الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (23)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (23)
ياسر برهامي
الاثنين ٢٨ يونيو ٢٠٢١ - ١٧:٢٨ م
425


الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (23)


قصة بناء الكعبة (21)


كتبه/ ياسر برهامي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  


الفائدة التاسعة عشرة:


قوله في الحديث: "ثُمَّ لَبِثَ عنْهمْ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذلكَ وإسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا له تَحْتَ دَوْحَةٍ، قَرِيبًا مِن زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ، فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الوَالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوَالِدِ، ثُمَّ قالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ، قالَ: فَاصْنَعْ ما أَمَرَكَ رَبُّكَ، قالَ: وتُعِينُنِي؟ قالَ: وأُعِينُكَ، قالَ: فإنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا، وأَشَارَ إلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ علَى ما حَوْلَهَا.


قالَ: فَعِنْدَ ذلكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتي بالحِجَارَةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتَّى إذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بهذا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ له فَقَامَ عليه، وهو يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:???)، قالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)".


قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "النَّبْلُ: السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَكَّبَ فِيهِ نَصْلُهُ وَرِيشُهُ، وَهُوَ السَّهْمُ الْعَرَبِيُّ.


وقَوْلُهُ: "عِنْدَ دَوْحَةٍ": هِيَ الَّتِي نَزَلَ إِسْمَاعِيلُ وَأُمُّهُ تَحْتَهَا أَوَّلَ قُدُومِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ.


قَوْلُهُ: "فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ" يَعْنِي مِنَ الِاعْتِنَاقِ وَالْمُصَافَحَةِ، وَتَقْبِيلِ الْيَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَالَ: "سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: بَكَيَا حَتَّى أَجَابَهُمَا الطَّيْرُ"، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَاعَدَ لِقَاؤُهُمَا" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله- باختصارٍ).


ولقد كانت متابعة إبراهيم -عليه السلام- لتركته متكررة كما سبق أنه كان يأتيهم كل شهر على البراق ويرجع، وربما لم ينزل؛ هذا فيه أنه لا يجوز أن يترك الأب ذريته دون رعاية سنواتٍ طويلةٍ، كما يحدث كثيرًا الآن في سفر بعض الآباء طول العام، وربما أعوامًا متتابعة، وهو لا يرى ذريته ولا يتابعهم، ولا شك أن هذا فيه خطر كبير.


والظاهر: أن إبراهيم قد أتاه مرتين قبل أن يلقاه في هذه المرة؛ مرة حين أمره أن يطلق الزوجة الأولى، والمرة الثانية حين أمره أن يثبت الزوجة الثانية، ولا شك أن هذا بينه مدة طويلة؛ ولذلك وقع الاشتياق الشديد والبكاء حين التقيا، وهذا يدل على التراحم، والحب المستقر في القلوب بين الأب وابنه، وهكذا يجب أن نُحَافِظ على الأسرة -وإن تباعد اللقاء- فيكون هناك حرص ونصيحة ومتابعة؛ حتى يأذن الله -عز وجل- بلقاء مستمر.


قوله: "إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ":


قال ابن حجر -رحمه الله-: "فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا"، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ: "أَنَّ عُمُرَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِائَةَ سَنَةٍ، وَعُمُرَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثِينَ سَنَةً" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).


والمشهور: أن إبراهيم إنما رُزق بإسماعيل بعد ثمانين سنة، وليس عندنا نص في ذلك؛ إلا أن إبراهيم بنص القرآن قد قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم:39)، وقال -سبحانه وتعالى- عن سارة: (قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (هود:72)، فكان سن إبراهيم كبيرًا بلا شك، ومع ذلك امتثل أمر الله -سبحانه وتعالى-، فكما امتثل أمره بالختان وهو ابن ثمانين سنة، امتثل بناء بيت الله بعد أكثر من ذلك بلا شك فوق المائة سنة على الراجح أو على الأقرب.


قَوْلُهُ: "وَتُعِينُنِي، قَالَ: وَأُعِينُكَ":


قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ"، قَالَ ابن التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْنِي أَولًا وَحْدَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُعِينَهُ إِسْمَاعِيلُ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُتَأَخِّرًا بَعْدَ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ؛ بَلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، بِأَن يكون أَمَرَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَأَنَّ إِسْمَاعِيلَ يُعِينُهُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ الْبَيْتَ وَتُعِينَنِي"، وَتَخَلَّلَ بَيْنَ قَوْلِهِ: "أَبْنِيَ الْبَيْتَ" وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "وَتُعِينَنِي" قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ: "فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).


وهذا يدلنا على مبادرة إسماعيل بالاستجابة للأمر كما بادر حين أمره الله أن يذبحه، وقال الله -عز وجل-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102)، فهكذا التربية العظيمة على التوحيد والطاعة والامتثال السريع لأمر الله -سبحانه وتعالى- مهما كلَّف الإنسانَ ذلك، فهذا إسماعيل -عليه السلام- قد ربَّاه أبوه وربَّته أمه على الامتثال لطاعة الله -سبحانه وتعالى- فَلْنُربِّ أبناءنا على هذا الامتثال السريع، والاستجابة لأمر الله -سبحانه وتعالى-.


قَوْلُهُ: "وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ":


قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ: "فَبَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُمَا" يَعْنِي فِي مُشَارَكَتِهِمَا فِي الْبِنَاءِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَلَ الْجُرْهُمِيُّونَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).


هذا -والله أعلم- لِشرفِ البيت قد خصَّ الله -عز وجل- إبراهيم بالبناء وإسماعيل بالإعانة، ولم يجعل معهما أحدًا؛ تكريمًا وتشريفًا أن لا يكون شاركهما في بناء الكعبة المشرفة غيرهما من الناس، كما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي وضع الحجر الأسود في موضعه بعد أن تنازعت قريش حين بنت الكعبة قبل النبوة، فأمرهم أن يأتوا بثوب وتأخذ بكل طرف منه قبيلة من قريش، ثم وضع الحجر الأسود عليه، ثم وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة في موضعه؛ تكريمًا له وتوفيقًا من الله -عز وجل-.


قَوْلُهُ: "رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ":


قال ابن حجر -رحمه الله-: "فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: الْقَوَاعِدُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ" (وهذا إسناد صحيح). زَاد أَبُو جَهْمٍ: "وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ فِي الْبَيْتِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ زَرْبًا لِغَنَمِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ بِحِجَارَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ سَقْفًا وَجَعَلَ لَهُ بَابًا، وَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا عِنْدَ بَابِهِ خِزَانَةً لِلْبَيْتِ يُلْقَى فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْبَيْتِ".


وقَوْلُهُ: "جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ" يَعْنِي: الْمَقَامَ. وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ، فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ" زَادَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ "وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُومُ عَلَى الْمَقَامِ يَبْنِي عَلَيْهِ وَيَرْفَعُهُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الرُّكْنُ وَضَعَهُ يَوْمَئِذٍ مَوْضِعَهُ وَأَخَذَ الْمَقَامَ فَجَعَلَهُ لَاصِقًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَاءَ جِبْرِيلُ فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَوَقَفَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ تِلْكَ الْمَوَاقِفَ، وَحَجَّهُ إِسْحَاقُ وَسَارَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِالشَّامِ".


وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق مُجَاهِد عَن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَجَرِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ". 


وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "وَاللَّهِ مَا بَنَيَاهُ بِقِصَّةٍ وَلَا مَدَرٍ، وَلَا كَانَ لَهُمَا مِنَ السَّعَةِ وَالْأَعْوَانِ مَا يَسْقُفَانِهِ" (انتهى كلام ابن حجر من فتح الباري).


وقد أطلنا الكلام على هذا الحديث؛ لما فيه مِن الفوائد العظيمة الجسيمة التي نحتاج إليها في مناحي الحياة كلها، وفي التوكل على الله والتوحيد والرضا بالله -عز وجل- ربًا مُدبرًا معينًا، والامتثال لله -سبحانه وتعالى-، وفي تربية الزوجة والأولاد، ومعالم البيت المسلم الصالح، وغير ذلك مما أشرنا إليه.


نسأل الله أن يلحقنا بالصالحين، وأن يرزقنا حج بيته الحرام، إنه على كل شيء قدير.


موقع أنا السلفي


www.anasalafy.com


 


تصنيفات المادة