السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (115) الحصاد المر لـ(125) سنة سينما (6) من تاريخ الرقابة على السينما (2)

الفساد (115) الحصاد المر لـ(125) سنة سينما (6) من تاريخ الرقابة على السينما (2)
الاثنين ٢٠ ديسمبر ٢٠٢١ - ١٧:٠٠ م
116

الفساد (115) الحصاد المر لـ(125) سنة سينما (6) من تاريخ الرقابة على السينما (2)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلم تمنع الرقابة على السينما في مصر أيَّ فيلم مصري في الفترة من 1984م إلى 2000م، ولكن المطالبة بمنع بعض الأفلام جاءت من الصحافة، وامتدت إلى فئاتٍ مِن المجتمع، ولم يعد مكانها صفحات الصحف فقط، وإنما ساحات المحاكم كذلك، (ففي عام 1986 رفع أحد ضباط الشرطة قضية يطالب فيها بمنع فيلم (للحب قصة أخرى)، (على أساس وجود مشهد معاشرة جنسية بين بطلي الفيلم)، وقد أفرج عن مخرج الفيلم والممثل والممثلة بعد التحقيق معهم في نيابة الآداب (انظر في ذلك: "تاريخ الرقابة على السينما في مصر" سمير فرج - الهيئة المصرية العامة للكتاب ط. مكتبة الأسرة 2016، ص 129).

(وفي عام 1991 طالب بعض السينمائيين ونُقَّاد السينما بمنع الفيلم القصير (القاهرة) إخراج يوسف شاهين بعد أن شاهدوه في برنامج نصف شهر المخرجين بمهرجان كان ذلك العام، ولكن الرقابة لم تمنع الفيلم) (المصدر السابق، ص 129).  

(وفي عام 1992 طالب بعض الصحفيين بمنع فيلم (ناجي العلي)، (ولكن الرقابة لم تمنع الفيلم) (المصدر السابق).

(وفي عام 1994 رفع أحد المحامين دعوى قضائية لمنع فيلم (المهاجر) إخراج يوسف شاهين، وصدر الحكم بمنع الفيلم في نهاية العام، ولكن المخرج وهو المنتج والمؤلف قام باستئناف الحكم، وصدر لصالحه في بداية عام 1995) (المصدر السابق).

وكان يوسف شاهين قد قدَّم (السيناريو إلى الأزهر تحت عنوان: (يوسف وإخوته)، ولكن الأزهر طلب تغيير العنوان وعدم تجسيد النبي يوسف -عليه السلام-، أي: عدم الالتزام بالقصة كما جاءت في الكتب السماوية، ووافق يوسف شاهين على ذلك احترامًا للأزهر واحترامًا للتقاليد الإسلامية، وأعاد كتابة السيناريو على أساس استلهام قصة النبي، وعدم الالتزام بما جاء في الكتب السماوية حتى تصبح مختلفة) (المصدر السابق، ص 170 -171).

ويرى البعض: أن الفيلمَ محاولة لتقديم القصة القرآنية بصورة غير مباشرة، بينما يرى يوسف شاهين كما في دفاعه عن نفسه أن الفيلم (ليس تجسيدًا لشخصية النبي يوسف أو تاريخًا لسيرته كما وردت في القرآن الكريم، ولكنه مجرد قصة متخيلة تروي سيرة إنسان من بين البشر اسمه (رام) ليس مقدسًا)، (والاختلاف بين سيرة النبي يوسف وسيرة الفتى رام ليس اختلافًا شكليًّا يقتصر فحسب على الأسماء، لكنه اختلاف جذري يشمل الزمان الذي عاش فيه كل منهما والمكان الذي هاجر منه كل منهما، والأحداث التي كان كل منهما بطلًا لها، والشخصيات التي كان كل منهما طرفًا في علاقة معها، فما قدم مصر إلا بسبب الانقلاب المذهبي والسياسي الذي انتهى باستبدال الأمونية بالأخناتونية، وعلى عكس النبي يوسف الذي ظلَّ بمصر ومات بها، فإن رام قد عاد إلى أهله لكي يعلمهم ما تعلَّم في مصر) (راجع المصدر السابق، ص 172 -173 بتصرفٍ).

وفي معركة تعرضت لقضية التمويل الأجنبي للأفلام المصرية كانت قضية تحريض الصحافة المصرية للرقابة على منع فيلم (الأبواب المغلقة) في مايو 2001، وقد اختلفت الآراء حول الفيلم بين المؤيد لعرضه وبين المعارض له، فالناقدة السينمائية خيرية البشلاوي رأت كما كتبت في جريدة المساء اليومية يوم الأحد 27 مايو 2001 أن (الفيلم في النهاية يمثِّل عينة دالة وكاشفة وصالحة للدراسة عن الأعمال التي تفوز بالتمويل الأجنبي)، وأن (الواقعية التي تتبناها هذه الأفلام مقضي عليها أمام جمهور سوف يرفضها بالقطع، والأمل الوحيد أمامها هو هذا التمويل الأجنبي الذي يرعاه موزعون ومنتجون محليون حققوا مكسبهم قبل أن يبدأ عرض الفيلم) (المصدر السابق، ص 178).

أما الكاتب السياسي يوسف الشريف فكتب عن الفيلم في جريدة العربي الأسبوعية التي يصدرها الحزب الناصري يقول: (الأبواب المغلقة فيلم مشبوه ومفضوح وسيئ النية مع سبق الإصرار والترصد بمصر والمصريين، وقد بدأ إنتاج هذا الفيلم أوائل التسعينيات في أعقاب حرب الخليج الثانية، ثم تعثَّر لأسبابٍ يطول شرحها. وبينها الجدل العقيم الذي شهدته أروقة الرقابة على المصنفات الفنية شهورًا حول العديد من المشاهد التي لا تتدرج فحسب تحت قائمة الإباحية الجنسية المحظورة، وإنما لتطاولها على قِيَم وعادات الشعب المصري وموروثه الديني والأخلاقي؛ خاصة إعلاءه لمكانة الأم بدعوى الواقعية أو حرية الإبداع، وبينها محاولة الصبي الصغير) بطل الفيلم الهم بوالدته (بنية المواقعة والتلصص عليها عارية في الحمام، الأمر الذي يدعونا إلى الثناء على الرقابة عندما رفضت عرض هذه المشاهد الفجة وما شابهها، وأصرت في شجاعة على حذفها رغم اتهامها تارة بالسلفية والماضوية، وأخرى بالعداء للانفتاح والتنوير، ومع ذلك لم يسلم الفيلم من احتضان الطفل غير البريء لوالدته بعد التخفيف من نية المواقعة التي أدركتها في حينها وصدته عنها، وكذا المشهد (البورنو) حين التحم اللحم باللحم، والتقت شفتا الفنان ... في دوره الباهت بشفتي ... وراح يستعرض اكتنازه ومنحنياته مرتشفًا ومدغدغًا في تباطؤ مقصود لذاته!

والحقيقة: إنني لم أستبشر خيرًا منذ استعراض مقدمة الفيلم بالشكر والامتنان لعددٍ من المؤسسات الثقافية والفنية والفرنسية على إسهامها بسخاء وبالعملة الصعبة -طبعًا- في كلفة إنتاجه، لا لتعصب ضد كل ما هو أجنبي بمنطق المؤامرة والعياذ بالله، وإنما لتراكم وعينا بالخطط والأساليب الذكية للاختراق الثقافي والعولمة التي تذكرنا بالعقوبات الذكية المراد فرضها على العراق.

وإلا فما السر في إعمال معيار الانتقائية لكلِّ ما يشين لمصر والازدراء بالمصريين في الأعمال الأدبية والبحوث الاجتماعية، والمرشحة للترجمة مدفوعة الأجر سلفًا للمؤلف أو الباحث؛ فضلًا عن حصد الجوائز) (المصدر السابق، ص 178-179 بتصرفٍ).

