكون نكالا لغيره، وأنت ترى ذلك ولا تنكر. لقد كانت الخلفاء قبلك من بني أمية إذا أتت إليهم الظلامة أزيلت في الحال، ولقد كنت أسافر إلى الصين يا أمير المؤمنين، فقدمت مرة فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه، فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك؟ لا أبكى الله لك عينا إلا من خشيته.

فقال: والله ما بكيت لمصيبة نزلت بي وإنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمعه. ثم قال: إن كان سمعي ذهب فإن بصري لم يذهب. نادوا في الناس لا يلبس أحد ثوبا أحمر إلا مظلوم. وكان يركب الفيل طرفي النهار ويدور في البلد لعله يجد أحدا لابسا ثوبا أحمر فيعلم أنه مظلوم فينصفه. وهذا الأمير رجل مشرك غلبت عليه رأفته على شح نفسه بالمشركين، وأنت مؤمن بالله ورسوله وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.

يا أمير المؤمنين! لا تجعل الأموال إلا لإحدى ثلاثٍ: فإن قلت إنما أجمع الأموال لصالح الملك فقد أراك الله عبرةً في الملوك والقرون من قبلك ما أغنى عنهم ما أعدوا من الأموال والرجال والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع للولد، فقد أراك الله عبرة فيمن تقدم ممن جمع المال للولد فلم يغن ذلك عنهم شيئا بل ربما مات فقيرا ذليلا حقيرا؛ وإن قلت إنما أجمعه لغاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق منزلتك إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح.

فبكى المنصور بكاءً شديدا ثم قال: وكيف أعمل وقد فرت مني العباد ولم تقربني، افتح الباب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم وخذ المال مما حل وطاب، وقسمه بالحق والعدل، وأنا ضامن من هرب أن يعود إليك.

فقال المنصور: نفعل إن شاء الله تعالى.

2- الرجل الثبت الجنان:

حدث أحمد بن موسى قال: ما رأيت رجلا أثبت جنانا، ولا أحسن معرفة ولا أظهر حجة من رجل رفع فيه عند المنصور بأن عنده أموالا لبني أمية، فأمر المنصور حاجبه الربيع أن يحضره، فلما حضر بين يديه قال المنصور: رفع إلينا أن عندك ودائع وأموالا وسلاحا لبني أمية فأخرجها لنا لنجمع ذلك إلى بيت المال.

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنت وارث لبني أمية؟ قال: لا. قال: فلم تسأل إذن عما في يدي من أموال بني أمية، ولست بوارث لهم ولا وصي؟ فأطرق المنصور ساعة، ثم قال: إن بني أمية ظلموا الناس وغصبوا أموال المسلمين. فقال الرجل: يحتاج أمير المؤمنين إلى بينة يقبلها الحاكم تشهد أن المال الذي لبني أمية هو الذي في يدي وأنه هو الذي غصبوه من الناس، وأن أمير المؤمنين يعلم أن بني أمية كانت لهم أموال لأنفسهم غير أموال المسلمين التي اغتصبوها على ما يتهم أمير المؤمنين؟ قال: فسكت المنصور ساعة، ثم قال: يا ربيع، صدق الرجل ما يجب لنا على الرجل شيء، ثم قال للرجل: ألك حاجة؟ قال: نعم.

قال: ما هي؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى فيَّ إليك فوالله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح. وإنما أحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه.

فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به فجمع بينهما. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي.

فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال. قال: فما حملك على السعي كاذبا؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال.

فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين، لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي.

فاستحسن المنصور فعله وأكرمه ورده إلى بلده مكرما.

وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط، ولا أثبت من جنانه ولا من حجني مثله ولا رأيت مثل حلمه ومروءته

 

3-مواقف للخليفة الواثق:

ذكر الحافظ أبو نعيم في حليته. قال الحافظ أبو بكر الآجري بلغني عن المهتدي رحمه الله، أنه قال: ما قطع أبي -يعني الواثق- إلا شيخ جيء به من المصيصة، فمكث في السجن مدة ثم إن أبي ذكره يوما فقال: عليَّ بالشيخ. فأتي به مقيدا، فلما وقف بين يديه سلم عليه، فلم يرد عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، ما سلكت بي أدب الله ولا أدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- برد السلام.

