الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

وجوب تحكيم النبي الأمين في جميع شئون المؤمنين

لن تتحقق السعادة للبشر، ولن يقام نظام العدل في الأرض، ولن يستقيم أمر المعاش والمعاد، وننال عز الدنيا وسعادة الآخرة إلا بتحكيم شريعة رب العالمين والتزام ما جاءنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -

وجوب تحكيم النبي الأمين في جميع شئون المؤمنين
عادل نصر
السبت ٢١ مايو ٢٠١٦ - ١٢:٠٣ م
2451

وجوب تحكيم النبي الأمين في جميع شئون المؤمنين

كتبه/ عادل نصر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

إن من أعظم خصال الإيمان وأوضح الأدلة على المحبة وتعظيم الشأن تحكيم النبي العدنان - صلى الله عليه وسلم - في سائر الأمور مع انشراح الصدور وتمام الاستسلام والإذعان، وبذلك قضى ربنا في محكم القرآن، فقال وهو أصدق القائلين ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

"يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾؛ أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة".
روى البخاري: "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنْ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الأَنْصَارِيُّ كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَاتِ إِلاَّ نـزلَتْ فِي ذَلِكَ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا من حكمه، بل يسلموا لحكمه ظاهرًا و باطنًا، وقال قبل ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقًا، وقال سبحانه: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالنقص والسب و نحوه؟!" ا.هـ.
ومن مظاهر المحادة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل المروق من دين الإسلام –نسأل الله العافية- من زعم أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى، أو زعم أن هدي غير محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من هديه - صلى الله عليه وسلم - أو أحسن، أو زعم أنه لا يسع الناس في مثل هذه العصور إلا الخروج عن الشريعة، وأنها كانت كافية في الزمان الأول فقط، وأما في هذه الأزمنة فالشريعة لا تساير الزمن ولا بد من تنظيم قوانين بما يناسب الزمن، فلا شك أن هذا الاعتقاد إذا صدر من إنسان فإنه قد استهان بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتنقَّصها، ولا شك في كفره وخروجه من الدين الإسلامي بالكلية.
كذلك من زعم أنه محتاج للشريعة في علم الظاهر دون الباطن، أو في علم الباطن فقط، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو أن الإنسان حر في التدين في أي دين شاء من يهودية أو نصرانية أو غير ذلك، أو أن هذه الشرائع غير منسوخة بدين محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو استهان بدين الإسلام، أو تنقصه أو هزل به أو بشيء من شرائعه، أو بمن جاء به، وكذلك ألحق بعض العلماء الاستهانة بحملته لأجل حمله، فهذه الأمور كلها كفر، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾.

ولن تتحقق السعادة للبشر، ولن يقام نظام العدل في الأرض، ولن يستقيم أمر المعاش والمعاد، وننال عز الدنيا وسعادة الآخرة إلا بتحكيم شريعة رب العالمين والتزام ما جاءنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن شك في هذا فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامها وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت على شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة، وأرعى لها يجد الفرق كما بين الثرى والثريا، وكما بين السماء والأرض، وكما قال الشاعر:

نـزلَت بِمَكَّةَ مِن قَبائِلِ نَوفَلِ *** وَنـزلتُ خَلفَ البِئرِ أَبعَدَ مَنـزلِ


ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فتحوا ما فتحوا من أقاليم البلدان ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في مدة نحو مائة سنة؛ مع قلة عدد المسلمين وعددهم وضيق ذات يدهم، ونحن مع كثرة عددنا ووفرة عتادنا وهائل ثروتنا وطائل قوتنا لا نـزداد إلا ضعفًا وتقهقرًا إلى الوراء، وذلا وحقارة في عيون الأعداء، وذلك لأن من لا ينصر دين الله لا ينصره الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، فرتب نصرهم على نصره بإقامة طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فنصرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - اليوم تقتضي التوبة فورًا وخلع كل ما يخالف شريعته - صلى الله عليه وسلم -، ونبذ كل ما يخالف حكمه - صلى الله عليه وسلم -، والتحاكم إليه بامتثال الكتاب الذي أوحاه الله إليه، والسنة المطهرة، فإن فعلنا فقد فزنا فوزًا عظيمًا، وإلا فما أعظم الخسارة –نسأل الله السلامة.
وفي كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عروة: كتبت إلي تسألني عن القضاء بين الناس، وإن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بحكم أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي العلم والرأي. وذكر عن سفيان بن عيينة قال ابن شبرمة يقول:

ما في القضاء شفاعة لمخاصم *** عند اللبيب ولا الفقيه العالم 
هون علي إذا قضيت بسنة *** أو بالكتاب برغم أنف الراغم
وقضيت فيما لم أجد أثرًا به *** بنظائر معروفة ومعالم


وعن ابن وهب قال: قال مالك: الحكم حكمان؛ حكم جاء به كتاب الله، وحكم أحكمته السنة. قال: ومجتهد رأيه فلعله يوفق.
وقال ابن القيم رحمه الله: على قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُون﴾: "فأقسم سبحانه بأجل مقسم به -وهو نفسه  سبحانه - على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع موارد النـزاع في جميع أبواب الدين. فإن لفظة ﴿فِيمَا﴾ من صيغ العموم، فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم، ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجا -وهو الضيق والحصر- من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخذونه على إغماض ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر، ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حالة ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها، ﴿بلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾. فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص، وبودهم أن لو لم ترد، وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجي في حلوقهم منها ومن موردها، ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر، ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، فذكر الفعل مؤكدًا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعا ورضا وتسليما، لا قهرًا ومصابرةً كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه وأبر به منها، وأقدر على تخليصها، وتأمل لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:
أولها: تصديرها يتضمن المقسم عليه وهو قوله: ﴿لا يؤمنون﴾.
وثانيها: تأكيده بنفس القسم.
وثالثها: تأكيده بالمقسم به وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة.
ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم.
وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وأنه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من أبلغ أنواع التقرير حب الرسول.
وقال رحمه الله: "لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ؛ عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرًا، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهداية، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور وأهلها هم المشار إليهم.
فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.
اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح.
وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومُؤْذِنٌ بليل بلاء قد ادْلَهَمَّ ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوحًا، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾. وقال:

والله ما خوفي الذنوب فإنها *** لعلي سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من *** تحكيم هذا الوحي والقرآن
ورضا بآراء الرجال وخرصها *** لا كان ذاك بمنة المنان
فبأي وجه ألتقي ربي إذا *** أعرضت عن ذا الوحي طول زمان
وعزلته عما أريد لأجله *** عزلاً حقيقيا بلا كتمان

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة