الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (47) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (5-5)

إن نزيف الأدمغة في بلادنا مرعب وخطير، ويبدو أنه سيستمر بمعدلاته الحالية إن لم يزد

الفساد (47) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (5-5)
علاء بكر
الأربعاء ١١ مارس ٢٠٢٠ - ١٠:٠٠ ص
498

الفساد (47) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (5-5)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا تتوقف معاناة الكفاءات العلمية التي هاجرت إلى الدول الغربية المتقدمة على ما يواجهونه هناك مِن غربة وتحديات وصعاب؛ لإثبات الذات، وتحقيق الآمال التي يتطلعون إليها، أو مواجهة أعباء الحياة المادية، ومحاولة التكيف مع المجتمعات الغربية دون الذوبان فيها وفقد الهوية، بل تمتد هذه المعاناة إلى المعاناة الجديدة التي يمكن أن يواجهوها إذا أرادوا بجدية العودة إلى وطنهم الأم والاستقرار فيه؛ حنينًا وشوقًا، أو هروبًا من الغربة والحياة الغربية المادية الجافة، أو رغبة في خدمة وطنهم بما حصلوه من خبرات، أو رغبة في أن يتربى أولادهم على قيم وأخلاق ومبادئ الدِّين، لا على قيم ومبادئ وسلوكيات الغرب العلماني، أو رغبة في استثمار أموالهم التي جنوها في مشاريع واستثمارات داخل بلادهم، بدلًا مِن استثمارها في الخارج، فسرعان ما تواجههم في الوطن الأم مشكلات وعوائق فوق الظروف والأحوال التي تركوا البلاد من قبل من أجلها، وظنوا أنهم يمكنهم أن يتجاوزوها بما حققوه من علوم وتخصصات أو جنوا من أموال يمكنهم الاستثمار فيها، إذ سرعان ما يصطدمون بأوضاع جديدة لم تكن في الحسبان تدفع الكثيرين منهم دفعًا إلى مغادرة الوطن من جديد وعدم الاستقرار بعائلاتهم فيه!

فبعد العودة من دول متقدمة ومتطورة تقدر العلم والعلماء، وتوفر لهم المناخ العلمي والحرية الأكاديمية والوظائف المناسبة والمناصب، وينعمون فيها بالتقدير والتكريم في مقابل ما يبذلونه ويقدمونه للدولة التي يقيمون فيها، يصطدمون في بلادنا بصور من المعاملة تناقض ذلك تماما:

1- فلا تقدير لتخصصاتهم وخبراتهم العلمية، وكأن الدولة لا تحتاج لها مع كونها في شدة الاحتياج لهم، ولكن لا توجد معايير علمية لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب.

2- يسود مجتمعنا الفوضى وعدم احترام النظام وعدم تقدير قيمة الوقت، وهي سلبيات تتحول إلى مضايقات مصطنعة مكثفة في نظر العائدين من أجل خدمة وطنهم والإقامة فيه.

3- الكبت وفقد الحرية الأكاديمية والتعرض للضغط الفكري وانعدام الاستقرار النفسي.

4- المساومة في الرواتب والأجور ونوعية العمل المقدم لهم إن وجد لاعتبارات سياسية أو حزبية أو اجتماعية دون أدنى اعتبار لاحتياجات المجتمع، وإمكانيات الفرد ومؤهلاته وقدراته، والأمثلة على ذلك من الواقع مؤسفة للغاية!

5- احتكار المناصب والوظائف المهمة والسلطات لفئات معينة في الدولة، وبالتالي تسخير ذوي الكفاءات والخبرات العلمية في أدوار روتينية أو أعمال آلية تنفيذية، ولسان الحال: اخضع لنا أو ارحل عنا (هو إحنا ناقصين!).

6- عدم توافر البيانات والمعلومات والإحصائيات لأي دراسة أو بحث علمي يقوم بها باحث، وافتقاد الشفافية في البيانات والمعلومات المتاحة لأي دراسة اقتصادية للتعرف على الحالة الاستثمارية، بل وربما اعتبار منحها للباحثين إن وجدت خيانة للوطن، ومِن الإخلاص للوطن حجبها أو التلاعب فيها! لذا فمن السهل على الباحث وهو داخل وطنه أن يتوجه إلى مصادر أخرى أجنبية للحصول على البيانات والمعلومات التي يحتاج إليها أكثر من استطاعته الحصول عليها من مصادر محلية.

7- نظرة الشك الحكومية الدائمة تجاه ذوي الكفاءات العلمية والخبرات القادمين من الخارج والتي قد تصل إلى حد مراقبتهم أو التجسس عليهم، فكل قادم من الخارج يعامل معاملة الشك فيه والاتهام له حتى تثبت براءته لا العكس.

8- تقديم الكفاءات الأجنبية في العمل وتقديم الرواتب المغرية لهم على حساب الكفاءات الوطنية التي تحمل نفس الدرجة من التخصص والخبرة، بل وقادمة أيضًا من الخارج، فيحرم أصحاب الكفاءة والخبرة الوطنيين من فرص العمل وتمنح للأجانب، ويحرم من نفس الراتب والمكافآت والحوافز إن منحت له، وهذا بلا شك له تأثيره النفسي السيئ على هذه الكفاءات العلمية:

أحـرام عـلى بلابله الدوح                 حلال للطير من كل جنس

والأدهى والأمرّ: أن الغرب يرسل لنا خبرائه من المستوى الثاني أو الثالث، ويشترط في مِنحه وقروضه لنا استقدام خبرائه الأجانب للمشاريع التي تقام بها، وتقديم الأجور المبالغ فيها أحيانًا لهم، وهو يضن علينا بخبرائه مِن المستوى الأول، ومنهم للأسف خبراء مصريون وعرب! (راجع في ذلك: "نزيف الأدمغة" د. عطوف محمود ياسين، ص 80- 88).

التوقعات المستقبلية يسودها التشاؤم:

إن نزيف الأدمغة في بلادنا مرعب وخطير، ويبدو أنه سيستمر بمعدلاته الحالية إن لم يزد، فـ(لرغبة الحكومة المصرية في تشجيع الهجرة للعمل في الخارج، قد أقامت إدارة خاصة للهجرة في وزارة الخارجية لتأمين أسواق للعمل في البلدان المختلفة)، وهناك الملايين من الخبراء والأطباء والمدرسين والمهندسين والمتخصصين يعملون في الخارج، في الوقت الذي تشكو مناطق كثيرة في مصر من نقص حاد في المدرسين والأطباء في مختلف التخصصات.

ويرجع السبب في تشجيع الدولة لهذه الهجرة واستمرار ارتفاع النمو السكاني مع انحسار تواجد السكان في نحو 6 % فقط من مساحة مصر الكلية؛ أي التواجد على حوالي 60 ألف كيلو متر مربع فقط من إجمالي مساحة مصر، والتي تبلغ مليون كيلو متر مربع (أي بنسبة 60 من ألف من المساحة الإجمالية لمصر)، والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى تجاهل -أو فشل- الحكومات المتعاقبة في مصر عبر العقود الماضية في إعادة توزيع السكان، وإنشاء المدن الكثيرة الجديدة، وإدخال البنية التحتية والخدمات الأساسية فيها، وإنشاء المشاريع الاستثمارية الضخمة فيها، واستثمار موارد البلاد الكثيرة، خاصة في سيناء والصعيد وسواحل البحر الأحمر والصحراء الغربية، والاستفادة من الظهير الصحراوي للمحافظات الحالية مما ترتب عليه تزايد البطالة.

(إن التوقعات المستقبلية في أي مشكلة تحتاج إلى بيانات وإحصائيات دقيقة حول طبيعة المشكلة وأبعادها ونتائجها، وتعتبر مشكلة هجرة العقول من أقل المشكلات التي اهتمت بدراستها مجالس البحوث ومعاهد الدراسات، ويمكننا الاعتماد على إحصائيات اليونيسكو وهيئة الأمم ووزارات العمل وإدارات الهجرة والجنسية في الدول الأجنبية، أما في الدول العربية فإن وجود بيانات وإحصائيات للتحليل وافتراض توقعات مستقبلية فإنه أمر مشكوك فيه؛ نظرًا لأن البحوث العلمية الجادة واستخدام الإحصاء كأداة علمية ما يزال غائبًا في مناطق كثيرةٍ، ولاعتباراتٍ كثيرةٍ، فالذي يقوم بتقرير الميزانيات الضخمة وتوزيعها وإنفاقها قلة، ولا غرابة أن يتبع ذلك تخلف الأمور المرتبطة بخطط التنمية وأسواق العمل ورأس المال البشري المتخصص وظروفه ومآسيه، ويبدو كل شيء يقرر بالنيابة عن الإنسان العربي وفي غيابه) (المصدر السابق، ص 117 - 118 بتصرفٍ).

(إنه لا أمل من تخفيف هجرة العقول ما لم تعالج الدول أسباب النزيف)، فـ(إزالة مصادر العلة -وما أكثرها!- جراحيًّا هو الطرف الأول في إيقاف النزيف؛ أما الإجراءات الروتينية من مؤتمرات وضجيج إعلامي وتوصيات ورقية دون تنفيذ، فهي مجرد تخدير ومسكنات للجسم المريض)، (والجانب الثاني بجانب استئصال أسباب المشكلة هو: تحديد الطلب المتزايد من الدول التكنولوجية لهذه العقول ومعاملتها بالمثل، ومن الضروري أن نقيم دومًا علاقة سببية بين التنمية وبين مواجهة مشكلة النزيف في العقول وهجرتها للخارج. إن منطق التاريخ الذي سارت حسب قوانينه دول كبيرة: كاليابان، وروسيا، وألمانيا في خطط التنمية بها تعلمنا درسًا بليغًا مؤداه أنه لا يوجد رادع يوقف نزيف الهجرة أو جاذب للمهاجرين للرجوع إلى الوطن سوى التنمية المخططة العادلة المتكافئة، والشاملة المتكاملة، وإن هذا النوع من التنمية لا يمكن أن يقوم مع غياب المؤسسات الديمقراطية الشعبية والنقابات المهنية التي تختلف كليًّا عن الواجهات الحكومية والبرلمانية، إن هذا التحليل المتشائم يأتي بعد النظرة الواقعية التي سبق أن شرحناها باستئصال الأسباب وتحديد الطلب على العقول من الخارج. والنظرة المتشائمة ترى أن هجرة المهندسين والفنيين من البلاد العربية إلى الدول المتقدمة ستزداد، وبمعنى آخر: إن النزيف سيتصاعد ما دامت الأسباب الدافعة للهجرة قائمة، والحوافز الجاذبة في الدول التكنولوجية المتقدمة قائمة) (المصدر السابق، 119- 120 بتصرفٍ).

المواجهة والحلول:

إن النقد البناء أول طريق التصحيح، فكل شيء في عالمنا قابل للنقد من أجل التصحيح والتغيير من أجل حياة أفضل، ورفض التصحيح والتغيير هو عجز.

ويتفق جميع خبراء التنمية أن العلاج يكمن في:

1- معالجة أسباب الداء.

2- وضع خطة شاملة داخلية للعمل تتضمن الشمولية والموضوعية والتكامل، مبنية على تشخيص دقيق لأبعاد المشكلة.

3- وضع الخطة في حيز التنفيذ وإلا فهي مجرد كلام.

4- تكون مواجهة نزيف الأدمغة على المستوى الداخلي والإقليمي والعربي والدولي، تبدأ الحلول من الداخل ولكنها لا تكون بمعزلٍ عن التعاون الشامل والمخطط له مع الدول العربية، ولا تغفل التعامل مع الأطراف الدولية.

5- تناول خطة العمل في كل حل من الحلول سببًا من الأسباب وترتبط به، حتى يتم حل المشكلة من جذورها، فلا نكتفي بتناول مجرد الأعراض الظاهرة منها فقط.

6- تجسيد خطة العمل في خطوات تنفيذية مع تقييم دوري، ومتابعة دائمة لتعديل وتحسين الحل والخطة.

7- تقسيم الحلول بحسب إلى ما هو عاجل ومصيري، وما هو متوسط أو بعيد، وهذا التصنيف للحلول ينبني على دراسة جادة بحسب واقع الحلول العملي وأولوياتها.

وقد ذكر د. عطوف محمود ياسين في كتابه: (نزيف الأدمغة) الذي طبع في بيروت عام 1984م الكثير من التوصيات والحلول المقترحة لهذه المشكلة الخطيرة، والتي مازالت تحتاج للتذكير بها؛ إذ لم تطبق رغم مرور أكثر من 35 عامًا على اقتراحه لها، ومنها:

1- زيادة رواتب ذوي الكفاءات العلمية والمتخصصين حيث رواتبهم إلى تحتاج إلى إعادة نظر في ظل الغلاء والتضخم المالي؛ ولهذا أثره في استقرارهم المادي والنفسي، وجذبهم للعودة لأوطانهم، وقد كشفت الدراسات أن هناك دولًا نجحت في استقطاب الكثير من علمائها وخبرائها في الخارج من خلال زيادة رواتبهم ومنحهم علاوات إضافية فوق رواتبهم العادية، وقد (دعت هيئة الأمم المتحدة في أحد تقاريرها حكومات الدول المعنية لبذل الجهود لتحسين ظروف العمل، وتقديم الإغراءات المالية لأصحاب الكفاءات العلمية والمتخصصين).

2- مساواة الخبراء المحليين بالخبراء الأجانب طالما أنهم يحملون نفس الشهادة والمؤهل، ويؤدون نفس العمل؛ إذ إننا نعاني من عقدة تجاه (الخواجة) الأجنبي فنقدمه على الخبير المحلي. إن مراعاة كرامة علمائنا وخبرائنا تقتضي مساواتهم في الأجر والتكريم بالخبير الأجنبي الذي يتساوى معه في الشهادة والكفاءة بلا تمييز.

3- الحرص على تكريم العلماء والخبراء والمتخصصين، إذ إن الكثيرين منهم في بلادنا محرومون من التكريم والتوقير، بينما يَجد نظراؤهم ممَن يتوجهون للعمل بالخارج صورًا واضحة مِن تكريم حكومات الدول الأجنبية لهم من خلال الاحتفاء بهم وإظهار إنجازاتهم ومنحهم الدرجات الفخرية والشهادات التقديرية والامتيازات.

إن الحد الأدنى أن يكون هناك عيدًا للعلم والعلماء تقدَّم فيه الجوائز والمكافآت السخية للنابغين من العلماء في كل التخصصات، لإعادة شعور العلماء بمكانتهم وتقدير الدولة لهم، وهو شعور يحتاج لوقتٍ طويلٍ وجهدٍ كبيرٍ لإعادة بنائه، ولا بد أن نسارع في إيجاده.

4- الحد من الروتين والبيروقراطية: فما زالت الإدارات والمؤسسات في بلادنا تعاني من بيروقراطية وروتين، وتضخم في أعداد الموظفين بصورة تتسبب في إعاقة كبيرة للإنتاج وإهدار للوقت والجهد، وقد أكدت الدراسات أن الحصيلة الإنتاجية لنفس ساعات العمل في بلادنا تقل كثيرًا جدًّا، وبدرجة مفزعة عن مثيلاتها في الدول المتقدمة.

وللأسف تمتد آثار المماطلات الإدارية والروتين إلى عمليات التعيين والترقية، وتحسين ظروف العمل والعاملين، وتمتد لشهور طويلة وسنين، وأحيانًا العمر كله!

إن الشكاوى لا تنقطع مِن أصحاب الكفاءات وذوي المؤهلات من الطرق الروتينية التي تقابلهم في التعامل مع الموظفين الإداريين، وهي تشير إلى:

- أن العمل عندنا ليس له مواصفات ومسئوليات محددة؛ ولهذا فالموظف لا يعرف على وجه الدقة ما هو مطالب به مِن واجباتٍ محددةٍ.

- أن الضمير والوعي والوجدان كلها أمور مفقودة عند الكثير من الموظفين، وهي أمور تحتاج إلى تربية منذ الطفولة، ويزيد الأمرَ سوءًا غيابُ المراقبة والمتابعة، والثواب والعقاب.

- أن التعيين للموظفين يتم غالبًا بناءً على المحسوبية والواسطة، لا على القدرات والكفاءة والخبرة والعلم؛ ولذا فإداراتنا سيئة.

- افتقاد التدريب العملي للموظفين سواء التدريب قبل التعيين وهو تدريب أساسي، أو التدريب أثناء العمل للتعرف على كل ما هو جديد، وتصحيح ما يوجد من خلل، وبدون هذين النوعين من التدريب فلا أمل في أي إصلاح للنظام الإداري.

5- توفير البيئة العلمية والمناخ العلمي الجيد الذي يساعد العلماء على إطلاق القدرات ويولد الإنجازات الكبيرة، ويبرز الإنتاج العلمي إلى الوجود (والذي نعنيه بالمناخ العلمي هو تأسيس الجمعيات ومراكز البحوث العلمية، والانفتاح العلمي على الخارج والاتصال بأحدث التطورات العلمية والتكنولوجية في العالم، وتخصيص المبالغ اللازمة للحد من التخلف العلمي، وإشراك العلماء والمتخصصين بالمؤثرات العلمية الدولية والمحلية بناءً على قدراتهم ومقدرتهم دون محاباة وتمييز وتفرقة)، (وتزويد المكتبات بأحدث المراجع والمصادر، وتسهيل استخدامها في البحث كعامل مساعد دون عوائق)، (والسماح للأساتذة بالتفرغ تفرغًا كاملًا أو نصف وقت للإنتاج العلمي دون إملاء وقته بتفاهات روتينية وإدارية، تمتص منه الوقت والجهد وتحول عمله إلى مجرد عبث غير منتج واستنزاف. ويرتبط بضمان المناخ العلمي: إقامة الندوات، وتشجيع المحاورات والمناظرات، إلخ).

6- توفير الحرية الأكاديمية والشخصية: فالحرية في الحدود المعقولة جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان وكرامته، ولا بحث علمي جاد بدون كرامة وحرية في إطار مؤسسات الدولة، وفي وجود قضاء عاجل وإعلام هادف.

7- ضمان حد أدنى معقول من الاستقرار المادي والنفسي للكفاءات العلمية: فانعدام الرضا من أسباب عدم البقاء داخل البلاد، والتوجه إلى الخارج حيث الاستقرار المادي والنفسي، (فتأمين ظروف العيش الكريم الملائم، وظروف العمل العادلة هي الخطوات الأولى في هذا السبيل)، والاستقرار النفسي يتطلب المسارعة والمبادرة في رسم خطة عملية تتجسد بالتزامات وتعهدات من الدولة في تأمين الاستقرار المادي والسكني، والاجتماعي والسياسي، والعائلي، والعلاجي، والفكري والعلمي؛ وإلا فلن يكون هناك استقرار نفسي.

8- تعديل وتصحيح التشريعات المنظمة للهجرة: فللقانون دوره في إحداث التغيير حين يوضع موضع التنفيذ، والدول المتقدمة تضع تشريعات وقوانين تجذب -وبقوة- خيرة العلماء والمتخصصين، وللحد من الهجرة للخارج؛ فلا بد من إصدار تشريعات وقوانين تحد من الهجرة، وتجذب أصحاب الكفاءات للبقاء في بلادنا.

9- التطوير والتنمية الاقتصادية بعيدة المدى للتخلص من التخلف الاقتصادي والاجتماعي والحضاري الذي ترزح البلاد تحته، فالتغني بالماضي والانجراف وراء المسكنات التي تطلقها أجهزة الإعلام ليل نهار لا تحجب الحقيقة التي نعيشها، ولا بد من التغيير الشامل في نظام الإنتاج والاقتصاد، ومن خلال التنمية الاقتصادية وتصعيد مشاريع التنمية يتم توفير وظائف وتخفيف البطالة.

10- التخطيط التربوي بعيد المدى: فالتربية العملية صناعة لإنسان مدرب فكريًّا وعمليًّا للمشاركة في بناء المجتمع، وللأسف فالتربية عندنا تربية عشوائية مزاجية تحتاج إلى إعادة تحديد الأهداف ووسائل تحقيقها ومناهجها ونشاطاتها، إننا نحتاج إلى ثورة في التربية. (إن التخطيط التربوي سيضع على المدى البعيد يده على إعادة تحديد أهداف التربية لبلادنا، ووسائل تحقيقها ومناهجها، وإطاراتها ومؤسساتها ونشاطاتها. وهذه الأسس الستة للتخطيط التربوي تعني إحداث ثورة في التربية يتولى إقامتها التخطيط، وعندها نضمن تخفيف حدة الهجرة إلى الخارج.

11- إتاحة ثورة تعليمية: فالتربية والتعليم وجهان لعملة واحدة، وبهما معًا يكون إيجاد العناصر البشرية المدربة والماهرة، وزيادة الطاقات الاقتصادية والاجتماعية. إن الإصلاحات الطفيفة في نظام التعليم لم تحقق الثمار المرجوة، ولابد من ثورة جذرية تتناول كافة جوانب التعليم من مفاهيم وأهداف ونظريات، وقيم ومناهج، وبرامج ووسائل ونشاطات ومؤسسات، وفلسفة تحتوي كل هذه العناصر. وأكد خبراء اليونسكو على أن إصلاح الأنظمة التعليمية في رأس قائمة التدابير الواجب اتخاذها للحد من استنزاف الأدمغة.

نموذج الصين الشعبية:

إن الثورة العلمية والتربوية والثقافية كانت وراء تحول الصين في وقت قصير إلى دولة كبرى تملك قنابل ذرية، فقد (وجَّه الزعيم ماوتسي تونج بعد انتصار الثورة الشيوعية في عام 1949 م نداءً وطنيًّا إلى العلماء والأخصائيين والطلبة، وخاصة الذين يدرسون في أمريكا يحثهم فيه على العودة إلى الوطن مصورًا لهم بزوغ فجر جديد في الصين الشعبية، ومقدمًا لهم شتى الإغراءات المالية والعلمية والنفسية؛ فلبى نداءه عدد كبير من العلماء والطلاب في حقل الذرة والصواريخ، وكان إنشاء البرامج النووية وتطويرها في الصين، وقد عاد إلى الصين مع نهاية عام 1952م ما يزيد عن 1500 طالب من أمريكا إلى الصين لخدمة وطنهم، وبلغ عدد العائدين في عام 1962 م ما لا يقل عن 5500 عالم ومهندس، معظمهم تدرب في اليابان وأوروبا الغربية وأمريكا، وتعتبر الأكاديمية الصينية للعلوم شبيهة بالأكاديمية السوفيتية للعلوم في موسكو، وهي قوة قيادية فعالة في معاهد ومؤسسات التعليم العالي، وفيها علماء بارزون.

وقد فجرت الصين عام 1964 م أول قنبلة ذرية لها، وأطلقت في عام 1966م أول صاروخ نووي، وأجرت في عام1967 م أول تجربة لقنبلة هيدروجينية، وأطلقت في عام 1970 م أول قمر صناعي إلى الفضاء.

والسؤال: هل كان بإمكان الصين الحديثة إحراز هذا التقدم المذهل لو لم تقم بثورة تعليمية وتربوية، وتستثمر جهود علمائها وخبرائها العائدين للوطن، إلى جانب المساعدة من الخارج من خلال التنسيق مع الأكاديمية السوفيتية في موسكو وفي الصين؟!

ولم (تنجح الصين بسهولة، فقد واجهت صعوبات ومشاكل عديدة أثناء السنوات الأولى لثورتها، ومِن أبرز هذه الصعاب: حاجتها الكبيرة إلى الفنيين والأخصائيين، ولم تتمكن من الانطلاق في طريق التصنيع والتنمية السريعة إلا عندما غيَّرت نظامها التعليمي والتربوي، وأحدثت ثورة في أهدافه ومحتوياته وأساليبه، وتعتبر الثورة الثقافية لعام1966 م في الصين أعنف ثورة تعليمية تربوية حضارية في تاريخ العالم، ساهمت في إيجاد إنسان جديد، وجذبت من الخارج أعظم الطلقات من ذوي الكفاءات).