قال أبي، وعليك السلام، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا محبوس مقيد أصلي في الحبس بتيممٍ منعت الماء، فمر بقيودي تحل، ومر بماء أتوضأ وأصلي، ثم سلني. فأمر به فحلت قيوده وأمر له بماء فتوضأ وصلى. ثم قال لابن بي دؤاد: سله. فقال الشيخ: المسألة لي، فمره أن يجبني.

فقال: سل. فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد فقال له: أعن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أشيء دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا. قال: أفشيء دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده؟ قال: لا. قال: أفشيء دعا إليه عمر بن الخطاب بعدهما؟ قال: لا. قال: أفشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم؟ قال: لا، قال: أفشيء دعا إليه علي بن أبي طالب بعدهم؟ قال: لا.

قال الشيخ: فشيء لم يدع إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليّ تدعو أنت الناس إليه ليس يخلو أن تقول علموه أو جهلوه، فإن قلت علموه وسكتوا عنه توسعا، وسعنا وإياك من السكوت، ما وسع القوم، وإن قلت جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع ابن لكع، شيء يجهله النبي - صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وتعلمه أنت وأصحابك.

قال المهتدي: فرأيت أبي وثب قائما ودخل الحجرة، فجعل ثوبه في فيه وجعل يضحك ثم جعل يقول: صدق الشيخ، إلى آخر ما تقدم، وقال المهتدي: ما زلت أقول القرآن مخلوقٌ صدرا من خلافة الواثق حتى أقدم علينا أحمد بن دؤاد شيخا من أهل الشام، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا وهو جميل الوجه تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم عليه الشيخ فأحسن السلام ودعا فأبلغ وأوجز فقال له الواثق: اجلس، ثم قال: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك.

فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤاد يقل ويصغر، ويضعف عن المناظرة.

فغضب الواثق وأعاد مكان الرقة له غضبا، وقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن مناظرتك أنت؟ قال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، ما بك، وأذن لي في مناظرته. فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.

فقال الشيخ: يا أحمد يا ابن أبي دؤاد إلام دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: أن تقول: القرآن مخلوقٌ لأن كل شيء دون الله مخلوق. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول.

فقال: أفعل. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. فقال الشيخ: أخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين بعثه الله عز وجل إلى عباده، هل ستر شيئا مما أمره الله به في دينه؟ فقال:لا. قال الشيخ: أفدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: تكلم فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين قل: واحدة. فقال الواثق: واحدة.

فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن الله عز وجل حين أنزل آخر القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا﴾. أكان الله صادقا في إكماله أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه، فيكون كاملا؟

فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، قل: اثنتان.

فقال: اثنتان.

فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. فقال: أفدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين قل: ثلاثة. فقال الواثق: ثلاثة.

فقال الشيخ: يا أحمد، أفاتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم: فقال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم؟ فقال ابن أبي دؤاد: نعم. فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت أن أحمد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين ألم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له منا ما اتسع لهم من ذلك.

فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولأبي بكر وعمر عثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله علينا، ثم قال: اقطعوا قيد الشيخ.

فلما قطع ضرب الشيخ بيده فأخذ القيد فوضعه في كمه، فقال الواثق: لم فعلت هذا؟ فقال الشيخ: لأني نويت أن أقدم إلى من أوصي إليه إذا مت، أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخصم به هذا الظالم عند الله عز وجل يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي.

وبكى الشيخ وبكى الواثق وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله منه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-، إذ أنت رجل من أهله.

فقال الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت.

فقال الواثق: تقيم عندنا ينتفع بك فتياننا؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عندك، فقال: ولم ذلك؟ فقال: لأسير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عنك، فقد خلفتهم على ذلك.

فقال الواثق: أفتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أنا غني وذو ثروة.

قال: أفتسألنا حاجة؟ قال: أو تقضيها؟ قال: نعم. قال: تخلي سبيلي إلى السفر الساعة وتأذن لي. قال: أذنت لك فسلم عليه الشيخ وخرج.

قال: صالح: فقال المهتدي بالله، فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم، والله أعلم(1)

المصادر

إعلام الناس بما وقع للبرامكةج1ص34و37و38

البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ج1ص411

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة