السُّنَّة والرأي عند الأئمة الأربعة من خلال كتابات
العلامة "أبو زهرة" وبراءة الإمام "أبو حنيفة" من معارضة
السنة برأيه (2)
كتبه/ عبد
المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
تمهيد:
فقد لخَّصنا في المقالة السابقة رأيَ العلامة
"محمد أبو زهرة" حول العوامل التي أدَّت لظهور مدرستي:
"الرأي" و"أصحاب الحديث".
وذكرنا أنه
يُرجِع الخلاف بين مدرستي: "الرأي والحديث" إلى عاملين رئيسيين:
الأول: كيفية مواجهة الأحاديث المكذوبة والموضوعة، ودخول
غير المؤهَّلين لحلبة رواية الحديث، ومِن ثَمَّ رَأَى البعض أن يعمل بالأحاديث
التي لا غبار عليها البتة، ويكمل هذا بالرأي، والبعض رأى أن الحلَّ هو التمحيص في
أحوال الرواة، وتمهيد القواعد التي يمكن بها أن نطمئن أو لا نطمئن إلى صحة ما
يُنْسَب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أخبار.
الثاني: إذا كانت النصوص محدودة، ووقائع الناس لا تنحصر؛
فهل يتصدَّى المجتهد لما وقع مِن المسائل فقط تاركًا باقي المسائل المحتملة إلى
أن تقع، أم أنه يجمل به إذا كانت عنده آلة النظر أن يفرِّع المسائل لمَن بعده؟
ومِن ثَمَّ تصدَّى أصحاب الرأي لبحث مسائل أكثر
مِن التي تصدَّى لها أصحاب الحديث.
ومِن ثَمَّ أيضًا؛ فقد ظَهَر أن نسبةً ملموسة
منها مخالفة للنصوص بعد أن تم جَمْعُ السُّنة.
وغني عن
الذكر: أنه لولا التقليد الأعمى لتكاملت المدرستان،
وتطابقت أصولهما الكلية، وإن كان ولا بد أن تبقى مساحة من الاختلاف كتلك التي
وَقَعَتْ لمَن كانوا في زمنٍ واحدٍ، وخُوطِبوا بخطابٍ واحدٍ، واختلفوا في فهمه
كما في حديث: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا
فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) (متفق عليه).
وذلك أن قواعدَ تمحيص الأخبار قد اكتملت، وأن
السُّنة قد جُمِعَت، وأن أحوال الناس قد تفرَّعت، ومعظم المسائل التي افترضها
أصحاب الرأي صارت واقعًا، وقد استفاد مالك ومِن بعده الشافعي -رحمها الله تعالى-
مِن تصوير الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- لتلك المسائل، وإن كانا نَظَرا فيها مِن
واقع ما وصل إليهما مِن أخبارٍ.
وخلصنا مِن
ذلك إلى:
أن الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- لم يكن يمثِّل
مدرسة الرأي المذمومة، بل وإن مدرسة الرأي المذموم فقهيًّا لا تتساوى بمدرسة
الإعراض عن الشريعة، والطعن في أحكامها، وإن كان منهم مَن يقود الآن مدرسة
التلفيق بين الشريعة وبين الأطروحات الغربية!
كان هذا التمهيد والتوضيح مع عرضٍ موجزٍ لتصور
"العلامة أبو زهرة" عن الموضوع.
ونستعرض في هذه المقالة ملخص كلام العلامة
"أبو زهرة" حول "السُّنة والرأي"، وهو المبحث الذي تكرر في
كتبه عن الأئمة الثلاثة: "أبي حنيفة، ومالك، والشافعي" معتبرًا أن
المدرستين التقتا عند الإمام الشافعي، وعلى نهجه سار الإمام أحمد، وإن كان هذا لا
يَلْزَم منه تطابق اجتهادات المجتهدين.
فإليك ملخص
كلامه من كتاب: "الإمام أبو حنيفة":
1- حاجة الأمة للرأي ضرورية.