وقال الناقد السينمائي وليد سيف عن الفيلم: (وهو من أكثر الأفلام التي أثارت شهية النقاد وأثارت جدلًا خاصًّا بموضوع التمويل الأجنبي، وتأثير هذا النوع من التمويل على توجهات الفنان واختياراته، وتركيزه على الجوانب المظلمة والقبيحة في مجتمعنا) (راجع: "الفيلم المصري: الواقع والآفاق" وليد سيف ط. الهيئة العامة لقصور الثقافة 2017م، ص 192).

سينما ابتدعوها فما راعوها حق رعايتها:

يتشدق صناع الأفلام السينمائية دائمًا بأن فن السينما وسيلة من وسائل السمو والرقي بالمجتمع، وأنه أداة من أدوات التوجيه والإصلاح إلى جانب التثقيف والترفيه؛ لذا يعتبرون السينما رسالة يتحتم على الفنان القيام بها يحكمه فيها ضميره.  

ورغم تسليم الجميع بأهمية الرقابة على المصنفات الفنية عامة والأفلام السينمائية خاصة حماية لقِيَم المجتمع ومصالح الدولة، فإن كُتَّاب السينما والنُّقَّاد السينمائيين يرفضون دائمًا فرض أي قيود على فنِّ السينما، ويرون أن الحكم على الأفلام حق للسينمائيين ونقادهم ممَّن له القدرة على التذوق الفني دون غيرهم؛ لكونهم وحدهم الذين يملكون لغة السينما والكتابة فيها والتعبير عنها، بل وليس للمثقفين ولا المفكرين ولا القضاة الحكم على العمل السينمائي؛ لكونهم أيضًا ليسوا من أهله!

ويرون أن إنتاجهم الفني يجب يعرض كما هو، ويجب أن يعطي للفنان الحرية المطلقة في التخيل والإبداع، والتعبير بالصورة؛ لا يحكمه في ذلك إلا ضميره، ويرون أن منع عرض العمل السينمائي أو الحذف منه هو اعتداء على حرية وإبداع السينمائيين!

ويحتجون على ذلك: بأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة وأعلنته في ديسمبر 1948 ينص على أن لكلِّ شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل واستقصاء الأنباء، والأفكار، وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة دون تقيُّد بالحدود الجغرافية.

ويدخل في ذلك حرية التعبير الفني، وحرية التعبير الفني مقصورة على صاحب الإبداع الفني، ومن حق الإنسان غير المبدع أن يتلقَّى إبداع الفنانين، ونتاج فنونهم، وأن يستمتع بها.

وفي ظل هذه الرسالة المزعومة، والحرية المطلوبة: نرى الكثير من الأفلام تروج للعري والمشاهد الجنسية والمجون، وشرب الخمر وتجارة المخدرات، والتهريب، وجرائم القتل ومشاهد العنف، وغسيل الأموال، وعقوق الوالدين، والخيانات الزوجية، والبذاءة والإسفاف، والشتم والسب، وغيرها من الموبقات.

وهذا بشهادة المشتغلين والمهتمين بصناعة السينما أنفسهم قبل غيرهم، فمثلًا: قام الناقد السينمائي وليد سيف في كتابه: "الفيلم المصري: الواقع والآفاق" -وهو من إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة بوزارة الثقافة- بتقديم قراءة تحليلية عن الأفلام التي تم إنتاجها في الفترة من 1997 إلى 2011، فيقر بفساد صارخ للعديد من الأفلام التي أُنتجت وعُرِضت على الجمهور المصري في تلك الفترة، وهذا بعض منها وتحليله المختصر لها: فعن فيلم (عشاق الحياة) يقول: (ولكن الفيلم يوغل في العلاقات المحرمة بصورة ميلودرامية ومفتعلة)، وعن فيلم (رجل له ماضي) يقول: (تجده عملًا بلا معنى)، وعن فيلم (أبناء الشيطان): (هو عمل بعيد تمامًا عن أي مصداقية في أحداثه الملفقة أو في صورته الرديئة المظلمة) (انظر الفيلم المصري الواقع والآفاق، ص 24، 174).

