الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الميزان الصحيح وأثره في الحكم على الأشياء

الميزان الصحيح وأثره في الحكم على الأشياء
الاثنين ٢٠ ديسمبر ٢٠٢١ - ١٦:٥٦ م
47

الميزان الصحيح وأثره في الحكم على الأشياء

كتبه/ شريف طه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأمور كثيرة جدًّا لا يمكن أن تقيَّم بالشكل الصحيح إلا حينما تنضبط موازين الأشياء وأولويات الحياة، ويوقن المرء أن الدِّين ليس مسألة هامشية، أو جزءًا من الصورة، بل هو مهيمن على كل الحياة، وهو الغاية من الوجود والحقيقة الكبرى فيه.

فمثلًا: تقييم الحضارة الغربية: فمَن يرى أن الدِّين هو المعيار الأعظم الذي يجب أن تقوم به الأمور، أدرك انحطاط هذه الحضارة لدرجة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، بل هي قد جمعت كلَّ موبقات الأمم الغابرة، وأنها تستخرج من البشر أقبح ما فيهم من الإرادات البهيمية والإبليسية والسبعية، وتدنِّس فيهم الإرادات السامية التي يتميز ويسمو بها بنو آدم.

وهذا لا يتنافى مع إدراك المسلم لمدى التقدُّم الكبير الحاصل في الجوانب المادية والعلم التجريبي، ولكن هذه الجوانب تُعظَّم باعتبارها وسيلة لتحقيق الغاية المنشودة، وهي: السعادة في الدارين، ولا تُمدَح لذاتها؛ خاصة إذا جلبت الشقاء والقلق والضنك لأصحابها في الدارين، وليس في الآخرة فقط، قال الله -تعالى-: (وَعدَ اللَّهِ لا يُخلِفُ اللَّهُ وَعدَهُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ . يَعلَمونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنيا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غافِلونَ) (الروم: ?-?).

- مثال آخر: وهو الإقامة في بلاد الكفار، فمعلوم أن الشرع يحرِّم هذه الإقامة؛ إلا لضرورة أو مصلحة راجحة، وذلك بشرط الحفاظ على دينه، والتمكُّن من إقامة الدِّين، والنصوص من القرآن والسنة في ذلك كثيرة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا ‌فِيمَ ‌كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:??)، فلم يجعل الله -تعالى- الإقامة في ديار الكفر مع القدرة على الهجرة، عذرًا في ترك إقامة الدين، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أظْهُرِ المُشْرِكِينَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَمَ؟ قالَ: (لًا تَرَاءَى نَارَاهُمَا) (رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني).

قال الخطابي: "في معناه ثلاثة وجوه: قيل معناه: لا يستوي حكمهما. وقيل معناه: أن الله فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا نارًا كان منهم حيث يراها. وقيل معناه: لا يتسم المسلم بسمة المشرك، ولا يتشبه به في هديه وشكله" (باختصار من معالم السنن، للخطابي).

قال ابن قدامة في المغني: "وَحُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقٍ، لَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ".

وذكر ابن قدامة -رحمه الله- أن الناس في الهجرة ثلاثة أضرب:

- مَن تجب عليه: وهو مَن يعجز عن إقامة دينه، مع القدرة على الهجرة، وترك الإقامة في ديارهم.

- مَن تستحب له: وهو مَن يقدر على الهجرة، ويقدر على إقامة دينه، فلا تجب عليه، ولكن تستحب، حتى لا يألف قلبه المنكر، وللحث على مفارقة ديار الكفر عمومًا.

- مَن يعجز عنها: فهذا لا حكم له؛ لأن القدرة مناط التكليف، والعاجز لا حكم له، وهو معذور عند الله -تعالى-.

وهذه الأحكام يستشكلها كثير جدًّا من الشباب الذي يرى في السفر لأوروبا وأمريكا حلمًا يستحق المغامرة "ولو بحياته"، في أعماق المحيطات في قوارب متهالكة!

وهذا الحلم لا يقتصر على فئةٍ دون الأخرى، بل يعم جميع الطبقات، بل بعض المترفين يحرص على ولادة أولاده في أمريكا لاكتساب الجنسية، وربما يعلمهم وينشئهم هناك!

بالطبع مَن يختزل مفهوم الدِّين في الشعائر لن يرى إشكالية، فضلًا عمَّن يختزله في العلاقة الخاصة بين الإنسان وربه، ولكن الحقيقة أن المسألة أعمق من ذلك، فالمسألة متعلقة بالتعليم والعقائد والإعلام، وتربية الأبناء وفرض نمط الحياة الغربي، وسلب الأسرة القدرة على الممانعة، وهو ما يستدعي النظر في مآلات هذه الإقامة جيدًا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة