الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

عقيدة الولاء والبراء -3

أعظم رابطة تجمع بين المسلمين هي رابطة الإسلام

عقيدة الولاء والبراء -3
محمد إسماعيل المقدم
الجمعة ٢٦ أغسطس ٢٠١٦ - ١٤:٠٨ م
1447

عقيدة الولاء والبراء [3]

محمد إسماعيل المقدم

الهجرة من ديار الكفر والعصيان إلى ديار الطاعة والإسلام من ألزم وأوثق مقتضيات الولاء والبراء، فبها تتحقق محبة المؤمنين بمجاورتهم ونصرتهم، وكذلك بغض الكافرين بمفارقتهم وعدم تكثير سوادهم، وأعظم رابطة تجمع بين المسلمين هي رابطة الإسلام، وبها تنتفي بقية الروابط الأخرى من جنس، أو لون، أو عصبية جاهلية.

بعض أحكام الهجرة المتعلقة بالولاء والبراء   

 

 

أحكام الهجرة باعتبار الدارين       

 

الهجرة شرعاً هي: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، هذه هي الهجرة الواجبة شرعاً إلى قيام الساعة، فلا يصح الاستدلال بالأحاديث التي ذكرناها آنفاً أو التي فيها أن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه. ونحن الآن في زمان الفتن، والهجرة بلاشك واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ونحن في أوضاع ما مرت الأمة الإسلامية بمثلها من قبل، وبعض العلماء يرى أن تقسيم البلاد إلى دار كفر ودار إسلام، ما ينبغي أن يتواجد إلا عند وجود دار الإسلام، يعني: لا يوجد دار كفر حتى يوجد دار إسلام، وإن كان في هذا الكلام تفصيل، والمشكلة اليوم أن المسلم يقع في حيرة شديدة، لكن بلا شك أن الإقامة في بعض البلاد الإسلامية تكون الفتن فيها أقل من بلاد الكفر، والمسألة نسبية، فبالنسبة لغيرها من بلاد الكفر تكون الفتن فيها أقل من الفتن في غيرها، ويستطيع المسلم أن يحافظ على دينه وأن يسلم من الفتن الشائعة، وأن يقوم ببعض الشعائر والمظاهر الإسلامية، مع أن بعض هذه البلاد الإسلامية التي يمكن أن يهاجر إليها المسلم تجد فيها حكومات سائرة في طريق العلمانية، ورفض الإسلام، والتآمر عليه، حتى أنهم يمنعون من هاجر إلى هذه البلاد تديناً، ففي بعض البلاد المعروفة يستجلبون الكفار من كل بلاد الأرض حتى الهندوس، ويستعملونهم، ويستأمنونهم في الطب مثلاً على أعراض المسلمات، وفي البيوت تعمل الخادمات وأكثرهن من عباد البقر، ويفسدن في داخل بيوت المسلمين، لكن المسلم الذي يسافر إلى هذه البلاد مهاجراً تديناً بهذه الهجرة، سواءً إلى مكة أو المدينة، فربما إذا لم يكن له وضع قانوني معين يشحن مع السيارات إلى المطار ويطرد من تلك البلاد، وإن كانت هجرته تديناً، والمدينة ومكة هما دار إسلام إلى قيام الساعة، وهما أقل البلاد فتناً بفضل الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يقف هؤلاء الطواغيت ليحولوا دون هجرة المسلمين إلى هذه البلاد التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن (الإيمان يأرز إلى المدينة أو إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل). وبعض إخواننا المسلمين من الأوربيين أو الأمريكيين بعدما يسلمون يذهبون إلى مكة والمدينة، ويقيمون فيها بنية أنه إذا خرج الدجال يحتمون بمكة والمدينة؛ كما ثبت في الحديث أنه لا يدخلهما المسيح الدجال، وهذه من فضائل مكة والمدينة. أيضاً: تأتي مشكلة من ناحية أخرى، وهي أن بعض حكومات البلاد