الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حقيقة التلازم بين الأشاعرة والمذهب الشافعي (٢)

حقيقة التلازم بين الأشاعرة والمذهب الشافعي (٢)
الخميس ٢٤ يونيو ٢٠٢١ - ١٧:٠١ م
2967

حقيقة التلازم بين الأشاعرة والمذهب الشافعي (٢)

كتبه/ أحمد حسين أبو مالك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد رأينا كيف كان الإنكار والزجر الشديد مِن الإمام الشافعي، وأعلام المذهب حتى القرن السادس في الإنكار على مَن انتهج طريقة الأشاعرة في الأصول، وما موقف العمراني صاحب كتاب: "البيان" منَّا ببعيدٍ.

وفي هذا المقال سنتناول موقف علماء المذهب من أهم مسائل الخلاف بين الأشاعرة والمنهج السلفي في الأدلة السمعية وحقيقة الإيمان.


أولًا: حقيقة الإيمان:


يري الإمام الشيرازي صاحب المهذب (ت ???): أن أصل البدعة والفساد إنما جاء من تلك المسألة، وأنها الأصل الذي نشأ عنه الاعتزال كما ذكر ذلك في كتابه: (شرح اللمع)، فأول خلاف بسبب هذه المسألة، خلاف الخوارج؛ حين جعلوا الإيمانَ حقيقة مركَّبة، فإن زال بعضه زال جميعه، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية وعاملوهم معاملة الكفار، فاستحلوا دماء وأموال المسلمين بتلك الشبهة التي لم يفرِّقوا فيها بين أصل الإيمان وكماله الواجب والمستحب، رغم أن حديث النبي -صلى الله وعليه وآله وسلم- ظاهر الدلالة في الأركان، والكمال الواجب والكمال المستحب، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ) (متفق عليه).


ثم كان خلاف المعتزلة وقولهم بالكفر في الآخرة وبين منزلتين في الدنيا؛ فاختلفوا مقالاً، واتحدوا مآلاً.


وأما الجهمية ومَن تَبِعَهم: فقد شذوا عن مقالات أهل العلم، وقالوا: (الإيمان معرفة الله بالقلب وحده).


وأما الكرَّامية فقالوا: إن الإيمان قول اللسان، فكان وحده كافيًا في الحكم لصاحبه بالإيمان، ولعل هذا ما ذمه شيخ المفسرين القرطبي، فقال: ما ذهب إليه محمد بن كرَّام هو عين النفاق.


وأما الأشاعرة: فيخرجون عمل الجوارح مِن حقيقة الإيمان، ويردون على مَن يجعل الطاعات إيمانًا، ولا يقبلون بذلك إلا على سبيل المجاز، وجمهورهم يخرج النطق بالشهادتين من حقيقة الإيمان كما ذكر الإيجي في كتابه: (المواقف): "إن الإيمان هو التصديق، وعليه أكثر الأئمة، والقاضي، والأستاذ"، بل صَرَّح الباقلاني (ت: ???): بأن المؤمن المصدِّق بقلبه مؤمن عند الله، وإن نطق الكفر!


وأما حقيقة الإيمان عند السلف -والإجماع منعقد على ذلك، وليس إجماع أهل الحديث كما يزعم الأشاعرة-: فهي أن الإيمانَ قول وعمل ونية، والغريب: أن ناقل الإجماع هو الشافعي في كتابه: (الأم) حيث قال: "وكان الإجماع مِن الصحابة والتابعين مِن بعدهم ومَن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحدٌ مِن الثلاثة إلا بالآخر)، وأما تلميذه: أبو بكر الحميدي (ت ???)، فيجعل ذلك مِن أصول السنّة فيقول: "السنة عندنا: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل ولا قول إلا بنية"، ويقرر ذلك البغوي في تفسيره في شرحه لحديث جبريل في سياق تفسير أول البقرة، قال: "فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جعلَ الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدِّين".


وقال العمراني صاحب البيان (ت: ???): "واحتجت الأشعرية ومَن قال: إن الإيمان هو التصديق بالقلب لا غير، بقوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) (يوسف:17)، وبقول الناس: فلا يؤمن بعذاب القبر والشفاعة، وما أشبهها، وأراد به التصديق.


والجواب: أننا لا ننكر أن يكون هذا حدَّ الإيمان في اللغة، وأما في الشرع فهو أشرف خصال الإيمان، ولا يمتنع أن يكون للشيء اسم في اللغة، واسم في الشرع إذا ورد الشرع به".


وهذا ما قرره السمعاني (ت: ???) فقال: "الإيمان في الشريعة يشتمل على الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان".


فعلي هذا قد تقرر عندهم أن الإيمان وإن كان لغة هو التصديق لا يمنع أن ينقله الشرع كما نقل الصلاة لغة من الدعاء إلى المعنى الشرعي الذي هو أقوال وأفعال، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم مع النية، فالإيمان إن كان هو التصديق لا يمنع أن يكون شرعًا قولًا وعملًا ونية، فيكون قول القلب هو التصديق العملي، وعمل القلب هو أصل كل عمل قلبي، وقول اللسان هو الشهادتين، وعمل الجوارح مِن ترك الشرك، وأفعال الخير، وأعظمها: المباني الأربعة.


ثانيًا: الأدلة السمعية:


?- القرآن: قَرَّر الإمام الشافعي أصول مذهبه، فقال: "الأصل القرآن أو سنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصح الإسناد به فهو سنة والإجماع أكثر من الخبر المنفرد.


وعلى هذا يقرر ويكرر أصول المذهب، ومرد الخلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله، الإمام الكناني (ت ???) حيث قال: "كل ما يتكلم به الناس مما يحتاجون إليه مِن علم أديانهم وما يختلفون ويتنازعون فيه؛ فهو موجود في القرآن"، يعني هذا -رحمه الله- أصولًا وفروعًا، فقهًا وعقيدة، فها هو يصرِّح بالرجوع إلى القرآن للتعلُّم، والتزود والناس في العلم درجات بقدر موقعهم وعلمهم بكتاب الله بفهم آياته وتعظيم مراده، فمن أدرك أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالًا كان العالم بحق.


ويؤكِّد على ذلك اللالكائي في شرحه لأصول السنة: "أما بعد، فإن أوجب ما على المرء: معرفة اعتقاد الدين"، ثم قال -رحمه الله-: "وكان مِن أعظم مقول وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين ثم قول رسوله الكريم"، فكل ما يحتاجه الناس في دينهم؛ قولًا وعملًا واعتقادًا، قد جاء به الوحي وبيَّنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في أوضح البيان، فها هو أعلم الناس بمراد الله، وقد خاطب الناس عربهم وعجمهم، عالمهم وجاهلهم بأوضح العبارات وأعظم البيان، فكانت مشكلة التأويل الذي هو في حقيقة الأمر نوع مِن التحريف في التعامل مع نصوص القرآن؛ خصوصًا في باب الصفات عند الأشاعرة.


وقد أرَّخ لنا الدارمي  (ت: ???) هذه الإشكالية في سياقها الكلامي فقال: "وبلغنا أن بعضَ أصحاب المريسي قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؛ مثل: سفيان عن منصور عن الزهري، والزهري عن سالم، وأيوب بن عوف عن ابن سيرين، وعمرو بن دينار عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-... وما أشبهها؟ فقال المريسي: لا تردوه تفتضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل، فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف، كما فعل هذا المعارض سواء".


وهذا الفهم أيضًا لهذا النوع من التحريف عند الإمام الفقيه محمد بن نصر المروزي حيث قال: "‏وفرقة منهم كرهوا أن يُنْسَبوا ‏إلى مخالفة الآثار والتكذيب بها فأقروا بها وحرفوها، فتأولوها على غير تأويلها".


فمِن الوَاضِح أن مسلكَ التأويل ووضع اللفظ على ما لا يحتمله اللسان العربي وعدم احتماله للمعني قد قُوبِل بالرفض من علماء المذهب في تلك الفترة.


?- السنة: هي المصدر الثاني للتشريع عند علماء المذهب بلا خِلَاف، ومنهج الإمام ومذهبه قد تجسد في مقولته: "إذا صَحَّ الحديث فهو مذهبي"، وحين جاء سائل الى الشافعي يسأله في مسألة، فقال له الشافعي: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا. فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: أرأيت في وسطي زنارًا؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول لي: أتقول بهذا؟ روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أقول به؟!".


‏ويقرر ابن خزيمة (ت: ???) أنه في إبطال أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- دُرُوس الدِّين، وإبطال الإسلام.


‏وأما أبو المظفر السمعاني (ت: ???) فقرَّر: أن للسنة حُكْم القرآن المنَّزل في وجوب الاتباع.


فكان علماء الشافعية يُلزِمون مَن خالفهم عقديًّا وفقهيًّا في الأخذ بالآثار النبوية، ويجعلون ذلك حجة عليهم عند الرد، بل وآثار السلف في فهم النصوص.


و‏قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي -في بيان حال المخالفين للأخذ ‏بالآثار النبوية والسلفية، والقول بمضمونها، ومبدأ الخلاف المنهجي معهم-: "وقال بعضهم: إننا لا نقبل هذه الآثار ولا نحتج بها!‏ قلتُ: أجل ولا كتاب الله تقبلون، أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون ‏أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم ‏مستفيضة فيهم، ‏يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنًا بعد قرنٍ؟! ‏قالوا: نعم. قلنا: حسبنا إقراركم بها ‏عليكم حجة لدعوانا ‏أنها مشهورة مروية تداولتها العلماء والفقهاء، فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كَذَّبت الآثار كلها، فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولا أثر".


وللحديث بقية -إن شاء الله-.


موقع أنا السلفي


www.anasalafy.com