الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الإيمان والكفر -28

نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة وأهميته في الواقع الذي نعيشه

الإيمان والكفر -28
محمد إسماعيل المقدم
الخميس ٢٦ مايو ٢٠١٦ - ١٨:٤٩ م
3790

الإيمان والكفر [28]

الأسئلة

محمد إسماعيل المقدم

نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة وأهميته في الواقع الذي نعيشه

السؤال: متى نشأ مصطلح أهل السنة والجماعة، وما هي أهميته بالنسبة للواقع الذي نعيشه؟

 الجواب: هذا سؤال عن تنبؤ النبي صلى الله عليه وسلم بفرقة هذه الأمة، وما ذكره من هلاك هذه الفرق جميعاً إلا واحدة، وهي الجماعة، وهي التي اصطلحت الأمة على تسمية أهلها بأهل السنة والجماعة، فالسؤال هو عن نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة، والمقصود به، وأهميته بالنسبة للواقع الذي نعيشه الآن. أما بالنسبة لزمن نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة فالأصل في التسمي بأهل السنة هو ما ورد من النصوص التي تأمر باتباع السنة ولزوم الجماعة، فمضمون التسمية مأثور في السنة وكلام السلف، فمن ثم نقول: إن بداية هذا المضمون هي في ذلك الوقت الذي هو ليلة القدر في إحدى ليالي شهر رمضان المعظم، في الليلة المباركة حينما نزل جبريل عليه السلام يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1-2]، هذه هي البداية التاريخية لمضمون هذه التسمية؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما أمرنا بلزوم السنة واتباعها والحرص على العض عليها بالنواجذ، وذم الشذوذ عنها ومخالفتها. وما أكثر النصوص التي جاءت تحث على لزوم الجماعة، فمضمون التسمية موجود منذ بداية هذه الدعوة، فالأصل في التسمي بأهل السنة والجماعة هو ما ورد من النصوص في الوحيين التي تأمر باتباع السنة ولزوم الجماعة، فهذا مأثور في السنة وفي كلام السلف. أما ظهور التسمية مصطلحاً يدل على فئة معينة وعلى اتجاه عقدي معين فلم يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن المسلمين لم يحصل بينهم فرقة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا جميعاً يضمهم اسم الإسلام، وإن وجد -أيضاً- فيهم مضمون اتباع السنة والجماعة بكل معانيها، لكن صدق ظهور المصطلح بظهور الفُرقة حينما ظهر أهل البدع، فتميز أهل السنة بهذا اللقب. ولم تقطع أصول التاريخ الإسلامي بتحديد السنة التي ظهر فيها هذا المصطلح، وإن كان مضمونه هو حقيقة دين الإسلام الذي تلقاه الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. فالسؤال عن توقيت أو بداية نشوء هذه التسمية للدلالة على اتجاه معين واعتقاد متميز إنما هو سؤال عن بداية التسمي بهذا الاسم والتميز به، وليس سؤلاً عن نشأة المسمى الذي هو المذهب وأهله، فمن الخطأ البين الخلط بين هذين الأمرين، وأهل السنة والجماعة ليسوا فرقة ولا طائفة طارئة كسائر الفرق المنشقة عنهم، وإنما هم الأصل، فمن العسير أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع الفرق النارية التي يتيسر لنا بسهولة تحديد منشئها؛ لأنها شذت وفذت عن الأصل، وارتبط التميز باسم أهل السنة والجماعة بظهور البدع التي أعقبت وقوع الفرقة في الأمة، كما تنبأ بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ظهرت البدع والفرقة التي كانت تحيطها هذه البدع برز هذا اللقب الشريف، ليدل على تمسك أهله بالإسلام المحض الخالص عن الشكوك، فقبل حصول الافتراق لم يحتج المسلمون إلى هذا التمييز؛ إذ ما كان المسلمون يعرفون التمييز بين السنة والشيعة والخوارج ونحو ذلك، فقبل حصول الفرقة لم يحتج المسلمون إلى أن يتميزوا باسم أهل السنة والجماعة، فقد كان الإسلام وأهل الإسلام هم الاسم والمسمى، يقول عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]. وقال تبارك وتعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78]، يعني: وفي هذا القرآن. ولهذا لما سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن السنة أجاب: هي ما لا اسم له سوى السنة. وتلا قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. وأقدم انشقاق حصل في صفوف الجماعة الأولى، وأول صدع في وحدة العقيدة هو حركة الخوارج المارقين الذين تنبأ بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكان وقوع ذلك بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ووقوع فتنة صفين، ثم تلا ذلك ظهور بدع غلاة الشيعة الذين ألـَّهوا علياً رضي الله عنه، وادعوا النص عليه، وظهر السبابة الذين يسبون الشيخين رضي الله عنهما، وكذلك المفضلة الذين فضلوا علياً رضي الله عنه عليهما، وقد تصدى لهم جميعاً أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وعاقبهم كلاً بحسبه. غير أن هذا الابتداع لم يؤثر في بداية الأمر في القاعدة العريضة من المسلمين الملتزمين بالسنة وأهلها، ولم يحتج المسلمون حتى ذلك الوقت إلى التميز؛ لأنهم الأصل الذي انشق عنه المخالفون، والأصل لا يحتاج إلى ما يميزه، إنما الذي يحتاج إلى التمييز الفرع المنشق، الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حين يتنكب السبيل. ولذلك لما سئل إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن أهل السنة أجاب: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي، وقال محمد بن سيرين. والمتوفى سنة عشر ومائة من الهجرة. لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم. وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم، وقال عبد الله بن مصعب للرشيد حينما سأله عمن طعنوا على عثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، وهم أنواع الشيع وأهل البدع وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة اليوم. فأهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. وأهل السنة بين الفرق الإسلامية كالإسلام بين الملل، كما أن الإسلام هو الدين الوسط بين اليهودية والنصرانية وغيرها من الملل، ويتميز أهل السنة والجماعة -أيضاً- بأنهم دائماً الأمة أو الفرقة الوسط بين الغلاة والجفاة، وبين المُفْرِطين والمُفرِّطين، فمذهبهم لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وتجد في كل مسائل العقيدة التي خالف فيها أهل السنة أهل البدع تجد فريقاً يذهب إلى أقصى اليمين، وفريقاً آخر يذهب إلى أقصى اليسار، وهم الأمة الوسط العدول، فأولئك المبتدعون كانوا أحق الناس بوصف التطرف؛ لأن التطرف يعني الأخذ بأقصى الأطراف والغلو يميناً أو يساراً، فهؤلاء هم المتطرفون، أما الوسط فهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينبغي أن يكون المقياس في كل شيء، انظر إلى ما جاء به الإسلام، فهذا هو الوسط فكل ما خالف الإسلام فهو تطرف، لا كما يفعل الزنادقة والملاحدة من العلمانيين وأعداء الدين بإيحاء من أعداء الإسلام حين يصفون الملتزمين بدينهم والمعظمين لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتطرف، والحقيقة أنهم هم الذين تطرفوا في موالاة الشيطان وأوليائه إلى أبعد الحدود، فصاروا حرباً على الإسلام والمسلمين، فكل من شذ عن طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو المتطرف الخبيث الهالك. أما سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فهي المحجة البيضاء النقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، والذي ينحرف عما جاء به رسول الله هو الهالك، وهو المتطرف المنحرف. والمقصود أن أهل السنة متوسطون معتدلون، فمذهبهم لا مع هؤلاء الغلاة ولا مع هؤلاء الجفاة، وإنما هم مع كل منهم في ما أصابوا فيه، وفي نفس الوقت برآء من باطل كل منهم، فمذهبهم حقّ، وهذا الحق بريء من كل انحرافات الفرق الضالة. ثم برز الذين اتبعوهم بإحسان منافحين عن السنة وكلما قرن البدعة برز له رموز وعلماء أهل السنة باسم أهل السنة والجماعة يتصدون لهؤلاء المبتدعين، فكانوا يواجهون البدعة بالدعوة إلى السنة، ويجابهون الفرقة بالدعوة إلى الالتزام بالجماعة، هكذا ظهر هذا الاسم وبرز في مقابل الانحرافات التي كانت تأخذ مجراها في التاريخ الإسلامي، خاصة أيام الاشتباك العقلي مع البدع الوافدة. فعلى ضوء هذه المقدمة التي نقدمها لهذا السؤال -وهو: متى نشأ هذا المصطلح- لا نجد أدنى حرج في أن نرفع عقيدتنا مرددين مع أئمتنا: إن مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة و مالكاً و الشافعي و أحمد ، وإنه مذهب وطريقة الصحابة رضي الله عنهم. وهذا ينبغي أن يكون راسخاً في أذهاننا، وقد ترد على هذا الكلام شبهة، إذ إ بعض الناس يقول: لماذا يشتهر الإمام أحمد بأنه إمام أهل السنة، أو ابن تيمية أو غيرهما من علماء الأمة؟! والجواب أن اشتهار بعض الأئمة بإمامة أهل السنة -كالإمام أحمد رحمه الله تعالى- لا يرجع إلى أنه هو مؤسس المذهب؛ لأن السنة كانت موجودة معروفة قبله، ولكن يرجع إلى أنه اشتهر بالدعوة إليها، والصبر على أذى من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة الثلاثة وغيرهم قد ماتوا قبل المحنة، فلما ظهرت فتنة القول بخلق القرآن في حياة الإمام أحمد بعد موت الأئمة قبله رحمهم الله كان الإمام أحمد قد علم السنة رحمه الله، وأظهرها، وثبت عليها، وانتصر لها، ومن ثم صار إماماً من أئمة السنة، وعلماً من أعلامها، لا أنه أحدث مقالة أو اتبع رأياً . حتى إن المأمون نفسه لما تكلم بحق الإمام أحمد ومن اتبعه قال: ونسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة ولذلك كان بعض العلماء إذا أراد أن يتميز بوضوح إلى أهل السنة قال: وأنا على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. ومن هذا المنطلق

 

معنى السلفية باعتبارها منهجاً في الحق

السؤال: ما هي السلفية باعتبارها منهجاً في الحق وفي الفهم والسلوك، وهل يجوز أن تحاصر السلفية بحيث يعبر بها عن إطار حزبي معين؟

 الجواب: السلفية -والله أعلم- نسبة إلى السلف الذين هم أهل السنة والجماعة، ومنهج السلفي ليس منهجاً علمياً جافاً ونظرياً مجرداً، بل هو منهج علمي وعملي في نفس الوقت، فعندما أقول: سلفية فينبغي أن ينطلق ذهننا إلى ذلك النموذج الأعلى الذي طبق في حياة السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، من الأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ولا ينظر فقط إلى عقيدة السلف، ولكن ننظر -أيضاً- إلى عبادتهم وأخلاقهم وجهادهم وفهمهم للإسلام، واستقلال كلمة السلفية علماً على حزب أو جماعة محددة أو اتجاه معين هذا له سلبيات، وينبغي أن نحافظ على المنهج بعيداً عن أن تحتكره طائفة معينة؛ لأن هذا سيفقد المنهج كونه هو الميزان الذي ينبغي أن تحاكم به جميع الاتجاهات، وهو المنهج المعصوم، ولكن الذين ينتسبون إليه ليسوا معصومين، وحينئذٍ إذا احتكرت طائفة اسم السلفية أو اسم أهل السنة والجماعة -وهكذا احتكار مثل هذه الألقاب الشريفة- فإن ذلك يجعل المنهج خادماً لا مخدوماً، ولا يصلح أن يكون المنهج خادماً لأي تجمع، ولذلك ينبغي أن يبقى بعيداً عن الحزبيات، وحتى يبقى صالحاً لا بد من أن يحاكم الناس جميعاً به ويلزموا به، فالمنهج معصوم والناس غير معصومين، والمنهج حاكم والناس محكوم عليهم، والمنهج مخدوم والناس خادمون له، كما كان هذا شأنه، ولا ينبغي أن يسخر لخدمة حزب أو تجمع غير معصوم، وذلك لكي يبقى هو الميزان الأعلى الذي يوزن به الجميع بمن فيهم من ينتسبون إلى هذا المنهج. ثم إنه يخشى من ذلك أن يغذي دائماً واقع راية حزبية، ويغذي الشعور الحزبي والعصبي بين المسلمين، وقد يتوهم بعض منهم بمرور الزمن أن السلفية أو أهل السنة جزء مبتور من كيان الأمة الإسلامية أو داخل الأمة. وفي حالة تغنى حزب أو تجمع بهذا الاسم الشريف أو ذاك فإن أخطاء هذا التجمع أو أخطاء أفراده سوف تحمل للمنهج، وفي هذا إساءة إلى هذا المنهج، بالإضافة إلى أن التعبير عن هذا المنهج بصورة حزبية أو تكتل معين فيه تحجيم للدعوة السلفية، وحصر لها في إطار محدود، وحينئذٍ يكون في ذلك الحيلولة دون القاعدة العريضة من الأمة، ودون الانتساب إليه باعتبار أنها صفة حزبية لا أكثر، فليست صفة منهج، لكنها صفة حزب. ونعود فنقول: إنه لا مانع من استعمال هذه الألقاب أو التسمي بها إذا كان استعمالها استعمالاً غير حزبي. ومثله كل لقب شريف، كلقب المهاجرين والأنصار، فهما من أشرف الألقاب في الإسلام، بل مدح الله تبارك وتعالى أهلهما أعظم المدح في القرآن فقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]. ومدحهم بالمعنى فقال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:8-9]، فمدح الله عز وجل المهاجرين والأنصار، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يوجد أدنى حرج في أن يتسمى فلان مهاجرياً وفلان أنصارياً، لكن حدثت حادثة كسح فيها رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، أي: ضربه على مؤخرته، فهو خطأ فردي وقع بين اثنين من المسلمين، فقال المهاجري لما ضرب: يا للمهاجرين! فدعا بدعوى الجاهلية، كما كان يتناصر الناس، فمن يظلم من قبيلة عبس يقول: يا لعبس. وينادي بأعلى بصوته حتى يأتي إليه كل منتسب إلى قبيلته، بغض النظر عن كونه ظالماً أو مظلوماً، كما يحصل في الصراعات الطائفية عند بعض الناس الجهلة