يقول
الشهرستاني في "الملل والنحل": إن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما
لا يَقْبَل الحصر والعدد، ونعلم قطعًا أنه لم يَرِد في كلِّ حادثة نص، ولا يُتصور
ذلك أيضًا.
والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية،
وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى؛ عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجبا
الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد.
ومِن أجل ذلك كان الصحابة بعد وفاة النبي أمام
حوادث لا تتناهى ولا تُحصَر، وبين أيديهم کتاب الله، والمعروف مِن سنة رسول الله،
فلجئوا إلى الكتاب يعرضون عليه ما جَدَّ مِن حوادث، فإن وجدوا حكمًا صريحًا حكموا
به، وإن لم يجدوا في الكتاب الحكم واضحًا اتجهوا إلى المأثور عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، واستثاروا ذاكرات أصحابه؛ ليعلنوا حكم النبي -صلى الله عليه
وسلم- في أمثال قضاياهم، فإن لم يكن بينهم مَن يحفظ حديثًا اجتهدوا بآرائهم،
ومثلهم في ذلك مثل القاضي المقيَّد بنصوص قانون إذا لم يجد في الناس ما يحكم به
في قضية بين يديه، طبَّق ما يراه عدلًا وإنصافًا.
2- الصحابة
والأئمة مِن بعدهم لم يلجئوا للرأي إلا إذا لم يجدوا النص:
هكذا كانوا يسيرون، يعرضون القضية على الكتاب ثم
على السنة، وإلا فالرأي، ولقد جاء في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-:
"الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك، ما ليس في كتابٍ ولا سنةٍ، اعرف الأشباه
والأمثال، وقِس الأمور عند ذلك".
3- اتفاق
الصحابة على الاعتماد على الكتاب والسنة المعروفة إن وُجِدَث:
أخذ الصحابة بالرأي، ولكن اختلفوا في مقدار
أخذه، ففريق أكثر منه، وفريق أخذ به قليلًا، وكان يغلب عليه التوقف إن لم يجد
نصًّا من كتاب أو سنة متَّبعة.
والحق في أمرهم -رضي الله عنهم- أنهم كانوا
يتفقون في الاعتماد على الكتاب والسنة المعروفة إن وجدث، فإن لم يجدوا سنة معروفة
عندهم اتَّجه المشهورون من فقهائهم إلى الرأي.
4- سبب تنوع
المدارس الفقهية للصحابة:
كانت سنة عمر -رضي الله عنه- تقضي باحتجاز كبار
الصحابة من قريش داخل ربوع الحجاز لا يعدوه كبراؤهم، فلا يتجاوز الحرتين كبار
المهاجرين والأنصار إلا بإذنٍ منه، وهو عليهم رقيب، فلما قضى عمر، وخرجوا إلى
الأقاليم، صار لكل طائفةٍ منهم مدرسة فقهية تروي عنه وتسلك طريقه، فلما جاء عصر
التابعين -وهم تلاميذ أولئك الفقهاء الذين بقوا في المدينة أو نزحوا عنها- صار
لكل مصر فقهاؤه، فتباعدت الأنظار بتباعد الأمصار واختلافها؛ إذ كل أخذ بعرف
إقليمه والمسائل التي ابتلي بها ذلك الإقليم، ثم هو قبل ذلك متبع طريقة الصحابي
الذي نزل بذلك الإقليم، وناقل لأحاديثه التي رواها وانتشرت بينهم عنه، فظهرت بسبب
ذلك ألوان مختلفة من الفكر الفقهي، وكل يتحرى فيما يفتي به أن يكون تحت ظلِّ
الدين، يستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية.
5- كيف واجهت
كلُّ مدرسة ظاهرة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم التي نهجتها الفِرَق
المنحرفة؟
في هذا العصر لم تنقطع موجة الكذب على الرسول
-صلوات الله وسلامه عليه-، وكان اتجاه الفرق -للدفاع عن آرائها بالقول يجري على
الألسنة أو الأقلام- سببًا في شيوع أحاديث انتحلتها الفِرَق انتحالًا، ونشروها
بين جمهور المسلمين!
كانت هذه
الموجة من الكذب في عصر الاجتهاد وإنشاء المذاهب سببًا في أمرين:
(أحدهما): اتجاه المحدثين إلى تمحيص الرواية الصادقة
واستخراجها من بين الدخيل؛ ليتميز الخبيث من الطيب، فدرسوا رواة الأحاديث وتعرفوا
أحوالهم، وعرفوا الصادق من غير الصادق، وجعلوهم في الصدق مراتب، ثم درسوا
الأحاديث ووزنوها بالمعروف من هذا الدين بالضرورة، والأحاديث المشهورة المستفيضة
التي لا يُشك في صدقها، والقرآن الكريم، فإن وجدوها متنافرة معها ردوها.
ثم اتجه الأعلام من الأئمة إلى تدوين الصحيح من
الأحاديث، فدوَّن مالك موطأه، وجمع سفيان بن عيينة كتاب الجوامع في السنن
والآداب، وألَّف سفيان الثوري الجامع الكبير في الفقه والأحاديث، وهكذا ...
(ثانيهما): أن الفقهاء "أهل الرأي" أكثروا من
الإفتاء بالرأي؛ خشية أن يقعوا في الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
6- أبو حنيفة
-رحمه الله- بداية التقاء مدرستي: "الرأي والحديث"، وليس بداية
الافتراق:
أما في آخر عصر أبي حنيفة -رحمه الله-: فقد أخذ
الفريقان يتقاربان؛ وذلك لالتقاء الفريقين واجتماعهما للمدارسة والمذاكرة، أو
الجدل والمناظرة، وأكثرهم يريدون رفع منار الشريعة، ويرجون لها وقارًا؛ ولأنه لما
وجد التدوين في عصره أخذ كل فريق يقرأ على الآخر؛ ولأن كثرة الحوادث وعدم تناهيها
اضطرا أهل الحديث أن يخوضوا في الرأي، وتدوين الصحاح وتمييزها، وسهولة تعرفها،
واطلاع أهل الرأي على أكثر ما روي عن الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-،
وتلقيهم لما رواه أهل البُلدان المختلفة من أحاديث وآثار، جعل بين أيديهم طائفة
كبيرة من الأحاديث، فتقاربوا بها مِن أهل الحديث.
7- تعظيم
صاحبي أبي حنيفة للأثر:
فأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة وفقهاء الرأي،
يُقبِل على دراسة الآثار وحفظها والاستشهاد بها على ما انتهى إليه من آراء، فإن
وجد رأيًا ارتآه مِن قَبْل يخالِف السُّنة عدل عنه إلى الرأي الذي يتفق مع
الحديث، ولقد قال فيه ابن جرير الطبري: وإنه كان يُعرَف بحفظ الحديث، وإنه كان
يحضر المحدث، فيحفظ خمسين أو ستين حديثًا، ثم يقوم فيمليها على الناس.
ومحمد الصاحب الثاني لأبي حنيفة، يطلب الحديث
ويأخذه عن الثوري، ثم يلازم مالكًا -رضي الله عنه- ثلاث سنوات، ويأخذ عنه، وهكذا
نرى الشقة بين أهل الرأي وأهل الحديث قد أخذت تضيق حتى تقاربا.
8- الالتقاء
التام بين المدرستين على يد الشافعي:
فلما جاء دور الشافعي مِن بعد، كان هو الوسط الذي
التقى فيه أهل الرأي وأهل الحديث معًا، فلم يأخذ بمسلك أهل الحديث في قبولهم
لكلِّ الأخبار ما لم يقم دليل على كذبها، ولم يسلك مسلك أهل الرأي في توسيع نطاق
الرأي، بل ضبط قواعده، وضيَّق مسالكه، وعبَّدها وسهلها، وجعلها سائغة.
9- دور الإمام أحمد في
الجمع بين السنة والرأي (هذه الفقرة من كتاب الإمام أحمد للشيخ أبي زهرة أيضًا).
10- أصول
الإمام أحمد الأثرية، مذهبه أيسر المذاهب في باب المعاملات (هذه الفقرة من كتاب
الإمام أحمد للشيخ أبي زهرة أيضًا).
11- القياس
عند السلف هو نوع مِن تعظيم النص، لا نوع مِن مزاحمته (عود إلى كتاب الإمام أبي
حنيفة):
قد بيَّنَّا بإيجازٍ اختلاف فقهاء الرأي وفقهاء
السنة، وإنما الرأي الذي كان يجري الكلام حوله: أهو القياس الفقهي الذي هو إلحاق
أمر غير منصوص على حكمه بأمرٍ آخر منصوص على حكمه لاشتراكهما في علة الحكم؟ أم هو
أعم من ذلك؟
إن المتَّبع لمعنى كلمة الرأي في عصر الصحابة
والتابعين يجدها عامة لا تختص بالقياس وحده، بل تشمله وتشمل سواه، ثم إذا نزلنا
إلى ابتداء تكوين المذاهب، نجد فيها هذا العموم أيضًا، ثم إذا توسطنا في عصر
المذاهب نجد كل مذهب يختلف في تفسير الرأي الجائز الأخذ به عن المذاهب الأخرى.
يفسِّر ابن
القيم -رحمه الله- الرأي الذي أُثِر عن الصحابة والتابعين بأنه: ما يراه القلب بعد فكرٍ وتأملٍ، وطلب المعرفة
ووجه الصواب مما تتعارف فيه الأمارات، وإن الراجع لفتاوى الصحابة والتابعين، ومَن
سلك مسالكهم، يفهم مِن معن? الرأي ما يشمل كل ما يفتي فيه الفقيه في أمرٍ لا يجد
فيه نصًّا، ويعتمد في فتواه على ما عُرِف مِن الدِّين بروحه العام، أو ما يتفق مع
أحكامه في جملتها في نظر المفتي، أو ما يكون مشابهًا لأمرٍ منصوص عليه فيها،
فيلحق الشبيه بشبهه، وعلى ذلك يكون الرأي شاملًا للقياس، والاستحسان، والمصالح
المرسلة، والعرف.
وقد كان أبو
حنيفة وأصحابه يأخذون بالقياس والاستحسان والعرف، ومالك وأصحابه يأخذون بالقياس
والاستحسان والمصالح المرسلة، ولقد اشتهر الأخذ بالمصالح المرسلة في ذلك
المذهب؛ ولذلك كانت فيه مرونة وقابلية لكل ما يَجِدُّ في شئون الناس في العصور
المختلفة، مع أنه مذهب قد قلَّل من القياس، ولم يأخذ به كثيرًا، وكذلك الاستحسان
قد اتسع له المذهب المالكي، حتى لقد قال فيه مالك: إنه تسعة أعشار العلم، ولكن
ذلك كله إذا لم يكن نصٌّ، ولا فتو? صحابي، ولا عمل لأهل المدينة.
جاء الشافعي
فوجد ذلك الاستدلال المرسل للأحكام من غير نصٍّ يعتمد عليه؛ فلم يأخذ بذلك الاتجاه غير المقيَّد في استنباط
الأحكام، ورأى أنه لا رأي في الشريعة إلا إذا كان أساسه القياس، بأن يلحق الأمر
غير المنصوص على حكمه بالأمر الآخر المنصوص على حكمه، والرأي في هذا الحال حمل
على النص، وليس بدعة في الشرع، أما الاستدلال المطلق والتعليل المطلق للأحكام من
غير البناء على العلة في الأمر المنصوص على حكمه؛ فهو البدعة في الشرع؛ ولذلك قال:
مَن استحسن فقد شرَّع.
ولقد وضع للقياس ضوابطه وموازينه، ودافع عنه
وأيَّده" (انتهى).
وبهذا الاستعراض نرجو أن تكون الصورة قد
اتَّضَحَتْ بأنه لا يجوز لأحدٍ أن يقدِّمَ رأيه على الدليل، وعلى براءة الأئمة؛
لا سيما أبي حنيفة -رحمه الله-.
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com