المسلمة أصبحت وكأنها ارتدت عن الإسلام، فيؤذي الصالحين، لكن بعض ديار الكفر التي لم يدخلها الإسلام أصلاً مثل أغلب دول أوروبا وأميركا قد لا يؤذى المسلم فيها، فيفتن فتنة أخرى حيث يجد هناك من الحرية التي تجيزها نظم هذه البلاد ما لا يجده في بلاد المسلمين، فقد يفتتن بعض الناس بهذه الأشياء، ويتعامون عن كثير من الاعتبارات الأخرى، فلا يحسنون تقدير هذه الأمور. ولا شك أن المسلم إذا أقام في بلاد المسلمين يسلم من الفتن أكثر من البلاد الكافرة، لكنه قد لا يسلم من أن يطرد منها، وقد رأيت بعيني كثيراً من الأفغان أيام الانقلاب الشيوعي في أفغانستان يأوون إلى مكة والمدينة هرباً من الحكم الشيوعي الكافر هناك، لكنهم كانوا يعتقلون في السعودية ويطردون ويعادون إلى حكم الكفار الشيوعين في أفغانستان بالقوة! فكان بعض الناس منهم يتخلفون من العمرة أو الحج ويمكثون هناك، وهنا أذكر بعض أبيات شعر قرأتها لشاعر يحرض على مطاردة هؤلاء الأجانب، فيقول وهو يخاطب الناموسة: فيا ناموستي والصلح خير فأنت رفيقة من عهد هود أقيمي بيننا أهلاً وسهلاً ولكن للأذية لا تعودي عليك عليك بالغرباء علينا وسيبي الرادف الأصل السعودي يعني: يسلط الناموسة ويقول: نعمل اتفاق بأن تتركي السعودي الأصلي، وعليك بالغرباء علينا من هؤلاء الناس الذين يأوون إلى هذه البلاد، وكل هذا من مؤامرات أعداء الإسلام، حيث جعلوا الحدود السياسية والفواصل بين ديار المسلمين، ومزقونا كما تمزق قطعة الجبن، وكل حاكم أخذ جزءاً من بلاد المسلمين يصبغها بصبغته حتى لا تلتحم أمة المسلمين ثانية، بينما تجد الحدود في بعض البلاد الأوروبية ليست مثل هذا التقسيم، وإنما هي عبارة عن شارع، وفي وسطه صف واحد من الطوب يفصل بينهما، بحيث أن الإنسان إذا خطا بقدمه خطوة انتقل من بلد إلى بلد آخر، فهذه هي الحدود عندهم بمنتهى الحرية، وتجد السيارات تمر بين هذه البلاد والأخرى، وغابت الحدود السياسية هذه. لكن في بلاد المسلمين وضعوا الحواجز النفسية والحواجز المادية، وصنعوا المشاكل على الحدود حتى يحصل الاقتتال بين المسلمين كما هو معلوم من سياسة فرق تسد، حتى لا يلتئم شمل هذه الأمة، وكل هذا يحصل نتيجة النظم المعرضة عن الإسلام. نعود إلى الموضوع الذي نتحدث فيه، وهو أن المسلم الآن في فتنة بين هذين الأمرين، بين بعض البلاد الإسلامية التي إذا ذهب إليها يطرد منها إن لم يكن له وضع قانوني يمكنه من الإقامة مثلاً، ومع ذلك يظل مهدداً بالطرد في أي وقت، وإما أن يذهب إلى البلاد الأوروبية حيث الفتنة في دينه، وحيث الفساد المعلوم هناك، وحيث الفتنة أيضاً بمدى الحرية التي قد يتمتع بها ولا يجدها في ديار المسلمين. ومع ذلك إذا أنصف الإنسان وتأمل في أحوالنا مثلاً هنا في مصر، يجد أن أكثر الناس الذين يذهبون إلى البلاد الأوروبية أو إلى البلاد الأخرى العربية يغبطوننا على ما نحن فيه من العافية من الكثير من البلاء ولله الحمد، مع العناء الذي نعانيه هنا في بلادنا، ولكن يوجد كثير من الخير والبركة هنا في الشباب المسلم الملتزم، والدعوة التي تؤتي ثمارها في كل حين بإذن ربها، فهذا مما يطمئن الإنسان مادام أنه يستطيع أن يؤثر فيمن حوله، وينشط في سبيل هذه الدعوة، وفي ذلك خير كثير لمن كان يرجو ثواب الله سبحانه وتعالى.

 

 

 

 

العبادة في الهرج كالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم         

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه معقل بن يسار رضي الله عنه: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) أخرجه مسلم و الترمذي. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج) هو: الفتنة واختلاط أمور الناس، ( كهجرة إلي ) قال النووي رحمه الله: وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها -كما في مثل هذه الأزمان- ويشتغلون بالدنيا، ولا يتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى وذكره وطاعته إلا الأفراد القلائل من الناس. ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه الإمام أحمد و الطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد أن رجلاً قال له: يا أبا سليمان ! اتق الله؛ فإن الفتن قد ظهرت، فقال: أما و ابن الخطاب حي فلا. يعني: الفتن كان بينها وبين المسلمين باب وهو عمر ، فإذا كسر هذا الباب جاءت الفتن كما هو معلوم في التاريخ، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أما و ابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكاناً لم ينزل به مثلما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد. وهذا الأثر ينطبق علينا في هذا الزمان، فالإنسان عندما يتأمل في أي مكان حوله لا يجد شبراً قد خلا من الفتنة، فقد تكون جالساً في بيتك، تعتزل الناس، فيدخلون عليك الموسيقى والتلفزيون والفيديو والأغاني إلى البيت، فتجد أنه ما خلا شبر من هذه الفتن! وقد جاء تفسير الهرج في بعض الأحاديث بأنه كثرة القتل وإراقة الدماء. قال المناوي رحمه الله: ( كهجرة إلي ) يعني: من يثبت على دينه في وقت الغربة، ووقت الفتنة التي تصرف الناس عن دينهم، وتعظيمه وإقامة حدوده، يقول: فمن صبر على ذلك فثوابه كأنه هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونال الثواب الكثير، أو يقال: الهجرة في الأول كانت قليلة لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قال ابن العربي : وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة. يعني: إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو لم تكن أصلاً هناك دار إسلام، أو لم يستطع أن يهاجر من دار البدعة إلى دار السنة، أو من دار الظلم إلى دار العدل فعليه انتقال نفسي بأن يهجر المعاصي، ويهجر المحرمات، فينتقل من الفتنة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، ويهجر معاصي الله، وهذا أحد أقسام الهجرة التي تجب على كل مسلم.

 

 

 

 

التفصيل في حكم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام أو سلطان الكفر     

 

جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: (ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً) أخرجه الشيخان. قوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي وقد جاء يسأله عن الهجرة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويحك) وهذه كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في مصيبة لا يستحقها. وقوله: ( إن شأن الهجرة شديد ) أي: إن القيام بحق الهجرة شديد، وفي لفظ مسلم : (إن شأن الهجرة لشديد) بالتوكيد باللام، أي: لا يقدر على الهجرة كل الناس، فهذه عبادة من أشق وأعظم العبادات، فلا يقدر عليها إلا القليل من الناس، ولا يقدر عليها كل الناس. ثم أرشده صلى الله عليه وسلم إلى عمل دون ذلك يمكن أن يطيقه من الأعمال الصالحة، وهو أقل من الهجرة في تكاليفها، فقال: ( فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟ ) يعني: تعطي الزكاة لمستحقيها، وتؤدي كذلك الواجبات الأخرى وفرائض الدين الواجبة عليك؟ ( قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار ) المقصود بالبحار هنا: القرى والمدن، أي: اعمل من وراء القرى والمدن، سواءً كنت مقيماً في بلدك أو غيرها من أقصى بلاد الإسلام، يعني: اسكن ما شئت من بلاد المسلمين، واسكن حيث شئت من البلاد التي تكون الغلبة فيها والعلو لأحكام الإسلام، والقرية تسمى البحرة لاتساعها؛ لأنها تشبه البحر في اتساعها. يعني: إن أديت الفرائض والواجبات، فاعمل في أي مكان شئت من القرى أو المدن حتى لو كانت في أقصى بلاد المسلمين. قال: (فإن الله لن يترك من عمل شيئاًَ) يعني: لن ينقصك من صواب عملك شيئاً. وهذا الحديث يشعر بأن المسلم الذي يؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى عليه في ماله ونفسه، لا بأس بعدم هجرته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاعمل من وراء البحار )؛ لأنه دله عن البديل عن الهجرة، وأنه ينال من عمله أجراً عظيماً، وقوله: ( اعمل من وراء البحار ) يعني: أي أعمال أخرى، من إقام الصلاة أو إيتاء الزكاة أو غيرها من واجبات الدين، وهذا محله في البلد الذي لم يكن تحت حكم عدو الدين، أما إذا كان سيقعد في بلد يحكم فيه أعداء الإسلام، وستجري عليه أحكام الكفر؛ فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يستدل بهذا الحديث على أن عدم الهجرة لا بأس به كما هو ظاهر هذا الحديث؛ لأن المقصود به مكان يعلوه أحكام الإسلام وليس أحكام الكفر. أما من كان تحت سلطة الكفرة، بحيث يخاف على دينه وأهله وماله، فإن الهجرة لا تزال واجبة عليه إلى قيام الساعة، ولا حجة له في الحديث السابق، ولا حجة له أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)؛ لأن المعنى: لا تجب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فمن مكث في مكة بعد الفتح فلا تجب عليه الهجرة إلى المدينة؛ لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام، فانتفت العلة الموجبة للهجرة. وقيل: المقصود أن فضيلة الهجرة الكاملة فاتت بالفتح؛ لأن في الصحيحين عن مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: (انطلقت بـأبي معبد -وهو شقيقه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان بعد فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها ) يعني: فاز بالثواب الأكمل وحاز الغنيمة الكبرى من سبق بالهجرة قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فبقيت مزية الهجرة كما بقيت مزية الإنفاق كما في قوله تعالى:  لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى  [الحديد:10]، يعني: فضيلة الهجرة إلى المدينة لها منقبة عظيمة، ولها فضائل عظيمة، ولكن تلك المنزلة التي نالها المهاجرون والأنصار هي خاصة بالهجرة من مكة أو غيرها من البلاد إلى المدينة قبل الفتح، فهؤلاء الذين سبقوا بالأجر الأعظم من تلك الهجرة. فلا ينبغي للإنسان أن يستدل بمثل هذه الأحاديث على عدم وجوب الهجرة، وعلى أن الهجرة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم أو بفتح مكة، فإن المقصود بهذه الأحاديث أنه لا بأس بعدم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام، وليس لمن يعيش تحت سلطان الكفر. وقد روى البخاري أن عبيد بن عمير سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية. ومعنى قول عائشة رضي الله عنها: (فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام) أن حكم الإسلام اتسع وشمل البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعلاهم حكم الله، وشريعة الإسلام، ولكن جهاد ونية، فإن الهجرة قد مضت لأهلها، فهذا يدل على أن موضوع هذه الأحاديث حين كان المسلم مقيماً تحت حكم الإسلام، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعيش ويقيم وسط الكفار، مستدلاً بمثل هذه الأحاديث على أنه لا هجرة بعد الفتح أو إن شأن الهجرة شديد، ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! أين الهجرة إليك، حيث كنت أم إلى أرض معلومة، أم لقوم خاصة، أم إذا مت انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: أين السائل عن الهجرة؟! قال: هأنذا يا رسول الله، قال: إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، فأنت مهاجر، وإن مت بالحضرمة، قال: يعني أرضاً باليمامة)، وفي رواية له: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضرمة) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) يعني: ما ارتفع علم الجهاد، وقام المسلمون بمقاتلة أعدائهم.

 

 

 

الارتباط الوثيق بين الهجرة وعقيدة الولاء والبراء      

 

الهجرة لها ارتباط وثيق بالولاء والبراء، وقد ذكرنا أن الولاء والبراء أمر قلبي من لوازم لا إله إلا الله، وهو ينعكس في واقع عملي، فهو التطبيق العملي للوازم لا إله إلا الله من محبة المؤمنين وبغض الكافرين، فالهجرة مرتبطة بالولاء والبراء، بل هي من أهم تكاليفهما، والحديث فيها متشعب، وقبل أن نتكلم عن حكم الإقامة في ديار الكفر لا بد أن نتحدث بالتفصيل عن معنى دار الكفر، ودار الإسلام، وهذا الأمر يحتاج لتفصيل شديد، وسيخرج بنا عن الموضوع، فنقتصر على التعاريف، وإن أتت فرصة أخرى نتكلم عن ذلك بالتفصيل. ......

 

حكم الإقامة في بلاد الكفر مع الرضا بما هم عليه من الكفر    

 

إقامة الإنسان في بلاد الكفار رغبة واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين، أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين وذمهم، أو يعاونهم على المسلمين بنفسه أو ماله أو لسانه؛ كفر ومن فعل ذلك فهو كافر عدو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله تعالى:  لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ  [آل عمران:28]. قال ابن جرير : قد برئ من الله، وبرئ الله منه لارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر. وقال عز وجل:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ  [المائدة:51] وقال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)، وصح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (من بنى بأرض المشركين فصنع نيروزهم حشر معهم).

 

 

 

 

بعض حقوق المسلم المترتبة على الموالاة والمناصرة     

 

يجب على المسلم أن يقيم مع إخوانه المسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته -أي: معيشته، فيحفظها ويضمها له- ويحوطه من ورائه) كالرداء والقميص، فالإنسان إذا ارتدى رداءً أو قميصاً فإنه يحوطه من ورائه، أي: أنه يحفظه ويصونه، ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضرراً، ويعامله بالإحسان والنصيحة، وكل هذه النصوص الواردة من المحبة والمودة بين المؤمنين هي من مقتضيات الولاء والبراء، وتبين الحقوق التي تترتب على هذه المحبة، وأهمها المودة والنصرة، وهذه النصوص كلها تغنينا عن الاستدلال بالحديث الذي يكثر الاستدلال به من قبل كثير من الخطباء، وهو ما ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)رواه الطبراني في معجمه الصغير، وهو حديث ضعيف، ولا يصح الاحتجاج به، ولا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء الصباح أغنى عن المصباح، فالأدلة الصحيحة تغنينا عن الأدلة الضعيفة. أيضاً: يترتب على هذه الموالاة والمناصرة بعض الحقوق مثل: الزيارة والإكرام، والسلام، وحماية العرض، والمواساة بقدر المستطاع... إلى آخر ما هو معلوم من حقوق المسلم على أخيه المسلم.

