الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

نيل الأماني في ظلال السبع المثاني (8)

العبد يسأل ربه أن يهديه صراطًا مستقيمًا لا جهل فيه ولا عمى

نيل الأماني في ظلال السبع المثاني (8)
وليد شكر
السبت ٢٠ يونيو ٢٠٢٠ - ١٠:٤١ ص
496

نيل الأماني في ظلال السبع المثاني (8)

(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)

كتبه/ وليد شكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قد يقال: كيف يسأل المسلم ربه الهداية وهو مهتدٍ؟!

والجواب: أن قوله -تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ) جمع هدايتي الإرشاد والتوفيق، فإن الله -تعالى- لم يقل: اهدنا إلى أو اهدنا في، وإنما قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ)؛ ليكون الدعاء شاملًا الهداية لجميع تفاصيل الإسلام علمًا وعملًا، وشاملًا أيضًا الهداية إلى لزوم الإسلام والثبات عليه.

إن العبد عاجز عن معرفة طريق الحق بحوله وقوته، وإذا عرفه فعاجز عن التوفيق لذلك، وإذا وفق فعاجز عن الثبات عليه ولزومه، فالعبد يسأل ربه الهداية في كل حال؛ إذ هو لا يملك نفسه وقلبه، فقد يسلب إيمانه من حيث لا يشعر، وكثير ما هم. ثبتنا الله وإياكم على الصراط المستقيم.

مناسبة الآية لما قبلها:

- يسأل العبد ربه الهداية الى الصراط المستقيم بعد ما أثنى عليه بأسمائه وصفاته، وبعد ما أخبر بأنه يفرده بالعبادة ويخصه بالاستعانة، فيكون قد قدَّم بين يدي دعائه توسلًا بأسماء الله الحسنى، وتوسلًا بعمله الصالح وهما نوعان مِن أنواع التوسل المشروع، فهذا أحرى أن يستجيب الله له دعاءه، بخلاف إذا سأل الله الهداية دون هذين النوعين من التوسل، وحديث أصحاب الغار شاهد على ذلك.

- المناسبة الثانية: فهي أن إخبار العبد أنه يعبد الله وحده ولا يستعين إلا به، هذا أمر لفظي فجاء الدعاء ليكون تطبيقًا عمليًّا للعبادة والاستعانة إذ إن الدعاء تتجلى فيه معاني التذلل والعبودية والاستعانة بالربوبية، أكثر مما تظهر في غيره. لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

والمناسبة الثالثة: أن (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فيه شرط الإخلاص، و(اهْدِنَا) فيها شرط المتابعة، فجمعت آيات الفاتحة بين شرطي قبول العمل: الإخلاص والمتابعة للذين أنعم الله عليهم مِن النبيين وخيرهم محمد -صلى الله عليه وسلم-.

فما الصراط المستقيم؟!

- قال بعضهم: الإسلام، وقال بعضهم: متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال البعض: القرآن، وقيل غير ذلك.

ومن كلام شيخ الإسلام يتضح بجلاء أن الصراط المستقيم اختلفت فيه العبارات باختلاف صفاته وصفات السائرين عليه، فإن مَن كان على صراط مستقيم لا يكون إلا مصبوغا بصبغة الله، وهي دينه الإسلام فيفسر بأنه الإسلام؛ ومَن كان على صراط مستقيم فإنه يحيا بالقران أمرًا ونهيًا، وحكمًا وتشريعًا، ووعظًا وتذكيرًا، فيفسر بأنه القرآن، ومَن كان على صراط مستقيم فإنه لا يكون إلا عبدًا لله؛ فلا يلجأ إلا إليه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه؛ لذا يفسَّر الصراط بالعبودية، وبقدر تقصير العبد في استكمال تلك الأمور وقلة اتصافه بها تكون هدايته ويكون ثباته على هذا الصراط، فكمال العبد فيما سبق من حياة بالقرآن واتباع للنبي العدنان -صلى الله عليه وسلم-، وصبغة بدين الإسلام، واتصاف بعبودية الحنان المنان، كماله في ذلك هو كمال في الهداية إلى الصراط المستقيم، ونقصانه فيها هو نقصان في هدايته الى هذا الصراط؛ (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

أولًا: هذه الآية بيان للصراط المستقيم، فهو صراط (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69)، وهذا البيان هو أول وجه مِن أوجه البلاغة في الآية الكريمة، وهو ما يسمَّى عند البلاغيين بالتصريح بعد الإبهام.

ثانيًا: الإيجاز بحذف فاعل الغضب في قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، فأضاف -تعالى- النعمة إلى نفسه ثم حذف فاعل الغضب؛ وذلك لفوائد، منها:

أولًا: أن النعمة خير وفضل، والغضب انتقام وعدل، والرحمة تغلب الغضب فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأغلبهما عنده، وهي كقوله -تعالى- على لسان إبراهيم: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء:80).  

ثانيًا: أن الله -سبحانه- متفرد بالنعم (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل:53)، فأضيف إليه ما هو متفرد به، أما الغضب على أعداء الله فلا يختص به الله، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضب ربهم، أما النعمة فلا يشاركه فيها أحد.

ثالثًا: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليهم وتحقيرهم ما ليس في ذكر الفاعل.

((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ): هذه الآية تجعل العبد يأنس برفقة صالحة، ومِن ثَمَّ تزول وحشة الطريق من قلة السالكين، فطريقه هو طريق الذين أنعم عليهم من قبل.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأضاف الصراط إلى السالكين ليزول عن طالب الهداية وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الطريق هم الذين أنعم الله عليهم، وقد قال بعض السلف: عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين، وكلما استوحشت في تفردك، فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض البصر عما سواهم".

وفى المعنى نفسه قال الشيخ محمد صفوت نور الدين: "تذكر الآية أن كل مسلم ينظر إلى نفسه عضوًا في رفقة عظيمة قد مضى منهم الأفضل قدرًا، والأكثر عددًا؛ فأين النبيون؟ وأين الصديقون؟ وكم يصطفي الله مِن بعد مِن شهداء، ويرضى عن صالحين، وحسن أولئك رفيقًا؟ ومَن عمل لينال تلك الرفقة وصدق في عمله فإن الله لا يضيع أجر مَن أحسن عملًا".

فالعبد يسأل ربه أن يهديه صراطًا مستقيمًا لا جهل فيه ولا عمى، فيكون بذلك قد نجا من ضلال النصارى، ويعوذ بربه أن يعلم فلا يعمل فيكون معاندًا فيغضب ربه عليه، بل علم وعمل فيكون بذلك قد نجا من غضب الله على اليهود، وكلًّا من اليهود والنصارى مغضوب عليهم وضالون.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وكل مِن اليهود والنصارى ضال مغضوب عليهم، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، وأخص أوصاف النصارى الضلال".

آمين:

يُستحب لمَن يقرأ الفاتحة أن يقول: "آمين" بعدها، سواء كانت بالمد آمين أو القصر أمين، ومعناها: اللهم استجب.

والدليل على استحباب التأمين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا قَالَ الإِمَامُ: (غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَفَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه).  

وتأمل تجد أن هذه الكلمة عندما تأتي في نهاية الدعاء تعطي جوًّا لهذه السورة الكريمة يمتلئ ثقة باستجابة الله لدعاء عباده، مع ما تعطيه هذه الكلمة للآيات مِن تناسقٍ وارتباطٍ بين الدعاء وسؤال القبول.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة