الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع آيات (13) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (موعظة الأسبوع)

وقفات مع آيات (13) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الأربعاء ١٠ نوفمبر ٢٠٢١ - ١٨:٥٨ م
67

وقفات مع آيات (13) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (النساء:43).

قصة نزول الآية:

ذكر السيوطي "في أسباب النزول" في سبب نزولها ثلاثة أسباب:

- الأول: قال: "روى أبو داود والنسائي والحاكم عن علي -رضي الله عنه- بسندٍ صحيح، قال: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الخَمْرِ، فَأَخَذَتِ الخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1-2)، "وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ"، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء:43).

- الثاني: قال: أخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر عن علي -رضي الله عنه- قال: "نزلتْ هذه الآية، قوله: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)  في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي" (حسنه ابن كثير).

- الثالث: قال: أخرج ابن جرير عن يزيد بن حبيب قال: "إن رجالًا مِن الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فأنزل الله: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)".

وقفات مع الآية:

الأولى: مشروعية التدرج في التغيير:

- الشاهد مِن الآية كونها نزلت في مرحلة متوسطة بين التمهيد بالتنفير والختم بالتحريم: قال الله -تعالى- في مرحلة التمهيد والتنفير: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة:219)، وقال -تعالى- في مرحلة الختم بالتحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:90-91).   

- الواقع المرير يحتاج إلى التدرج عند التطبيق:  قَالَتْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ، إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر:46)، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ"، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ. (رواه البخاري).

- مثال رائع: لما تولى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الخلافة، كان ابنه عبد الملك شابًا تقيًّا متحمسًا ينكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف والنظام لمَن كانوا قبله، فقال يومًا: مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!"، فكان جواب الأب الفقيه: "لا تعجل يا بني، فإن الله -تعالى- ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق فيدعوه جملة فيكون مِن ذا فتنة".    

- تنبيه مهم: "لا يُقال بعد استقرار الشريعة، بالتدرج في تنزيل أحكام الشرع على الناس، وإنما يُقال بمراعاة أحوال الناس عند التطبيق والتغيير".

الوقفة الثانية: تعظيم قدر الصلاة في الإسلام:

- كانت الخمر مباحة في كلِّ الأوقات، لكنها محرمة عند وقت الصلاة لعظيم قدرها عند الله وعند المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى).

- الصلاة يتابع بها العبد إيمانه زيادة ونقصانًا: فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أوَّلُ مَا يحاسَبُ بهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيامَةِ الصلاةُ فإنْ صَلَحَتْ ‌صَلَحَ ‌لَهُ ‌سائِرُ ‌عَمَلِهِ وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِهِ) (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني).

وكتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الآفاق: "إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمَن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظ في الإسلام لمَن ترك الصلاة".

- الصلاة كفارة للسيئات وماحية للخطيئات: عن أبي ذر -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خَرَجَ زَمَنَ الشِّتَاءِ وَالْوَرَقُ يَتَهَافَتُ فَأَخَذَ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ، فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ)، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (إِنَّ العَبْد الْمُسلم ليصل الصَّلَاة يُرِيد بهَا وَجه الله ‌فتهافت ‌عَنهُ ‌ذنُوبه كَمَا يتهافت هَذَا الْوَرَقُ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

- الصلاة مدرسة خلقية حيث استثنى الله المحافظين على الصلاة من أصحاب الأخلاق الذميمة: قال -تعالى-: (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . إِلا الْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج:19-23).

- الصلاة راحة وسعادة وتفريج وترويح عند الهموم: قال تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الحجر:97-98)، وقال تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

- الصلاة الوصية الأخيرة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ ‌آخِرُ ‌وَصِيَّةِ ‌رَسُولِ ‌اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا كَانَ يُفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ: (الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

الوقفة الثالثة: نبذة من علوم القرآن (أسباب النزول):

- قال العلماء: قد يتكرر السبب في نزول الموضع الواحد، وقد يتكرر النزول في السبب الواحد.

مثال الأول: الآية التي بيْن أيدينا حيث تكرر السبب في نزولها:

مثال الثاني: ثلاث آيات في سورٍ مختلفةٍ نزلتْ على سببٍ واحدٍ، وهو: بيان مكانة المرأة في الإسلام.

- فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران:195).

- وعنها -رضي الله عنها- قالتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا لَنَا لَا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ؟ قَالَتْ: فَلَمْ يَرُعْنِي مِنْهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَتْ: وَأَنَا أُسَرِّحُ شَعْرِي، فَلَفَفْتُ شَعْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِ بَيْتِي، فَجَعَلْتُ سَمْعِي عِنْدَ الْجَرِيدِ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب:35) (رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ).

- وعنها -رضي الله عنها- قالتْ: "يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ المِيرَاثِ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء:32)" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

فاللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com