الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (29)

أوَّل وقت رمي الجمار وآخره

تأملات في حجة الوداع (29)
ياسر برهامي
الخميس ٠٧ فبراير ٢٠١٩ - ١٧:٤٧ م
824

تأملات في حجة الوداع (29)

أوَّل وقت رمي الجمار وآخره

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

بالنسبة لأول وقت الرمي؛ فقد قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-: "اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: "رَمَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ" هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَوْصُولًا بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ بِلَفْظِ: "وَقَالَ جَابِرٌ: رَمَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ"، ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ؛ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي "فَتْحِ الْبَارِي" فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ. الْحَدِيثَ، فَأَعْلَمَهُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ يَرَى قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: "كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا"، لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ صَرِيحٌ فِي الرَّفْعِ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخِرَ يَوْمٍ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ" الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، صَاحِبُ الْمَغَازِي <وقد عَنْعَنَه>، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَالْمُدَلِّسُ إِذَا عَنْعَنَ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَأَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ: الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "رَمَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجِمَارَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ".

وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ بِجَوَازِ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَتَرْخِيصَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَوْلَ إِسْحَاقَ: إِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَجْزَأَهُ، كُلُّ ذَلِكَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثَّابِتِ عَنْهُ الْمُعْتَضِدِ بِقَوْلِهِ: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"؛ وَلِذَلِكَ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي تَرْخِيصِهِ الْمَذْكُورِ صَاحِبَاهُ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْءٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ بِالرَّمْيِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى" (أضواء البيان، 4/ 463).

وأما بالنسبة لآخِرِ وَقْتِ الرَّمْيِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ فقد قال الشيخ الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ رَمْيِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ إِلَى الْغُرُوبِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَرْمِ رَمَى بِاللَّيْلِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: اللَّيْلُ قَضَاءٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَدَاءٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَهُمْ، وَحُجَجَهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَرْمِي بِاللَّيْلِ، بَلْ يُؤَخِّرُ الرَّمْيَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى فَوَاتِ وَقْتِ الرَّمْيِ بِغُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي هُوَ رَابِعُ يَوْمِ النَّحْرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَهُ حَالَتَانِ:

الْأُولَى: حُكْمُ الرَّمْيِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي الْيَوْمَ الَّذِي فَاتَهُ الرَّمْيُ فِيهِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَالثَّانِيَةُ: الرَّمْيُ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

أَمَّا اللَّيْلُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ، وَالْمَالِكِيَّةَ، وَالْحَنَفِيَّةَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ: يَرْمِي لَيْلًا. وَالْمَالِكِيَّةُ بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: الرَّمْيُ لَيْلًا قَضَاءٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يَتَوَقَّفُ فِي كَوْنِهِ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْبَاجِيِّ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي بَعْدَ الْيَوْمِ تَبَعٌ لَهُ، فَيَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهَا تَبَعًا لِلْيَوْمِ، وَالشَّافِعِيَّةُ لَهُمْ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الرَّمْيِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ الْيَوْمِ: هَلْ هُوَ أَدَاءٌ أَوْ قَضَاءٌ؟ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى، وَالْحَنَابِلَةُ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَرْمِي لَيْلًا، بَلْ يَرْمِي مِنَ الْغَدِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِيهِ كَلَامَ صَاحِبِ الْمُغْنِي.

وَأَمَّا رَمْيُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْهَا، فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ: هَلْ هِيَ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ؛ فَالرَّمْيُ فِي جَمِيعِهَا أَدَاءٌ؛ لِأَنَّهَا وَقْتٌ لِلرَّمْيِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ؟ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ؛ فَإِنْ فَاتَ هُوَ وَلَيْلَتُهُ الَّتِي بَعْدَهُ فَاتَ وَقْتُ رَمْيِهِ فَيَكُونُ قَضَاءً فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ؟ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَوْ رَمَى عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي، أَوْ عَنِ الثَّانِي فِي الثَّالِثِ، أَوْ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الثَّالِثِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَمَى فِي وَقْتِ الرَّمْيِ، وَعَلَى الثَّانِي: يَلْزَمُهُ دَمٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاتَهُ رَمْيٌ فِيهِ إِلَى الْغَدِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِتَعَدُّدِ الدِّمَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ، أَوْ دَمٌ وَاحِدٌ عَنِ الْيَوْمَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ التَّعَدُّدِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ -عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّمْيِ؛ فَمَنْ رَمَى عَنْ يَوْمٍ مِنْهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: هُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْعَجْلَانِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ، أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا، هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَفِي لَفْظٍ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَاةَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدَاةِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ.

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْمُوَطَّإِ مَا نَصُّهُ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي تَأْخِيرِ رَمْيِ الْجِمَارِ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى، ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الْآخَرِ، وَنَفَرُوا. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْحَدِيثَ هُوَ صَرِيحُ مَعْنَاهُ فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى: أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا، وَحَدِيثُ عَاصِمٍ الْعَجْلَانِيِّ هَذَا قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ سُقْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْتَدِلِّينَ بِهِ عَلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا رَخَّصَ لَهُمْ فِي تَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الثَّانِيَ وَقْتٌ لِرَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ وَقْتُهُ لَفَاتَ بِفَوَاتِ وَقَتِهِ؛ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي هُوَ خَامِسُ يَوْمِ النَّحْرِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَمْيَ يَوْمٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ قَضَاءٌ لِقَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ الْقَضَاءُ.

فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِطْلَاقَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا فَاتَ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لِلْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ) (النساء:103)، وَقَوْلِهِ: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ) (الجمعة:10)، وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) (البقرة:200)؛ فَالْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الْأَدَاءِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ مَالِكًا -رَحِمَهُ اللهُ-، يُرِيدُ بِالْقَضَاءِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا تَدَارُكًا لِشَيْءٍ عُلِمَ تَقَدّمَ مَا أَوْجَبَ فِعْلهُ فِي خُصُوصِ وَقْتِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِهِ أنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى اللَّيْلِ فَمَا بَعْدَهُ أَنَّهُ قَضَاءٌ، يَلْزَمُ بِهِ الدَّمُ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رَمْيَ يَوْمٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ قَضَاءٌ لِعِبَادَةٍ خَرَجَ وَقْتُهَا بِالْكُلِّيَّةِ اسْتِنَادًا لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ عِبَادَةٌ مُوَقَّتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذْنُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي فِعْلِهَا فِي وَقْتٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ أَجْزَاءِ وَقْتِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مُوَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ يَنْتَهِي بِالْإِجْمَاعِ فِي وَقْتٍ مَعْرُوفٍ، وَيَأْذَنُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي فِعْلِهَا فِي زَمَنٍ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَهَذَا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ؛ وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي فِعْلِ الْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ وَقْتِهَا عُلِمَ أَنَّهَا أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ، وَالْأَدَاءُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ هُوَ إِيقَاعُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا شَرْعًا لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْوَقْتُ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِالرَّمْيِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِهِ، بَلْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَمْرٌ بِقَضَائِهِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي رَابِعِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ قَضَاءُ الرَّمْيِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ لَجَازَ الرَّمْيُ فِي رَابِعِ النَّحْرِ وَخَامِسِهِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْقَضَاءُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فَاتَ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالصَّلَاةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ أَدَاءٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ صَلَّى بَعْضَهَا فِي آخِرِ الضَّرُورِيِّ وَبَعْضَهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ فَهِيَ أَدَاءٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ" وَعَرَّفَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ الْأَدَاءَ وَالْوَقْتَ وَالْقَضَاءَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِقَوْلِهِ:

فِعْلُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ عُيِّنَا ... شَرْعًا لَهَا بِاسْمِ الْأَدَاءِ قُرِنَا" (أضواء البيان، 4/ 467 - 469).

والصحيح -فيما ذكره مِن المسائل-: جواز الرمي في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته الرمي فيه مِن أيام التشريق؛ لأنه داخل في معنى المساء، وإنما يشرع الرمي مساءً، ولم يوقِّت لنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انتهاء الرمي عند الغروب؛ فدَلَّ ذلك على جواز الرمي ليلًا، في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته الرمي.

وأما الرمي في يومٍ آخر مِن أيام التشريق؛ فما ثبت فيه الترخيص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومِن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النفر، مع تفسير الإمام مالك الواضح لذلك أن يرموا يوم النحر، ثم يتركوا يوم الحادي عشر، ثم يرموا يوم الثاني عشر، أولًا ليوم الحادي عشر ثلاث جمرات ثم ليوم الثاني عشر ثلاث جمرات، ثم إن شاءوا نفروا مِن منى وإن شاءوا رموا يوم الثالث مع الناس، فكل ذلك جائز؛ دَلَّ ذلك على أن مَن كان معذورًا جاز له أن يَجمع رميَ يومَي الحادي عشر والثاني عشر في اليوم الثاني عشر، والله أعلم.

ولا يكون في ذلك قضاء ولا دم؛ لأنه معذور، والله أعلم، ومَن لم يكن معذورًا فقد تَرَك ما وَجَب عليه؛ فعليه الدم، والله أعلم.

فالخلاصة: أن آخر وقتٍ للرمي في أيام التشريق هو طلوع الفجر مِن الليلة التي تلي اليوم الذي وَجَب فيه الرمي، يبدأ بالزوال وينتهي بطلوع الفجر، ولا قضاء عليه، وإن كان معذورًا جاز أن يرمي مع اليوم الذي يليه، والله أعلم.

ويستحب التأخير في أيام التشريق لليوم الثالث، ويقف للدعاء كما فعل في اليومين الأوَّلَين مِن أيام التشريق، لفِعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك، فإنه إنما خرج مِن منى يوم الثالث عشر بعد أن رمى الجمرة، وصلى الظهر بالمُحَصّب؛ صَلَّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والمُحَصّب هو المكان المعروف حاليًا بـ: "المعابدة"، وهذا دليل على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يجعل صلاة الظهر بعد الرمي، على الأقل في اليوم الثالث، والله أعلى وأعلم.

قال الشيخ الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ-: "اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ غَرَبَتْ شَمْسُ يَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بِمِنًى؛ لَزِمَه الْمُقَامَ بِمِنًى حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَلَا يَنْفِرُ لَيْلًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي؛ فَلْيقمْ إِلَى الْغَدِ حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ». وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لَيْلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛ فَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ لَزِمَهُ الْبَقَاءُ، حَتَّى يَرْمِيَ" (أضواء البيان، 4/ 476).

قلتُ: رغم أن الأحوط هو أن يبيت ليلة الثالث عشر إذا أدركه الليل وهو بمنى إلا أنه لا دليل على ذلك الوجوب، ولا إجماع، وأمر عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يحتمل أن يكون لبيان الأفضل، والله أعلم.

ثم إن المخرج مِن ذلك عند مَن يريد التعَجُّل: أن ينوي التعَجُّل بمجرد رمي جمرة العقبة، ثم يخرج تلقائيًّا مِن خلال جسر الجمرات أو مَمَرِّها حتى يخرج مِن منى، ثم إنه يجوز أن يعود إلى منى لغير تَعَبُّد -كأن يأخذ مَتَاعَه أو نحو ذلك-؛ فيخرج مِن الخلاف، والله أعلى وأعلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة