الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (56) أحاديث في ذمِّ القَسْوة (2)

ذِكْر الفحاش في أهل النار؛ فهو لقسوة قلبه سيئ الخلق، وهو سَبَّابٌ كثير الطعن في الناس

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (56) أحاديث في ذمِّ القَسْوة (2)
الأحد ١٣ ديسمبر ٢٠٢٠ - ١٢:١٨ م
527

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (56) أحاديث في ذمِّ القَسْوة (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ). وفي رواية: (كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ) (رواه مسلم).

قال النووي -رحمه الله-: "(مُتَضَعِّفٍ) بفتح العين وكسرها، والمشهور: الفتح، ومعناه: يستضعفه الناس ويحتقرونه، ويتجبرون عليه؛ لضعف حاله في الدنيا. يُقال: تضعفه واستضعفه. وأما رواية الكسر فمعناها: متواضع متذلل خامل (لا يبحث عن الشهرة، وليس معروفًا بها) واضعٌ من نفسه. قال القاضي: ويكون الضعف هنا رِقة القلوب، ولينها وإخباتها للإيمان. والمراد: أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَشْعَثَ) مُتَلبِّد الشعر مغبره؛ الذي لا يدهنه ولا يكثر غسله، ومعنى (مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ) أنه لا يؤذن له؛ بل يُحجب ويطرد لحقارته عند الناس -يقصد في حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) (رواه مسلم)-.  

قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) معناه: لو حلف يمينًا طمعًا في كرم الله -تعالى- بإبراره؛ لأبره. وقيل: لو دعاه لأجابه، يُقال: أبررت قسمه وبررته، والأول هو المشهور.

قوله -صلى الله عليه وسلم- في أهل النار: (كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ) وفي رواية: (كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ)، أما العُتُل: بضم العين والتاء فهو الجافي (أي: البعيد عن الرفق) الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: الجافي الفَظُّ الغليظ، وأما "الجُوَّاظ" فهو الجَمُوع المَنُوع (أي: كثير جمع  المال، كثير منع الحقوق من الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة على الأهل والأقارب ومَن ولَّاه الله أمرهم). وقيل: كثير اللحم المختال في مِشْيته. وقيل: القصير البطين. وقيل: الفاخر (يعني: الذي يفتخر على الناس، وذم القصير البطين ليس من أجل الخِلْقَة؛ ولكن من أجل كثرة الاهتمام بالأكل، وغالبًا ما يكون ذلك مقترنًا بطلبه من حرام وأخذه من حرام).

 وأما "الزَّنِيْم" فهو الدَّعِيُّ في النسب، الملصق بالقوم وليس منهم، شُبِّهَ بزنمة الشاة (وهذا في حال أنه كان يعلم أنه مُدَّعى في قوم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) (رواه مسلم). وأما "المتكبر" و"المستكبر" فهو: صاحب الكبر؛ وهو بَطَر الحق وغَمْط الناس" (انتهى من شرح النووي على صحيح مسلم، وما بين الأقواس شرح لكلامه).

قال ابن حجر -رحمه الله- في "الفتح" في قوله: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ الجَنَّةِ؛ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ": بكسر العين، وبفتحها وهو أضعف، وفي رواية الإسماعيلي "مُستضعَف" وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم "الضعفاء المغلوبون"، وله من حديث سراقة بن مالك (الضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ) (صححه الألباني)، ولأحمد من حديث حذيفة: (الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ ذُو الطِّمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ) (صححه الألباني)، والمراد بالضعيف: مَن نفسُه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا، والمستضعَف: المحتقر؛ لخموله في الدنيا.

وقوله: (عُتُل) قال الفراء: الشديد الخصومة. وقيل: الجافي عن الموعظة. وقال أبو عبيدة: العُتُل الفَظُّ الشديد من كل شيء، وهو هنا: الكافر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: العتل الفاحش الآثم. وقال الخطابي: العتل الغليظ العنيف. وقال الداودي: السمين العظيم العنق والبطن. وقال الهروي: الجَمُوع المنوع. وقيل: القصير البَطِن. قلت: وجاء فيه حديث عند أحمد من طريق عبد الرحمن بن غُنْم -وهو مختلف في صحبته- قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن العُتُلِّ الزَّنِيمِ، قال: هو الشديدُ الخَلْقِ المصَحَّحُ الأكولُ، الشروبُ الواجدُ للطعامِ والشرابِ، الظلومُ للناسِ رحيبُ الجوفِ" (ضعفه الألباني).

 وقوله: (جُوَّاظ): الكثير اللحم، المختال في مشيته، حكاه الخطابي. وقال ابن فارس: قيل: هو الأكول، وقيل: الفاجر، وأخرج هذا الحديث أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري، بهذا الإسناد مختصرًا (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ وَلَا الْجَعْظَرِيُّ) (صححه الألباني). قال: والجَوّاظُ: الفَظُّ الغَليظُ. انتهى. وتفسير (الجُوَّاظ)) لعله مِن سفيان، و(الجَعْظَري) هو: الفظ الغليظ. وقيل: الذي لا يمرض. وقيل: الذي يَتَمَدَّح بما ليس فيه أو عنده.

 وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه تلا قوله -تعالى-: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) (القلم:12-13)، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ أَهْلَ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ) (صححه الألباني) (انتهى كلام ابن حجر من فتح الباري).

وروى مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم في خطبته: (أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ).

قال النووي -رحمه الله- في قوله: (وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ): "أي: رحيم على ذي قربى. و(مُقْسِط) أي: عادل. وأما قوله: -صلى الله عليه وسلم-: (الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ) أي: لا عقل له يَزْبِرُه ويمنعه مما لا ينبغي. وقيل: هو الذي لا مال له. وقيل: الذي ليس عنده ما يعتمده -(قُلْتُ: والأول أصح)-. وأما (الشِّنْظِيرُ) قال في الحديث: إنه الفحَّاش، وهو السيئ الخلق.

 وهذا الحديث الجامع -الذي هو من دلائل النبوة- ذَكَر في صفة أهل الجنة السلطان العادل المتصدق، وهذا عظيم القدر في مَن تولَّى أمر غيره، وذكر الرحيم الرقيق القلب؛ الذي يعظف على كل قراباته، وعلى كل المسلمين، وأما العفيف المتعفف ذو العيال؛ فهو أيضًا يكون منكسرًا غير متكبر؛ بل يغلبه التواضع لما يتحمل من المسئولية، وأما ذِكْر الفحاش في أهل النار؛ فهو لقسوة قلبه سيئ الخلق، وهو سَبَّابٌ كثير الطعن في الناس.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة