(إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) -2
كتبه/ وائل
عبد القادر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
المعنى
الثاني: المعنى الحسي:
وذلك لما كان يلقاه النبي ـصلى الله عليه وسلمـ
من الشدة عند نزول الوحي عليه، حتى إن جبينه ليتفصَّد عرقًا في اليوم الشديد
البرد، وقد كان يثقل جسمه -عليه الصلاة والسلام- بذلك؛ حتى إنه إذا أُوحي إليه وهو
على ناقته بركت به، والثقل على هذا المعنى ثقل حقيقي.
ويشهد لهذا
المعنى: ما ورد عَنْ
عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بسندٍ صحيحٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ
وَضَعَتْ جِرَانَهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَحَرَّكْ، وَتَلَتْ قَوْلَ
اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ
قَوْلًا ثَقِيلًا)، والجران: باطن العنق.
وقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-:
"وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ
البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا" (متفق عليه).
والمعنى:
(لَيَتَفَصَّدُ): يسيل من
الفصد، وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه الجبين بالعرق المفصود مبالغة من كثرة عرقه.
وفي لفظ مسلم: "إِنْ كَانَ لَيُنْزَلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ، ثُمَّ تَفِيضُ جَبْهَتُهُ
عَرَقًا".
وأخرج الإمام البخاري بسنده عن زبد بن ثابت:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْلَى عَلَيْهِ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (النساء: 95)، قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ
يُمِلُّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الجِهَادَ
لَجَاهَدْتُ -وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى-، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي،
فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ) (النساء: 95).
(تَرُضَّ): من الرض، وهو الدّق، وكل شيء كسرته فقد رضضته.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم: أن يَعْلَى بْن
أُمَيَّةَ كَانَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:
لَيْتَنِي أَرَى نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يُنْزَلُ
عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَوْبٌ
قَدْ أُظِلَّ بِهِ عَلَيْهِ، مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ عُمَرُ، إِذْ
جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ
بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاعَةً، ثُمَّ سَكَتَ، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ
عُمَرُ بِيَدِهِ إِلَى يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى،
فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، يَغِطُّ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟)
فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ، فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ، فَاغْسِلْهُ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي
عُمْرَتِكَ، مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ).
والغطيط مثل صوت النائم الذي يردده مع نفسه،
ومعنى "ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ": أي أزيل ما به وكشف عنه.
والأدلة على هذا المعنى كثيرة، وكلها تثبت ثقل
الوحي الذي هو كلام الله المجيد ثقلًا حسيًّا حقيقيًّا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.