الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (43) قصة إحياء الطيور الأربعة (5)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (43) قصة إحياء الطيور الأربعة (5)
ياسر برهامي
الأحد ٢١ نوفمبر ٢٠٢١ - ٢٠:١٥ م
108

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (43) قصة إحياء الطيور الأربعة (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

في هذه الآية فوائد:

الأولى: أن التصديق واليقين يزيد وينقص، وهذا قول عامة أهل السُّنة، وأنه ليس كل نقص يكون شكًّا، وهذه الآية تتضمن أوضح الرد على المرجئة القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنهم جعلوا -وغلاتهم الجهمية- الإيمان هو المعرفة والتصديق، ووافقهم الأشاعرة حيث جعلوا الإيمان هو المعرفة والتصديق الباطن فقط دون نطق اللسان، ثم قالوا: إنَّ أي نقص يكون شكًّا، والشك كفر؛ فالإيمان لا يزيد ولا ينقص!

وهذه الآية الكريمة -وغيرها من آيات القرآن- وأدلة السنة، وإجماع أهل السنة: تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، واليقين -الذي هو أحد أركان الإيمان- يتفاوت بين أهل الإيمان بعضهم وبعض، وبين أحوال الواحد منهم؛ فهو في وقتٍ يكون أكمل إيمانًا من وقتٍ آخر، ولا يلزم أن يكون ذلك شكًّا.

فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بعد رؤيته إحياء الله الطيور الأربعة -بعد أن قطعها وجعلها على الأجبل الأربعة- صار أكثر اطمئنانًا ويقينًا -كما أراد- أكثر منه قبل أن يعاين ذلك، وليس المُخبَر كالمُعايِن، وقد كان مؤمنًا قبل ذلك، ولم يكن شاكًّا.

واعلم أن زيادة اليقين والتصديق تكون بالكمية والكيفية، وقصة إبراهيم في زيادة الكيفية؛ وذلك يكون بتظاهر الأدلة حتى يصل الإنسان إلى أعلى درجاتها، وهي المعاينة كما دلت عليه هذه الآية.

فزيادة اليقين تعني: زيادة نوعية التصديق نفسها، ونوعية التصديق مختلفة ومتفاوتة في كلِّ أصلٍ مِن أصول الإيمان الستة؛ فقد يزول التصديق بالكلية، وذلك يعني زوال الإيمان بحدوث شيء من أمرين: الشك أو التكذيب.

والشك: هو الشك المستوي الطرفين؛ فصاحبه متردد: هل حقًا لا إله إلا الله أم يُعبَد غيره معه؟ أو أنه يشك هل خلق الله العالم أو لم يخلقه؟ أم أن العالم قديم أزلي كما يقول الملحدون وأدعياء الطبيعة؟ وكذلك الشك في أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكون عند الشاك احتمال الصدق واحتمال الكذب؛ فهو يشك في ذلك وليس عنده يقين بأحد القولين، وهو متردد: هل القرآن حق أم أنه كتاب مختلق؟ ومتردد: هل يُبعث الناس يوم القيامة أم ليست هناك قيامة ولا بعث ولا نشور؟ وكذلك يشك: هل توجد الملائكة أم هي شخصيات توهَّمَها المؤمنون والمسلمون؟ وكذلك في الرسل يشك: هل هم من أذكياء العالم الذين عندهم قوة التخيُّل وقوة التخييل وقوة التعبير، فهَيَّئوا للناس أنهم رسل وليسوا كذلك، أم أن الأمر كما قالوا بأنهم رسل من عند الله وأتتهم الملائكة بهذه الرسالة؟

فأصول الإيمان كلها يحصل عند البعض شك فيها، وغالبًا ما يكون متلازمًا؛ فالشك في الربوبية والألوهية والرسالة والكتب المنزلة والملائكة واليوم الآخر، وكذا الشك في القضاء والقدر، فهذا الإنسان زال من قلبه التصديق بسبب هذا الشك، قال -عز وجل- عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)، فهؤلاء أناس نطقوا الشهادتين، وصلوا وصاموا، لكنهم منافقون؛ لأنهم في ريبٍ كما قال -تعالى-: (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة:45).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة -رضي الله عنه-: (اذهبْ بنعليَّ هاتَينِ فمَنْ لقِيتَ مِنْ وراءِ هذا الحائطِ يَشهدُ أن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بها قلبُهُ فَبَشِّرْهُ بالجِنَّةِ) (متفق عليه)، فلكي ينجو العبد يوم القيامة لا بد أن يكون مستيقنًا، ولكي يكون مؤمنًا عند الله وعنده أصل الإيمان لا بد أن يكون عنده يقين، فلو كان عنده شك أو ريب؛ فليس عنده أصل الإيمان.

وأفظع من الشك والريب: التكذيبُ؛ فالشك هو استواء الطرفين، أما التكذيب فهو أن يعتقد في باطنه خلاف الحق، ولو شبَّهنا الإيمان ببناء، فالذي عنده شك أرضه مستوية لا شيء فوقها من البناء، ولا شيء نازل عنها، أما المكذِّب فمثله كمثل حفرة تحت الأرض؛ كالذي يعتقد أن الله ثالث ثلاثة! أو يعتقد أن المسيح إله! أو ينفي نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكذبه! فهذا لا يتردد في هل الله واحد أم ثلاثة، بل يجزم أنه ثلاثة، فهذا عنده تكذيب، وهذا لا يتردد هل المسيح عبدٌ رسولٌ أم إله، بل يجزم أنه إله! فهو معتقد للكفر بخلاف الذي يشك، فإنه شك بين الإيمان والكفر، وزوال الإيمان بالشك مثل زواله بالتكذيب في حصول الكفر، وإن كان التكذيب أشد.

والذي يعتقد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رجل كذاب شر من الذي يشك: هل هو رسول أم لا! صادق أم لا! فهو وإن لم يكن مكذبًا له؛ إلا أنه غير معتقد صدقه، فالتكذيب أشد من الشك، وكلا الأمرين ينتفي معهما أصل الإيمان.

وكل هذا التفصيل إنما قصدنا منه بيان أن نوعية التصديق نفسها تختلف، وأن أول درجة من درجات التصديق الباطن هي زوال الشك، وبالتالي: زوال التكذيب بالأَوْلى، فبداية الإيمان هي لا إله إلا الله، وذلك إن لم تبلغه الأدلة القطعية بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

وبعض المنافقين عنده شك، وبعضهم عنده تكذيب وهم أشد درجات المنافقين، والكفار منهم مكذبون ومنهم شاكون، ومنهم مَن لا يُكذِّب في الحقيقة؛ إنما عندهم استكبار؛ فزال عمل القلب من قلوبهم.

وقد ينضم إلى ذلك تكذيب اللسان؛ فهم يكذبون بلسانهم وإن كانوا يعلمون أنهم كاذبون فيما يقولون، كما قال -تعالى- عن مشركي قريش: (فَإِنَّهُمْ ‌لَا ‌يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام:33)، فالجحود والنفي كان بلسانهم بخلاف ما في صدورهم.

وبعض علماء اليهود كانوا يصرِّحون للنبي -صلى الله عليه وسلم- بنبوته، قائلين: نشهد أنك نبي، ومع ذلك ظلوا على كفرهم؛ لأنه ليس عندهم الانقياد الباطن لما جاء به -صلى الله عليه وسلم-، أي: قد زال عمل القلب.

والمنافقون كانوا نوعين: منهم مَن كان عنده شك، ومنهم مَن عنده تكذيب، وإن كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

وبعضهم عنده تصديق باطن، لكن عنده كراهية لما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وكراهية للدين، مع علمه بحقيقته؛ لذا نقول: إن أولى درجات الإيمان هي تصديق القلب، وهو زوال الشك؛ أي: لا يكون عنده شك في أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فهذه أولى درجات الإيمان، ولكن قد يكون مَن لا يشك الآن في ذلك، لكن لو أن أحدًا شككه وفتنه؛ فإنه يشك ويُفتن؛ فهذا قَبْل أن يُفتَن عنده أصل الإيمان، وليس معه الإيمان الواجب، فإذا فُتِن زال ذلك الأصل، قال الله -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ ‌كَعَذَابِ ‌اللَّهِ) (العنكبوت:10)، أي: في الفرار منه، فإنه يفر من عذاب الناس كما يفر المؤمنون من عذاب الله بطاعة الله -عز وجل-، فهو يطيع الكفار الذين فتنوه!

وقال -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ ‌عَلَى ‌حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ . يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ . يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج:11-13).

كان بعض الأعراب يدخل في هذا الدين، فإن ولدت امرأته ذكورًا وأنتجت إبله، وأمطرت السماء في تلك السنة؛ قال: هذا دين خير، فيظل مسلمًا، وإن أنجبت امرأته إناثًا، ولم تنتج إبله، وأمسكت السماء، قال: هذا دين سوء، ويتشاءم به! (روى البغوي في تفسيره نحوه).

وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ ‌عَلَى ‌حَرْفٍ) قالَ: "كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فإنْ ولَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلامًا، ونُتِجَتْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينٌ صالِحٌ، وإنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، ولَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينُ سُوءٍ!"، فهذا الرجل حاله -بعد أن ينقلب- معروفٌ أنه خسر الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ)؛ فحال هذا قبل أن يفتن وينقلب أن عنده أصل الإيمان؛ لأن الله أثبت أنه يَعبد اللهَ على حرف؛ فإيمانه ناقص، وتصديقه ناقص، ولم يكن لديه شك ولا تكذيب؛ بخلاف الذي ليس عنده أصل الإيمان، ولم يدخل في الدين بعد، لكن إيمان هذا الذي يعبد الله على حرف ليس هو الإيمان الواجب، والقدر الواجب من الإيمان هو الذي يُدخل صاحبه الجنة لأول وهلة، فلو مات هذا الذي ليس عنده الإيمان الواجب على تلك الحال قبل أن ينقلب ويُفتن لمات وعنده أصل الإيمان، فلا يخلد في النار، ولكن لا يلزم أن يدخل الجنة لأول وهلة؛ بل يمكن أن يعذب في النار، ولكنه لا يخلد فيها.

ونشبه ذلك بالبناء: فشخص إيمانه ضعيف أقل مِن القدر الواجب، مثله كمثل جدار حديث البناء لم تجف مواده، فلو دفعه أحدٌ أو اتكأ عليه؛ لَخَرَّ فورًا، فكذلك هذا الشخص لو شككه أحدٌ لشك، ولو فتنه لافْتُتِنَ، كما قال الله -عز وجل- في بعض المنافقين: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا) (الأحزاب:14)، أي: لَأَعْطَوها، وهؤلاء لم يكونوا كفارًا في الأصل أو منافقين في الأصل؛ وإلا لفرحوا عند دخول المشركين المدينة، وإنما هم سيترددون يسيرًا ثم يشركون.

فمِن الناس مَن يكون إيمانه ناقصًا، فتأتيه فتنةٌ فيرجع عن الإيمان، فذلك الذي يُفتن؛ لذلك قلنا: إن أولى درجات الإيمان هي زوال الشك، ولكن لا يشترط أن يكون ثابتًا عند الفتن بحصول أصله، بل بحصول كماله الواجب.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com