نموذج الولايات المتحدة الأـمريكية:

قامت أمريكا بتغيير جذري في النظام التعليمي والتربوي بعد أن نجح الاتحاد السوفيتي في إطلاق أول قمر صناعي عام 1957 م، حيث اتفق الجميع على أن الانطلاق لن يكون إلا بإحداث تغييرات ثورية وجذرية في التربية والتعليم، ومناهج الدراسة وأساليبها، وتبلور هذا الاتجاه في قانون 1958 م أطلق عليه: (القانون التربوي للدفاع الوطني)، وكان مِن سماته:

- تقديم قروض فيدرالية للطلبة الأذكياء والمتفوقين، والاهتمام بهم وتوجيههم علميًّا وتربويًّا.

- تقديم مساعدات سخية للهيئات والمؤسسات التربوية والتعليمية لتحسين برامجها.

- تطوير مناهج التعليم وبرامجه، وعلى الأخص تدريس العلوم والرياضيات.

- تحسين التربية المهنية، والإنفاق بقوة على الدراسات العليا والتخصصية، وتوسيع برامج تدريب المعلمين، وإدخال الوسائل السمعية والبصرية كجزءٍ لا يتجزأ من العملية التربوية.

12- تقييد الدراسة في الخارج بمسئوليات وطنية: بتقييد المنح الدراسية والبعثات، بتعهدات وضمانات قانونية لعودة المبعوث لخدمة وطنه لفترة مناسبة في تخصصه، مع حسن اختيار هؤلاء المبعوثين وحسن إعدادهم.

13- إنشاء بنك للعقول العربية في الخارج: من خلال إجراء مسح شامل للطاقات والكفاءات في الخارج، وإجراء مسح شامل لاحتياجات وأولويات الخطة التنموية، أي تزويد البنك بأدق المعلومات التفصيلية لاستخدامها في التعامل مع تلك المشكلة عن دراية ومعرفة.

14- إنشاء سوق للعقول العربية: فمن خلال بنك العقول في الدول العربية يمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي لكل دولة أولًا ثم إنشاء سوق عربية مشتركة لهؤلاء الخبراء وذوي الكفاءات في العالم العربي ككل، والتكامل عن طريق هذه السوق.

15- إنشاء مدينة عربية للبحث العلمي: على أن تكون مدينة محايدة لا تخضع للضغوط والمآرب السياسية المحلية، وتكون قادرة على استقطاب أعظم العقول في الداخل والخارج، وتعمل على توطيد الصلات بكافة الهيئات العلمية والدولية، ومراكز البحوث العالمية بشتى الميادين والتخصصات، ويكون لها مؤتمرات سنوية ومجلة شهرية بلغات متعددة مع ارتباط نشاطاتها دومًا بخطط التنمية وسوق العمل دون انعزال عن العالم.

16- وضع ميثاق لتوظيف الكفاءات العلمية: تلتزم فيه الدول العربية بعدم التمييز بين عربي وعربي من ذوي الكفاءات، وتوظيفهم في تخصصاتهم دون حواجز أو فوارق، وضمان حرية السماح لهم باختيار العمل والبلد والفترة التي يعملون فيها، ومساواتهم بالخبراء الأجانب، والهدف من ذلك: وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.

17- إقامة مكاتب توظيف في الدول المتقدمة لاستقطاب الكفاءات العلمية، أي في نفس المكان الذي يقوم باجتذابهم؛ لإغراء العقول المهاجرة بسبل إغراء وتشجيع مناسبة للعودة للوطن بالتنسيق مع السفارات والقنصليات والبعثات الدبلوماسية هناك، وإقامة مكاتب توظيف داخل البلاد العربية على أسس علمية تطابق بين الفرد ومؤهلاته وخبراته، وبين عمله وواجباته ومسئولياته.

18- إنشاء مكاتب إعلامية في الخارج لجذب العقول المهاجرة.

19- إنشاء جامعة للدراسات العليا للجاليات العربية في الخارج تجمع الطلبة العرب الراغبين في الدراسات العليا بدلًا من تشتتهم في الجامعات الأجنبية، وتستقطب العلماء العرب والمسلمين في شتى التخصصات.

وقد نجح اليهود في تأسيس عدة جامعات في أوروبا وأمريكا حققت هذه الأغراض، وأصبح لها تأثيرها على الرأي العام علميًّا وإعلاميًّا (للاستزادة راجع المصدر السابق، ص 130 - 166).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة