وقفات مع آيات (4) قوله
-تعالى-: )عَبَسَ وَتَوَلَّى)
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد
محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
المقدمة:
- نزل
القرآن للعمل والتدبر: قال -تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29).
- ومِن
التنزيل ما نزل على واقعة أو حادثة في حياة مَن نزل عليهم؛ ليزدادوا إيمانًا،
ويزداد الذين مِن بعدهم تصديقًا: قال -تعالى-:) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا) (الإسراء:106).
آية اليوم
وقصتها:
قال -تعالى-: )عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى .
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى
. وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس: 1-10).
- قال ابن
كثير -رحمه الله-: "عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أُنْزِلَتْ:) عَبَسَ وَتَوَلَّى) فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَتَى
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ يَقُولُ أَرْشِدْنِي،
قَالَتْ: وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عُظَمَاءِ
الْمُشْرِكِينَ، قَالَتْ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعْرِضُ
عَنْهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟
فَيَقُولُ: لَا، فَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ:) عَبَسَ وَتَوَلَّى)، وهكذا ذكر غير واحد من السلف" (تفسير ابن كثير).
وقفات وفوائد
حول الآية:
1- حرص
الأنبياء -عليهم السلام- على هداية الناس جميعًا:
ويظهر ذلك في
قصة النزول حتى عاتبه ربه لما أقبل على المشركين؛ حرصًا على هدايتهم، وأعرض عن
المؤمن الصالح: قال
-تعالى-:) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:3)،) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ
عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية21-22).
- كان حرص
النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية العظماء والسادة شديد؛ لما له من أثر على من
تحتهم: ففي كتابه
إلى هرقل: (أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أدْعُوكَ بدِعَايَةِ
الإسْلَامِ، أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإنْ
تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأرِيسِيِّينَ... ) (متفق عليه)، وقال -تعالى- عن اتباع ملكة سبأ: )قَالَتْ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا
حَتَّى? تَشْهَدُونِ . قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل:32-33).
- وهكذا
ورثة الأنبياء من الدعاة إلى الله في حرصهم على هداية الكبراء والرموز: ففي قصة إسلام سعد بن معاذ -سيد الأوس- -رضي
الله عنه-، قال أسعد بن زرارة -رضي الله عنه- لمصعب بن عمير -رضي الله عنه- لما
جاءهم سعد بن معاذ: "جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك
منهم أحد، فلما أسلم رجع إلى قومه ووقف عليهم قائلًا: يا بني عبد الأشهل، كيف
تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم
عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا
ومسلمة" (انظر السيرة
النبوية لابن هشام).
(2) فضل مَن
انتفع بدعوة القرآن (العزة في طاعة الله):
- عاتب الله نبيه
-صلى الله عليه وسلم- وأنزل قرآنًا يُتلَى إلى يوم القيامة في رجل فقير صالح،
انتفع بدعوة القرآن(1): وورد أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-
كان إذا لقي ابن أم مكتوم يقول له: "مرحبًا بمَن عاتبني فيه ربي".
- لقد عظَّم
الإسلام من مكانة الصالحين؛ لصلاحهم، وليس لأموالهم ولا سلطانهم: قال -تعالى-: (إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13).
- فالموازين
عند الله أعظم: (ابن أم مكتوم الفقير الصالح، خير من ملء
الأرض مثل أُبي بن خَلَف الشريف الكافر): (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:5-10).
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: مَرَّ رَجُلٌ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (مَا
تَقُولُونَ فِي هَذَا؟)، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ،
وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ
سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟)، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ
خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ
لاَ يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) (رواه البخاري)، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ... ) (رواه مسلم).
صور من ذلك:
- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لِبِلَالٍ
عِنْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ: (يا بلَالُ حَدِّثْنِي بأَرْجَى
عَمَلٍ عَمِلْتَهُ في الإسْلَامِ، فإنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ
يَدَيَّ في الجَنَّةِ، قالَ: ما عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِندِي: أَنِّي لَمْ
أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، في سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إلَّا صَلَّيْتُ بذلكَ
الطُّهُورِ ما كُتِبَ لي أَنْ أُصَلِّيَ) (متفق عليه).
- وزوَّج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية
لمولاه زيد بن حارثة -رضي الله عنه-.
- وأمَّر أسامة بن زيد مولاه على جيشٍ لغزو
الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار، وفيهم: أبو بكر وعمر وزيراه، وفيهم: سعد
بن أبي وقاص، ومن أسبق قريش للإسلام.
(3) خاتمة: في فضل تعلُّم القرآن والعمل به:
- لقد
ركَّزت الآيات بعد العتاب على حقيقة دعوة القرآن، وبيان كرامة مَن ينتفع بها،
وحقارة من يعرض عنها: قال -تعالى-: )كَلَّا
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ .
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس:11-16).
- فضل أهل
القرآن العاملين به: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُقَالُ لِصَاحِبِ
الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي
الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا) (رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ(2)،
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي كُنْتُ أُسْهِرُ لَيْلَكَ،
وَأُظْمِئُ هَوَاجِرَكَ... ) (رواه ابن الطبراني، وقال الألباني: "حسن أو
صحيح")، وقال -صلى
الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ)
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (هُمْ
أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ(3) وَخَاصَّتُهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
فاللهم اجعلنا من أهل القرآن وخاصته، والحمد لله
رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فهذا الرجل الفقير الضعيف، انتفع بدعوة القرآن
فرفعته؛ ولذلك قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بعد العتاب:) كَلَّا
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ .
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس:11-16).
(2) قال السندي في حاشيته على ابن ماجه:
"كأنه يجيء على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا أو للتنبيه له على
أنه كما تغير لونه في الدنيا لأجل القيام بالقرآن، كذلك القرآن لأجله في السعي
يوم القيامة حتى ينال صاحبه الغاية القصوى في الآخرة".
(3) قال السندي في حاشيته على ابن ماجه: "أي:
أولياؤه المختصون به، اختصاص أهل الإنسان به".
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com