الذين لم يتأدبوا بآداب الإسلام، وتجري عصبيات جاهلية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فيقول أحدهم: هذا من أهل بلدي، فأنا أنصره ظالماً أو مظلوماً. وكذلك يقول الآخر. فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فأراد كل منهما أن يستعمل اللقب الشريف استعمالاً حزبياً يفرق المسلمين ويضعف كيانهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً وقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة)، فسماها دعوى الجاهلية، فدل هذا الحديث على وجوب التخلي عن هذه الأسماء إذا صارت علماً على حزبية جاهلية مفرقة للأمة، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (ليس منا من شق الجيوب، أو لطم الخدود، أو دعا بدعوى الجاهلية)، وقال عليه الصلاة والسلام في أعظم مشهد شهده مع أصحابه رضي الله عنه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، فهذه دعوى سماها في هذه الحال دعوى الجاهلية فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟!)، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، إذاً: يجب التخلي عن ذلك إذا صار الاسم علماً على حزب، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة)، ووصفها بالنتن والخبث، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى الأرض وقبل أن يولد جاء وصفه ومدحه في التوراة والإنجيل بصفات معينة ذكرها الله تعالى في قوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فقوله: (دعوها فإنها منتنة) وصف لها بالنتن، ووصفها الخبث يدل على أنها من الخبائث التي حرمها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يستجيز أن يتسمى بشيء من هذه الألقاب ينبغي له أن لا يحدد الفكر لهذا التجمع، لكن ينبغي أن نعلن دائماً للناس أننا خادمون للفكر، وليس هو خادماً لنا، ونحن المحكومون بالمنهج، ولسنا حاكمين عليه. ثم ينبغي أن نحذر تربية الناس على الولاء لغاية حزبية، إنما يكون الولاء للمنهج وللأصول، وأن تكون معاملة الناس والتمييز بينهم على حسب ولائهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على حسب ولائهم لأشخاص أو لطائفة معينة، فلا بد من إحياء هذه المعايير بين وقت وآخر، وإلا انزلقنا إلى ما انزلق فيه غيرنا ولن نعتبر بهم. فهذا بالنسبة لمسألة تأطير المنهج، أو الفصل بين الفهم والسلوك، فمنهج أهل السنة فهم وسلوك، وليس هو فقط قضايا محصورة، إنما هو منهج للتعامل مع كل الظروف، والله تبارك وتعالى في سورة المعارج يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:19-26]، فالتصديق لابد له من أن ينعكس في السلوك، فليست السلفية مجرد مفاهيم تصب في عقولنا وقلوبنا، وإنما هي مفاهيم تصب في أذهاننا وتستقر، ونعقد عليها قلوبنا، ثم تنعكس على سلوكنا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، ثم أردف ذلك بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27]، فالجنة والنار موجودتان أبداً لا تفنيان، وهذا كلام متعلق بالفهم، لكن تستخلص منه وجود الجنة والنار، وينعكس هذا التصديق في سلوكك وامتثالك لقول الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28].

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

الإيمان والكفر - 29
2170 ٠٢ يونيو ٢٠١٦
الإيمان والكفر -27
2153 ١٩ مايو ٢٠١٦
الإيمان والكفر [26]
2904 ١٢ مايو ٢٠١٦
الإيمان والكفر -25
2941 ٠٥ مايو ٢٠١٦
الإيمان والكفر [24]
1692 ٢٨ أبريل ٢٠١٦
الإيمان والكفر -23
1540 ٢١ أبريل ٢٠١٦