 

 

 

 

معنى دار الإسلام ودار الكفر       

 

دار الكفر هي التي يعلوها أحكام الكفر، ودار الإسلام هي التي يعلوها أحكام الإسلام، فالعبرة في تقسيم الدار إلى دار كفر ودار إسلام هو نوع الأحكام التي تعلو هذه الدار، وليس نوع السكان الذين يقطنون هذه الدار. مثلاً مصر عندما فتحها عمرو بن العاص كان أغلب أهلها أقباطاً، وكلمة قبطي معناها المصري القديم، وقد كانوا نصارى، فمصر دخلت تحت حكم الله سبحانه وتعالى، وطبق عليها قوله تعالى:  حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ  [التوبة:29]، هذا هو حكم الله في هذه البلاد، فعلاها حكم الله، وليس معنى أن يعلو حكم الله سبحانه وتعالى على بلد أن ينقلب أهلها مسلمون، لكن المقصود أن يذعنوا ويخضعوا لحكم الله فيهم كما قال عز وجل:  قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ  [التوبة:29]، فمعناه خضوعهم لحكم الله، ولشريعة الإسلام، حتى تكون كلمة الله هي العليا، فمصر من ذلك الوقت صارت دار إسلام، رغم أن أغلب سكانها لم يكونوا مسلمين، لكن هي دار إسلام؛ لأنه يعلوها أحكام الإسلام؛ لأن الحاكم لها هو خليفة المسلمين. كذلك يمكن أن توجد بلاد كل أهلها مسلمون، ولكن هي دار كفر، وذلك إذا تسلط عليها حاكم كافر، وأرغمهم على أن تعلوهم أحكام الكفر وشريعته، فتكون في هذه الحالة دار كفر وإن كان كل أهلها أو أغلب أهلها مسلمين.

 

 

 

 

حرمة إقامة المسلم بين ظهراني المشركين     

 

لما كان الإسلام هو دين العزة والقوة، فإنه قد أبى على معتنقيه أن يذلوا للكفار؛ ولذلك جاء المنع من الإقامة بين ظهراني غير المسلمين؛ لأن إقامة المسلم بين الكفار تشعره بالوحدة والضعف، وتربي فيه روح الذلة والاستكانة، وقد تدعوه إلى المهادنة لهم ثم متابعتهم في باطلهم، والإسلام يريد من المسلم أن يمتنع قوة وعزة، وأن يكون متبوعاً لا تابعاً؛ فيكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله سبحانه وتعالى. لذلك حرم الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه، إلا إذا استطاع أن يظهر إسلامه، ويعمل طبقاً لعقيدته دون أن يخشى فتنة على نفسه، وإلا فعليه أن يهاجر من هذا البلد إلى بلد يعلو فيه سلطان الإسلام، فإن لم يفعل فالإسلام قد تبرأ منه مادام قادراً على الهجرة، ولا عذر له في ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى:  إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا  [النساء:97-99]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما) . وقال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك -يعني: اجتمع معه في بلده- وسكن معه فإنه مثله). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها). وقال صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم). فالمقصود أن المسلم لا يقيم في دار حرب، وهي التي لا تعلوها أحكام الإسلام، لكن إن كانت دار إسلام تغلب عليها المسلمون، وجرى فيها حكم الإسلام، وإن كان كل أهلها غير مسلمين؛ فلا بأس أن يقيم المسلم بينهم، فقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عماله على خيبر، وكل سكان خيبر كانوا من اليهود؛ لأنها كانت حينئذ دار إسلام.

 

 

 

مقتضيات الأخوة الإسلامية ودعائمها

 

الرابطة الحقة بين المسلمين هي: لا إله إلا الله 

 

إن الرابطة الحقيقة التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة (لا إله إلا الله)، فهذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضاً، هذه الرابطة لا لتربط فقط بين المسلمين في الأرض، وبين بعضهم البعض، وإنما عطفت أهل السماء على أهل الأرض، وهم ملائكة حملة العرش، ومن حول العرش من الملائكة، فهم يستغفرون الله لبني آدم في الأرض، قال عز وجل:  الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  [غافر:7-9]. فبين الله سبحانه وتعالى أن هذه الرابطة: لا إله إلا الله، ربطت سبيل المؤمنين في الأرض، وبين الملائكة في السماء، وبين حملة العرش، فجعل العلة في هذا الدعاء قوله سبحانه وتعالى في حق الملائكة: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، أي: فاغفر للذين آمنوا، فربط الإيمان بين أهل السماء وأهل الأرض، وهذه هي أعظم الروابط التي ربطت كل من في هذا الكون بعضه ببعض. ومما يوضح أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام، قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم  سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ  [المسد:3]، وقابل موقف أبي لهب من الإسلام وما نزل فيه من القرآن، وبغض النبي صلى الله عليه وسلم له لكفره وصده عن سبيل الله؛ بما لـسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء في حقه حديث: (سلمان منا أهل البيت)، وإن كان بعض العلماء يضعفون الحديث، ولقد أجاد من قال: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وأجمع العلماء على أن الرجل إن مات وليس له من الأقارب إلا ابن كافر فإنه لا يرثه، ويكون إرثه للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده من صلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدل على أن الأخوة الإيمانية أقرب من الأخوة النسبية، هذه الأخوة التي لا يحدها الزمان والمكان، قال الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر المهاجرين وامتدحهم، ثم ذكر الأنصار وامتدحهم:  وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ  [الحشر:10]. إذاً: لا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة: لا إله إلا الله، فلا يجوز النداء بأي رابطة غيرها، ومن والى الكفار محبة لهم، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى:  وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ  [المائدة:51]، وقوله تعالى:  إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ  [الأنفال:73]، فلما غاب هذا المعنى، وزال من قلوب المسلمين، ولم يعد الدين والإيمان هو الحد الذي يعتمده قلب المؤمن في موالاته للمؤمنين وعدائه للكافرين؛ اختلط الحابل بالنابل في موضوع الولاء والبراء، ووقع ما أخبر الله به:  إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ  [الأنفال:73].

 

 

 

 

نبذ الإسلام للحزبية والعصبية الجاهلية       

 

قال سبحانه وتعالى:  لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ  [المجادلة:22] يعني: لا يمكن أن تجد مؤمناً حقق الإيمان،  وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ  [المجادلة:22]، فلا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء، والأبناء والإخوان والعشائر، ومع ذلك أخبر أنهم يعادونهم لو كانوا ممن يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال عز وجل:  وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ  [التوبة:71]، وقال:  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ  [الحجرات:10]، وقال:  فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا  [آل عمران:103]، هذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء بأي رابطة غير الرابطة الإسلامية -كالرابطة القومية مثلاً- لا يجوز، وهو ممنوع بإجماع المسلمين، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار -يعني: ضربه على مؤخرته- فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! -يعني: يستنصر بالأنصار على أخيه- وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة) . فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار! وقول هذا المهاجري: يا للمهاجرين! هو النداء بالقومية العصبية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة) يقتضي وجوب ترك النداء بها، ويقتضي تحريم أن ينادي الإنسان بنداء الجاهلية، وبدعاوى الجاهلية؛ لأن قوله: (دعوها) أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب كما هو معلوم من الأصول كما قال عز وجل:  فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  [النور:63]، ودل هذا على أن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم معصية محرمة، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله: (دعوها فإنها منتنة) حيث وصف هذا الأمر بالنتن، فالنداء بالقوميات أو العصبيات دعوة منتنة، فالدعاوى القومية أو العربية أو الفرعونية أو أي شيء من هذه الدعوات الجاهلية إنما هي دعاوى جاهلية منتنة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بترك هذه الألقاب التي أشرف الألقاب: المهاجرين والأنصار، وهي ممدوحة في القرآن أعظم المدح، وأخبر الله عز وجل أنه رضي عن المهاجرين والأنصار، وامتدحهم الله سبحانه وتعالى، وامتدحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته الشريفة في كثير من المواضع، فنهى عن هذه الألقاب التي هي من أشرف الألقاب إذا كان من باب الدعاوى الجاهلية أو في صورة عصبية. وكذلك الأمر بالنسبة لمسميات الجماعات الإسلامية في أي بلاد، وفي أي مكان، فأي اسم -حتى ولو كان اسماً شريفاً- إذا تحول من معناه البريء المشروع إلى الحزبية والعصبية، فإنه من دعوى الجاهلية التي أمرنا باجتنابها، فلو أن السلفيين مثلاً تنادوا باسم السلفية، وانطبق عليهم هذا المعنى الجاهلي البغيض، فيقال لهم: دعوها فإنها منتنة. وهكذا غيرهم من الجماعات الإسلامية إذا استخدموا هذه الألقاب في العصبية، أو خالفت الجماعة الشرع، أو قالت: من لم يكن معنا فهو علينا وينبغي أن نحاربه، فكل هذه دعاوى جاهلية ينبغي التنزه عنها، والبراءة منها ومن فعل أصحابها، لكن إذا استخدم اللفظ بمعنى صحيح، فلا حرج فيه، كما استخدم لقب المهاجرين والأنصار فيما بينهم، وهذا لا حرج فيه، لكن مهما شرف هذا اللفظ، حتى لو كان لقب المهاجرين والأنصار، لو صار سبباً لتعزيز الدعاوى الجاهلية التي تفصل عرى الإسلام، وتثير النزعات الجاهلية بين المسلمين؛ فيقال لأصحابها: دعوها فإنها منتنة. فدل هذا الحديث -وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوها فإنها منتنة)- على تحريم التنادي بالعصبيات القومية أو القبلية أو غيرها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالترك. وأيضاً دل على تحريم التنادي بهذه العصبيات؛ لأنه وصفها بالشيء المنتن، والله سبحانه وتعالى يقول:  الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ  [النور:26] و(الْخَبِيثَاتُ) من الصفات والأفعال (لِلْخَبِيثِينَ). ويقول سبحانه وتعالى:  وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ  [الأعراف:157]، وأيضاً وصفها بأنها من دعوى الجاهلية، وقال في بعض الروايات: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟!)، فدعوى الجاهلية محرمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يدعو بدعوى الجاهلية، وفي رواية أخرى: (ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية)، فهذا صريح في تحريم الدعاء بدعوى الجاهلية سواء الوثنية.. الفرعونية.. القومية.. وغير ذلك، وهذه الأدلة كلها تدل على التحريم الشديد لهذه النعرة العصبية. ومما يدل على تحريم الحزبية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، عزاء الجاهلية هو: التنادي بنداء الجاهلية، يعني يرفع دعوى الجاهلية: يا قبيلة فلان، يا أصحاب فلان تعصبوا وتحزبوا لمن كان من قبلكم -أي: من بلادكم- ضد الشخص الآخر، وهذا حتى ولو كان ظالماً، فإنهم يظاهرونه، فهذا هو التعزي بدعوى الجاهلية، وهو التنادي بألقاب الجاهلية، وبتحزبات الجاهلية. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه) . يعني: قولوا له: اعضض هن أبيك، والمقصود العورة، وهذا من السب الشديد، وإنما استحقه لأنه أتى فعلاً شديداً، وهو التعزي بعزاء الجاهلية، وإحياء النعرات الجاهلية، قال: ( ولا تكنوا ) يعني: لا تستخدموا الكناية لهذا الترهيب، ولكن أعضوه بهن أبيه باللفظ الصريح عقوبة له على تجروئه على إحياء دعوى الجاهلية، وهذا يدل على شدة قبح هذا النداء، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له. ومن هم رؤساء وزعماء هذه الدعوى الجاهلية؟ هم: أبو جهل ، و أبو لهب ، و الوليد بن المغيرة ونظرائهم من رؤساء الكفرة؛ وذلك لأنهم تنادوا بهذه الدعوى القومية حينما  قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا  [المائدة:104]،  قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا  [البقرة:170]، وأمثال ذلك من الأقوال التي تمسكوا فيها بما كان عليه الآباء وإن كانوا على ضلال مبين. ورفع هذه الدعوات أياً كان اسمها هي عبارة عن نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضاً باتاً، حتى لو نادى من ذلك بروابط عصبية قومية مدارها على أن هذا من العرب فناصره وهذا من العجم فنعاديه مثلاً، والعروبة لا يمكن أن تكون خلفاً من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة، كما قال الرازي : بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الحكمة في جعله بني آدم شعوباً وقبائل هو التعارف فيما بينهم، وليست لأن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها، قال جل وعلا:  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  [الحجرات:13] والمعنى: لتتعارفوا، حذفت إحدى التائين، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة. ونحن لا ننكر أن المسلم قد ينتفع بهذه الرابطة العصبية، لكن هو لا ينادي بها، كما في قوله تعالى:  أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ  [هود:80]، وكما نصر النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب ، وإنما كان دافعه إلى هذه المناصرة وجود الرابطة النسبية، وقال تعالى:  قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ  [هود:91]. إذاً: قد ينتفع الإنسان بهذه الأمور وهذه الرابطة، ولكن لا ينادي بها في الدعوات الجاهلية.  قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ  [النمل:49].

 

 

 

 

الأخوة: أخوة الدين والعقيدة       

 

هذه الرابطة رابطة الأخوة في الإسلام هي التي تكون بين المسلمين، ويكون عليها الولاء والبراء، فقد بين الله سبحانه وتعالى أن الإسلام هو الذي يربط بين أفراد المجتمع الإسلامي دون غيره من الروابط؛ لأنه يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، يقول الشنقيطي رحمه الله: فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). ولذلك يذكر في القرآن الكريم النفس وليس المقصود نفسك أنت، لكن المقصود بها إخوانك المؤمنين، يقول الله عز وجل:  وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ  [البقرة:188] يعني: لا تأكلوا أموال إخوانكم، فنسبها إليكم، فالله عز وجل يطلق النفس على الإخوة تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه كقوله تعالى:  وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ  [البقرة:84]يعني: ولا تخرجون إخوانكم، وكقوله سبحانه لبني إسرائيل:  فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ  [البقرة:54] يعني: فليقتل بعضكم بعضاً، وهذه كفارة ما فعلوه، وقال عز وجل:  لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا  [النور:12] يعني: بإخوانهم فعبر عن الإخوان بالأنفس. كذلك قوله عز وجل:  فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ  [النور:61] يعني: على إخوانكم، فعبر عن الإخوان بالأنفس. وقال سبحانه وتعالى:  وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ  [الحجرات:11] يعني: لا تلمزوا إخوانكم، على أصح التفسيرين. وقوله تعالى كما ذكرنا: ((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ))، أي: لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات. كذلك ثبت في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . وفي رواية: (من الخير) الدالة على أن هذه الرابطة، رابطة الإسلام هي الأصل بين المسلمين، وهذه الرابطة تتلاشى أمامها جميع الروابط النسبية والعصبية.

 

 

 

 

إن أكرمكم عند الله أتقاكم

 

الأدلة التي تبين أهمية الولاء والبراء وبعض حقوقها لا تفرق بين المسلم وأخيه المسلم، لا على أساس اللون، ولا الوطن، ولا اللغة، ولا الجنس، ولا غير ذلك؛ مصداقاً وامتثالاً لقوله تعالى:  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  [الحجرات:13]، لم يقل الله سبحانه وتعالى: إن أكرمكم عند الله أعظمكم نسباً، أو أكثركم مالاً، بل إن أكرمكم عند الله أتقاكم، كما قال بعض الشعراء: ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم وليس على عبد تقي نقيصة إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب) . وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي المتقون)، لم يقل: أهل نسبي وأقاربي، وإنما قال: (إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا)، نرى أحياناً بعض الناس يتغطرسون ويتكبرون على الناس بانتسابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه عظيم، لكن ينبغي الالتزام بسنته وهديه صلى الله عليه وآله وسلم، فأغلب الحكام الظلمة والمناوئين لدين الإسلام يفاخرون غيرهم بأنهم من بني هاشم، فهذا الملك الحسين بن طلال في الأردن يفخر بأنه من الهاشميين وأنه من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وإن سلم لهم أنهم من نسله، فحيث أنهم محاربون لدين الله، ويظاهرون أعداء الإسلام على المسلمين؛ فينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا)، وقوله: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين). فما أثر الانتساب إليه صلى الله عليه وآله وسلم؟ ولا ينبغي لمن رزق هذا النسب أن يجعله عائقاً له عن التقوى، وسبباً لمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة، وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، قال الله تعالى:  يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا  [الأحزاب:30-31]، فالحسنة إذا أتت من أشرف الناس نسباً كأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأقربائه فهي أحسن، والسيئة إذا صدرت من أهل بيت النبوة تكون أسوأ، فقد يبلغ اتباع الهوى لذلك النسب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال بعض الشعراء لشريف ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان سيء الأفعال: قال النبي مقال صدق لم يزل يحلو لدى الأسماع والأفواه إن فاتكم أصل امرئ ففعاله تنبيكم عن أصله المتناهي وأراك تسفر عن فعال لم تزل بين الأنام عديمة الأشباه وتقول إني من سلالة أحمد أفأنت تصدق أم رسول الله يقول الإمام الألوسي رحمه الله تعالى: ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره، وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج يوماً من بيته -ذلك المولى الأسود العالم العابد من بيته- يقصد المسجد، فاتبعه خلق كثير يتبركون به، فلقيه الشريف وهو سكران، فكان الناس يطردونه عن طريقهم، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل؟! وأهان وأنت تعان؟! فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده، وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف! بيضت باطني، وسودت باطنك، فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت، وأخذت سيرة أبيك، وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك. هذه هي مساواة الإسلام، هذا هو معنى:  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  [الحجرات:13]، فهكذا يرتفع بالإسلام أقل الناس وأحقرهم إلى أعلى المقامات، وإلى أشرفها، ولا ينفع هذا الشريف وجود هذه النسبة، وهي شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لابد من التقوى كما بينا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1906 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2390 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1862 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2842 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1479 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