الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (59) ضرورة صبغ التعليم بصبغة عربية إسلامية (1-4)

مكانة العلم في الإسلام- المسلمون سادوا العالم بالعلم- غاية العلم في الإسلام عبادة الله -تعالى-...

الفساد (59) ضرورة صبغ التعليم بصبغة عربية إسلامية (1-4)
علاء بكر
الثلاثاء ١٦ يونيو ٢٠٢٠ - ٠٩:٥٩ ص
412

الفساد (59) ضرورة صبغ التعليم بصبغة عربية إسلامية (1-4)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كان الاندفاع نحو التعليم على النهج الأوروبي منذ عهد "محمد علي" إلى اليوم وراء البُعد عن التعليم على النهج الإسلامي الذي عاشت في ركابه الأمة ولقرونٍ عديدةٍ؛ مما تسبب في فقد الأمة الكثير مِن هويتها وسمتها العربية الإسلامية في التعليم، وبالتالي تحولها شيئًا فشيئًا إلى مزيدٍ من التبني للتعليم على النهج الأجنبي العلماني. ولا شك أن لكل نهج مِن التعليم أثره في المتعلمين، ينعكس على فكرهم وتربيتهم وثقافتهم وأساليب حياتهم.

وقد يتعجب البعض من سماع مصطلح: (التعليم الإسلامي)، وكأن الإسلام ليس له نهجه الخاص في التعليم والذي يختلف في الغاية والمضمون عن التعليم الغربي، والذي فقدت الأمة الكثير والكثير نتيجة ابتعادها عنه، وأصبحنا في أشد الحاجة لاستعادة ما فقدناه. إن لنهج التعليم دوره الفعال في تشكيل الأمة وصناعتها أفرادا وجماعات، ولم يكن الإسلام بمعزل عن هذا الأمر المهم؛ إذ للإسلام توجهاته التي تجعل من التعليم أداة ووسيلة لنفع المسلمين أولًا وللبشرية كلها ثانيًا، وهو ما شهدته البشرية وعرفته في ظل ازدهار الحضارة الإسلامية وقيادتها للعالم لقرونٍ عديدةٍ.

ثم جاءت قرون الضعف بالتخلي عن منهج الله -تعالى-، وبالابتعاد عن الإسلام ليعاني المسلمون من التراجع والتخلف، وفي غفلة استبدل المسلمون التعليم على النهج الغربي -الذي هو أدنى- بالذي هو خير -وهو التعليم على النهج الإسلامي-، فلم يزدهم ذلك إلا مزيدًا مِن التخلف والضياع، وهم يظنون ويتوهمون أنهم يحسنون صنعًا! وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وللأستاذ الدكتور طلعت محمد عفيفي -وهو وزير سابق لوزارة الأوقاف المصرية- رسالة قيمة بعنوان: (مدخل إلى التعليم في ضوء الإسلام) تم طبعها ونشرها من قبل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية في منتصف شهر ذي القعدة عام 1433 هـ - الموافق شهر أكتوبر عام 2012م ضمن سلسلة (دراسات إسلامية - العدد 208)، وهي التي سنعول على ما ذكره فيها من مقارنة بين التعليم في ضوء الإسلام والتعليم المأخوذ من الحضارة الغربية الحالية.

مكانة العلم في الإسلام:

(لا يوجد دين أشاد بالعلم ورفع من قدره وأعلى من منزلته مثل الدين الإسلامي، ويتضح ذلك جليًّا من خلال النصوص الكثيرة التي وردت في كتاب الله -تعالى-)، (حتى إن كلمة (علم) وحدها وردت بتصريفاتها المختلفة في عددٍ مِن آيات القرآن يقترب من التسعمائة آية)، إلى جانب ما ورد في (سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأقوال السلف الصالح، والتي يضيق المجال عن استيعابها والإحاطة الشاملة بجميعها، في الوقت الذي نرى فيه أسفار العهد القديم والجديد خالية عن الكلام عن العلم والنظر، والفكر والبرهان، أو ما اشتق منها أو تفرع عنها) (مدخل إلى التعليم في ضوء الإسلام، ص 13 - 16 بتصرف).

اقرأ أول نداء في الإسلام:

جاء الأمر بالقراءة ليكون أول أمر في الإسلام، وأول ما يبدأ به الوحي من السماء، وتلاه ما يسمو بقيمة العلم ويشيد بالقلم، حيث قال -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ .عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5).  

(وفي كون الوحي الأول يبدأ بكلمة: (اقْرَأْ) ولم يبدأ بقوله: (اعبد) أو (صلِّ)، وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه القرآن أميًّا، والبيئة التي نشأ فيها بيئة أمية، لا يعرف القلم فيها إلا القليل؛ كل ذلك يؤكد على اهتمام هذا الدين بالعلم، ولفت الأنظار إلى مكانته ومنزلته فيه) (المصدر السابق، ص 14).

القرآن يشيد بالقلم وبالكتابة:

أداة العلم هي القلم الذي يكتب به، والمداد الذي يستخدم في الكتابة، ومادة يكتب عليها، وقد أقسم الله -تعالى- بكل هذه الأشياء تنويها بشأنها وإعلاء لقدرها، بل سميت سورة من سور القرآن الكريم بـ(سورة القلم)، وقد أقسم الله -تعالى- في صدرها بالقلم، قال -تعالى-: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم:1)، وقال -تعالى-: (وَالطُّورِ . وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ . فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (الطور:1-3).

الامتنان على الإنسان بالعلم:

ميَّز الله -تعالى- الإنسان بعقل يتعلم به، وبين -تعالى- أنه فضَّل الإنسان بما علمه، وهذا ظاهر في كتاب الله -تعالى- ففي سورة الرحمن التي تضمنت الكثير من نعم الله -تعالى- على عباده، بدأ الله -تعالى- السورة بقوله: (الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ .خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1-4).

(ويلاحظ أن كلمة: (عَلَّمَ) وردت مرتين في آيتين متقاربتين، وذكر بين الآيتين خلق الإنسان، وفي ذلك ما يفيد أن من أهم ما كلف به الإنسان وميزه به خالقه نعمة العلم.

ويؤيد ذلك: ما جاء في قصة خلق آدم -عليه السلام- في سورة البقرة، وذلك في قوله -تعالى-: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:31-33).

والقصة تدل على أن الله -سبحانه وتعالى- ميَّز آدم على مَن سواه من المخلوقات بميزات ليست في غيره، ولما اقتضى الأمر إظهار هذه الميزات لبيان فضل آدم وشرفه، واستحقاقه للخلافة في الأرض؛ أظهر الله لهم أحسن ما فيه وهو العلم، فدل ذلك على أن أهم ما يميز الإنسان ويعلي قدره إنما هو العلم، وفي هذا دليل -يضاف إلى ما سبق- على احتفاء الإسلام بالعلم وإعلاء شأنه ومنزلته) (المصدر السابق، ص 15 -16).

طلب العلم جهاد في سبيل الله:

لقد بلغ اعتناء الإسلام بطلب العلم أن جعله بمنزلة الجهاد في سبيل الله -تعالى-، والجهاد ذروة سنام الإسلام، ولن تجد في أي حضارة من الحضارات البشرية مثل هذا التقدير حثًّا على طلب العلم ورفعًا لمنزلته، ففي حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- المرفوع: (مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، كَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ) (رواه الترمذي وحسنه (5/29) - كتاب العلم - باب: فضل طلب العلم، وقال الألباني: حسن لغيره).

قال ابن القيم -رحمه الله-: (إنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثاني الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه) (انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم - نشر مكتبة الفاروق الحديثة: 1 /70).

قال د. طلعت محمد عفيفي منوهًا بتسوية الشرع طلب العلم بالجهاد في سبيل الله -تعالى-، وكونه من باب تقديم العلم على العمل، وأن العلم يقود العمل: (ولئن كانت للجهاد فضيلته التي لا تخفى على أحدٍ، فإن الإنسان بواسطة العلم يمكنه أن يستخدم هذا الجهاد استخدامًا صحيحًا، فلا يحمل سلاحه على مسلم، ولا يخلط بين ما هو مشروع وما هو ممنوع، وما هو واجب وما هو مسنون، وعليه فالعلم سياج الجهاد، به يتحرى الإنسان الصواب، ويحصل عليه من الله الأجر والثواب؛ ولأجل هذا جاء القرآن الكريم آمرًا بطلب العلم بوصف النفرة) والنفرة تكون مع الجهاد (وذلك في قوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122).

وذلك يجعل العلم والجهاد في موقعٍ واحدٍ، كما أن سياق الآية -وقد سبقها ولحقها حديث عن الخروج لجهاد الأعداء- يضع الاهتمام بالإعداد العلمي للمسلمين على قدم المساواة مع الإعداد العسكري؛ ولذا قال الصحابي الجليل أبو الدرداء -رضي الله عنه-: (من رأى أن الغدو في طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله). (نقلًا عن إحياء علوم الدين للغزالي - ط. دار الشعب 1/16، انتهى كلام د. طلعت عفيفي).

اهتمام سلف الأمة البالغ بالعلم:

تشهد المصنفات التي كتبها سلف الأمة جيلًا بعد جيل عبر قرون عديدة على مدى اهتمام الأمة بالعلم وطلبه؛ إذ إن أكثر مصنفات العلماء لا تخلو من التأكيد على فضل العلم والتعليم، سواء في مقدمات الكتب أو في فصوله الأولى: كالبخاري في صحيحه، والدارمي في سننه، والنووي في (المجموع)، والغزالي في (إحياء علوم الدين) وغيرهم كثير، بل منهم مَن خصص المصنف الكامل عن فضل العلم والتعليم، ومِن أشهر هؤلاء الإمام ابن عبد البر في كتابه القيم: (جامع بيان العلم وفضله)، (ولو أريد جمع ما ألف من كتب ورسائل في العلم وآدابه ومسائله بأيدي علماء الإسلام لتكونت لدينا مكتبة مستقلة) (مدخل إلى التعليم في ضوء الإسلام: 20).

وورد عن علماء الأمة في ذلك أقوالا كثيرة جدًّا، كقول أبي الدرداء: (العالم والمتعلم شريكان في الخير، وسائر الناس همج لا خير فيهم)، وقول معاذ بن جبل: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين)، وقول الحسن البصري: (لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم)، وقول الشافعي: (ما تقرب إلى الله -تعالى- بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم)، وقوله أيضًا: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة).

المسلمون سادوا العالم بالعلم:

لم تكن نظرة المسلمين للعلم المستمدة من الشرع كلامًا بلا عمل، بل تحول المسلمون بتطبيق ما حثهم عليه الإسلام تحولًا كبيرًا، فـ(أثمر تشجيع الإسلام للعلم وحثه عليه ثمرته المرجوة، فبرز المسلمون في شتى العلوم، وتفوقوا في جميع المجالات، ولمعت أسماء العلماء في فروع المعرفة كافة، مِن: فقه، ولغة، وتفسير، وطب، وفلك، ورياضيات، وغير ذلك، مما كان له الأثر في التمكين لحضارات الشعوب التي تلت ظهور الإسلام، بما فيهم شعوب أوروبا في نهضتها المعاصرة، وذلك باعتراف الأوروبيين أنفسهم.

قال (مارتن بلسنر): (لا يكاد يوجد شيء من جهود المسلمين في ميدان العلوم لم يتأثر به الغرب بطريق أو بآخر) (نقلًا عن: قالوا عن الإسلام، د. عماد الدين خليل - ط. الندوة العالمية للشباب الإسلامي الأولى 1992م، ص 344).

وقال (سيديو): (إنه تكونت فيما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر (يعني الميلادي وهي عصور الظلام والتخلف في أوروبا) مجموعة من أكبر المعارف في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة، واختراعات ثمينة تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هذا العصر، وجميع ذلك تأثرت به أوروبا، بحيث يؤكد القول بأن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة) (نقلًا عن: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، لجلال مظهر - نشر مكتبة الخانجي – القاهرة، ص 19).

وقال (ول ديورانت) في كتابه: (قصة الحضارة): (وجملة القول: إن ابن سينا أعظم مَن كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، والبيروني أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علمائها في البصريات، وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين فيها... ولما أن أعلن روجر بيكون هذا الطريقة في أوروبا -يعني المنهج التجريبي- بعد أن أعلنها جابر - يعني ابن حيان- بخمسمائة عام كان الذي هداه إليها هو النور الذي أضاء له السبيل من عرب الأندلس، وليس هذا الضياء نفسه إلا قبسًا من نور المسلمين في المشرق) (قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران ط. جامعة الدول العربية: ج 13 / 196) (راجع: مدخل إلى التعليم، ص 31 - 33).

وما ذكر هنا قطرة من بحر، وللاستزادة في معرفة ما كان عليه المسلمون من العلم وتعليمه، وأثرهم الكبير في تقدم البشرية ككل، راجع في ذلك على سبيل المثال:

- (أثر العرب في الحضارة الأوروبية): لعباس محمود العقاد.

- (تاريخ التراث العربي) لفؤاد سزكين.

- (حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي) لجلال مظهر.

الإسلام يهتم بالعلوم الكونية:

لم يدع الإسلام بابًا من أبواب العلم فيه منفعة للناس إلا وشجَّع على ارتياده، فاقتحم المسلمون مجالات متنوعة وعلوم مختلفة قد يظن البعض أن الإسلام لا علاقة له بها، والسبب وراء دخولهم فيها وإحاطتهم بها أن إسلامهم عد هذه المجالات والعلوم من فروض الكفايات التي يجب أن تلم بها الأمة ككل،

ويأبى الإسلام أن يكون المسلمين فيها عالة على غيرهم، فأحاط المسلمون بكل علوم عصرهم الدنيوية واستوعبوها، ثم طوروها وخطوا بها للأمام خطوات كبيرة، جعلتهم قبلة العلم والعلماء لقرون عديدة في كل أنواع المعارف ومختلف الفنون النظرية والعملية.

(ولأن الإسلام دين يوازن بين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة لم يشعر المسلمون بأي تناقض بين التفوق في العلوم الكونية للمساهمة في قوة المسلمين وبين تطلعاتهم الروحية؛ وذلك لأن جهودهم المادية تتحول إلى عبادة عندما يكون الهدف منها العمل على إعلاء كلمة الله، ونشر التوحيد في أرجاء الأرض) (المدخل إلى التعليم، ص 38).

غاية العلم في الإسلام عبادة الله -تعالى-:

قال د. طلعت محمد عفيفي مبينًا الغاية من التعليم في الإسلام: (لكن الإسلام الذي أعلى من شأن العلم على النحو الذي سبق بيانه لم ينظر إليه على أنه مجرد تحصيل المعارف، وحشو الأذهان بها دون نظرٍ إلى ما يترتب عليها من نتائج وآثار، بل يرى ليكون هذا العلم نافعًا ضرورة أن يتحرك في الإطار الذي يعين الناس على معرفتهم بخالقهم ويوثق صلتهم به، باعتبار أن الغاية التي لأجلها خلقوا هي عبادة الله -تعالى- كما قال ربنا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، وهذه الغاية يتبناها العلم بشتى أنواعه وفروعه، سواء كانت علومًا شرعية أو لغوية أو كونية رياضية، أو غير ذلك من أنواع العلوم.

وفي القرآن الكريم إشارات عدة إلى ضرورة أن يتبنى العلم هذا المنهج، ونختار من هذه الإشارات ما يلي:

أ- يقول الله -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1)، والشاهد أنه -سبحانه وتعالى- لم يقل: (اقْرَأْ) وفقط، فليس المراد مجرد القراءة، كما أن القراءة ينبغي أن تكون باسم الله، وليست باسم حاكم أو عظيم، وليست باسم وطن أو جنسية أو طبقة، بل هي باسم الله الذي خلق.

وفي ذلك إشارة إلى أن العلم ينبغي أن يعتمد على ما يرضي الله ويقرب منه؛ لأنه -سبحانه- صاحب الفضل في الخلق، (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2)، وهو أيضًا صاحب الفضل في العلم: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5).

ب- قول الله -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).

والشاهد أن الله -سبحانه وتعالى- بيَّن لنا أن وظيفة الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لم تقتصر على التعليم المجرد، وإنما جمعت بينه وبين التزكية للنفوس وتطهير القلوب، ونحن مأمورون بنص القرآن الكريم أن نقتفي أثر النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، كل مَن في مكانه، مصداقًا لقول الحق -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21).

ج- مدح الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم صنفًا من العلماء وذم صنفًا آخر، وكان ذلك تبعًا لانتفاعهم بالعلم في صلتهم بخالقهم من عدمه: فمن قبيل الأول قول الله -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة:11)، والشاهد أن الله -تعالى- مدحهم ورفع درجاتهم حين جمعوا بين الإيمان والعلم.

ومن هذا القبيل أيضًا قوله -تعالى-: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الحج:54)، والشاهد أن الله أثنى على أهل العلم الذين يوقنون بصدق ما جاءهم عن الله من وحي، وتخشع له قلوبهم وتلين له جلودهم، واستعملت (الفاء) الدالة على الترتيب والتعقيب، علامة على التلازم بين هذه الأشياء دون فاصل زمني.

ومن قبيل الثاني قول الله -تعالى-: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (النجم:29-30)، ومنه أيضا: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)، والشاهد في الآيتين أن الله -تعالى- ذم الكافرين رغم علمهم؛ لأنه لم يدلهم على الله، ولم يوثق صلتهم بخالقهم.

وفي العالَم الذي نعيش فيه أدلة كثيرة تؤيد هذه الحقيقة؛ فكم مِن علماء علا بين الناس ذكرهم، فتتوا الذرة وملأوا المعامل بالتجارب، ورأوا أدق الأشياء في الأفاق والأعماق، ثم خرجوا من هذا كله بالكفر والإلحاد؛ ولذا عاد علمهم على الدنيا بالخراب والدمار، ووقع الناس منهم في كرب وبلاء!

والسبب في ذلك: أن علمهم كان مبتوت الصلة بالإيمان بالله، ووقفوا به عند ظواهر الأشياء.

وفي ضوء ما تقدم ذكره يتضح لنا: أن غاية العلم في الإسلام -أيًّا كان نوع هذا العلم- هي تعريف الناس بالله، وتوثيق صلتهم به، وإلا كان علمًا غير نافع، وحجة على صاحبه يوم القيامة) (انتهى كلام د. طلعت عفيفي، المصدر السابق، ص 38 - 42)، وقد نقلناه على طوله لنفاسته.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة