الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الساقطة الفاضلة!

الساقطة الفاضلة!
شريف طه
الخميس ١٨ نوفمبر ٢٠٢١ - ١٧:١٨ م
168

الساقطة الفاضلة!

كتبه/ شريف طه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أثار الإعلان عن مسرحية عنوانها: (المومس الفاضلة) ردود فعل مستهجنة، وكان مثار الاستهجان بداية هو العنوان المثير للاشمئزاز!

وإذا تجاوزنا أزمة العنوان، وتناولنا المضمون؛ فالمسرحية في أصلها: رواية مسرحية،  للفيلسوف والأديب الفرنسي الشهير "جان بول سارتر"، كتبها بالفرنسية عام (1946م)، وتم عرضها كمسرحية في فرنسا، ثم في عددٍ كبيرٍ من بلدان العالم.

وأحداثها تدور في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تريد أسرة أرستقراطية من البيض إجبار عاهرة أتت من الشمال الأمريكي، على شهادة زور ضد رجل أسود، بأنه أراد اغتصابها مع صديق له في القطار؛ ولذلك قتله الرجل الأبيض ابن الأسرة العريقة (توماس) الذي تمثِّل شهادة (العاهرة) الزور سببًا لبراءته.

المسرحية تهدف لنقد التمييز العنصري في الولايات المتحدة، وكذلك نقد منظومة الأخلاق الزائفة (مِن وجهة نظر المؤلف) حيث يظهر فضيلة العاهرة المتمسكة بالحق، في مقابل البيض الطالبين لشهادة الزور بالترغيب والترهيب، والإكراه والخداع.

وإذا تجاوزنا التعليق على هذا العمل بعينه، وانتقلنا إلى الصور العامة التي ترسمها الأعمال الفنية في بلادنا؛ فسنجد هذه الصورة المتكررة عن المومس الفاضلة، المتمسكة بالأخلاق، والتي أجبرتها الظروف -كالفقر، والظلم المجتمعي- على ممارسة الفاحشة، لكنها غالبًا ما تكون أشرف من كثيرٍ ممَّن يدعون الفضيلة والأخلاق والتديُّن الزائف! فالمومس الفاضلة دومًا يقابلها المتدين المنافق، أو المتدين الزائف، أو مدعي الفضيلة كذبًا وزورًا! هذا إن لم يكن إرهابيًّا متطرفًا معقدًا نفسيًّا!

وعن هذه الفئة من المنحرفات من النساء أوردت الدكتورة "فوزية العشماوي" حديثًا لـ"نجيب محفوظ" يتحدث عن هذه الفئة من النساء قائلًا: "الواقع أن كثيرًا مِن المنحرفات في رواياتي، يرجع انحرافهن إلى أسبابٍ اجتماعيةٍ، المتهم وراءهن ليس سلوكهن بقدر ما هو المجتمع الذي يعشن فيه!".

والمشكلة هنا لا تكمن في دور الفقر والمجتمع في وقوع بعض النساء في الفاحشة، بل إن في الشرع ما يدل على ذلك، كما في حديث البخاري المشهور في الرجل الذي تصدق على زانية، فقيل له: (أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عن زِنَاهَا) (متفق عليه)، وكما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، وفيه: أن الرجل الذي راود ابنة عمه على الزنا استغل حاجتها في ذلك قبل أن يتوب ويترك ذلك خوفًا من الله -تعالى-، فهذا وغيره يدل على أن الفقر وغياب التكافل الاجتماعي، قد يدفعان بعض النساء للرذيلة.

ولا تكمن المشكلة أيضًا في أن المومس أو البغي قد يكون فيها بعض جوانب الخير: فإن مِن عقيدة أهل السُّنة والجماعة أن الرجل الواحد قد يجتمع فيه الخير والشر، والحسنة والسيئة، والفضيلة والرذيلة، وهو لما غلب عليه منهما، وأهل السنة لا يكفِّرون بالكبائر، ولو كانت الكبيرة هي البغاء، بل ورد في الحديث الصحيح: (بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ) (متفق عليه).

فيا سبحان الله! بغي غُفِر لها بهذا العمل الذي قد يراه البعض يسيرًا، ولكن الموازين عند الله مختلفة، فغفر لها ذنبها بإخلاصها وسقيها الكلب!

ولذلك من عقيدة أهل السنة أيضًا: أننا لا نحكم على معينٍ بجنةٍ ولا نارٍ، إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأننا لا نعلم الخواتيم، ولا حقائق الأمور عند الله -تعالى-.

التصور الإسلامي الصحيح يفرِّق بين المخطئ والخطأ: فالخطأ والمعصية لا بد من رفضهما من صاحبها وعدم تبريرهما بحالٍ، وإنكارهما عليه، ومعاقبته على ذلك بالعقاب المناسب شرعًا؛ حدًا أو تعزيرًا، وقد نهانا الله -تعالى- عن أن تحملنا الرحمة والشفقة بالزاني على عدم معاقبته، فقال -تعالى-: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا ‌رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) (النور:2)، أي: لا تمنعكم الرأفة من تطبيق الحد الشرعي.

وكل هذا لا يتناقض مع الرحمة بالعاصي، والنهي عن إعانة الشيطان عليه، وعدم سبه وإهانته بما لا يجوز شرعًا، كما في حديث الغامدية التي زنت، فحدها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك نهى عن سبها، ونص الفقهاء على حرمة ذلك، ففي دليل الطالب من كتب الحنابلة: "ويحرم بعد الحد حبس أو إيذاء بكلام".

المشكلة تكمن دومًا في عدم فهم هذا التصور الإسلامي البديع المتوازن الذي يجعلك ترفض الفاحشة من كل قلبك، وتنكر على صاحبها دون أن يصاحب ذلك علو واستكبار، أو قسوة وغلظة، ثم استيراد التصورات الغربية المثقلة بحمولة التفسيرات الكنسية المتطرفة، وهو ما يوقع الكتاب الغربيين أسرى للثنائيات المتناقضة!

ثمت ملاحظة أخرى على مثل هذه الأعمال المستوردة، وهي: أنها تتناول مشاكل لا تمثِّل ظاهرة في مجتمعاتنا، فلا تمثِّل قضية السود والبيض إشكالية في الواقع العربي والإسلامي، وهو ما يبرز إشكالية الغرق في الخطاب الغربي، بمشكلاته وحلوله لهذه المشكلات، والرغبة في استيراد المشاكل لتبرير البيئة المناسبة للحلول المستوردة، وهذه مشكلة جذرية في الخطاب العلماني العربي الذي تعامل بما يشبه (الأصولية الحرفية) مع المنتج الثقافي الغربي، والذي كان نتاجًا لصراعاتٍ ومشاكل وحلولٍ كلها تتعلق بواقع مغاير تمامًا للواقع الذي نعيشه؛ فإذا كان العلمانيون يعيبون على السلفيين أنهم يستلهمون التراث الإسلامي دون مراعاة تغير الواقع (وهي تهمة باطلة لا يتسع المقام لمناقشتها)؛ فإنهم وقعوا في نفس الإشكالية، لكن مع التراث الغربي والمنتج الغربي.

كل هذا في مقابل الهروب من المشاكل الحقيقية التي تعاني منها بلادنا، وهو ما يمثِّل الهروب إلى منطقة الراحة والأمان بدلًا من مواجهة الأدواء الحقيقية التي نواجهها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com