وعن فيلم (امرأة وخمسة رجال) يقول: (الفيلم الهزيل المتواضع الذي تصر فيه الراقصة المعتزلة على مواصلة الرقص وممارسة الإغراء، وهي التي أصبحت تنتمي بالنسبة لجمهور السينما من الشباب إلى جيل الأمهات، وعلاوة على كل هذا فهي تسعى لإكمال مسيرة ملَّها المشاهد من نجمة الجماهير الماضية ... ) (المصدر السابق، ص 124). وعن فيلم (عيش الغراب) يقول:  (يصمم ... بعد أن تجاوز الخمسين على أداء مشاهد الأكشن والقيام بأدوار البطولة البدنية، والتي لم تعد تناسب الممثل من حيث الشكل ولا المظهر، ولا اللياقة البدنية، أصبح مِن الصعب على جمهور السينما الشباب ومعظمهم في سن أحفاده أن يصدقوا أن جدوا ما زال قادرًا على مواجهة عصابة بقبضته المجردة) (المصدر السابق، ص 126). وعن فيلم (كلم ماما) يقول عن كاتبه ومخرجه: (انشغلا بالبحث عن الإفيهات الرخيصة، وصنع المواقف البذيئة؛ لاستدرار أردأ أنواع الضحك) (المصدر السابق، ص 206).

 ويقول عن تجربة مخرج فيلم (أريد خلعًا): (من أفشل التجارب)، ويضيف: (وكأن المخرج مصمم على مواصلة مشواره مع الأفلام الضعيفة المهلهلة. وعلى الرغم من أن الفيلم يتناول موضوعًا جديدًا تمامًا على السينما والمجتمع المصري، وهو: الخلع؛ إلا أن المعالجة شابها الفتور والاستسهال، وخفة الحس الاجتماعي في تناول قضية في منتهى الخطورة ليحل محله كوميديا التهريج والإفيه) (المصدر السابق، ص 260-261).

ويقول عن فيلم: (مجانين نص كم): (وهو أحد نماذج الاستهتار بالمشاهد والتهريج والابتذال باسم الفن، وهو عمل يتميز بالركاكة في الكتابة والتنفيذ، وضعف العناصر الفنية خلف الكاميرا وأمامها، فالصورة تفتقد لأي معنى، ولا تضم إلا أنصاف الموهوبين) (المصدر السابق، ص 292).

ويقول عن فيلم (الأولى في الحب): (ويعد الفيلم دعوة صريحة للتخلي عما أسماه البعض بالسينما النظيفة، في فيلم لا تتوقف فيه الإيحاءات الجنسية الصريحة ولا الرغبة الدائمة في الابتذال وتجاوز الخطوط الحمراء وسقف الرقابة فيما يتعلق بتابو الجنس أو الحدود الأخلاقية للفيلم) (المصدر السابق، ص 293).

ويقول عن فيلم (خليج نعمة) أنه من أضعف أفلام مخرجه، ويضيف: (وتتوه الحكاية بين عددٍ مِن الشخصيات بلا ضرورة ولا عمق، ولا يمكنك أن تفهم أي هدف أو دافع لصنع الفيلم)، ويضيف عن أحداثه: (وتتوه في دوامة من العواطف البلهاء والتهريج السخيف والأداء الفاتر) (المصدر السابق، ص 296).

ويقول عن فيلم: (بدون رقابة): (عملًا مليئًا بمشاهد العري والإغراء التي لا تهدف إلا للإثارة الجنسية في إطار كاذب وملفق من التحليل الاجتماعي الساذج الرديء) (المصدر السابق، ص 353).

ويقول عن فيلم: (عايشين اللحظة): (فيلم ضعيف جدًّا على كافة المستويات، وهو يسير على نمط موجة أفلام البطولات الجماعية قليلة التكلفة التي تعتمد في الغالب على وجوه شابة وجديدة، ولكنه لا يتضمن أي جديد على مستوى الأفكار أو الخيال، ولا يستفيد من تحرره من سطوة النجوم والشروط المعتادة للأفلام التجارية التقليدية، يتستر الفيلم بادعاء عرض أفكار الشباب ومشكلاتهم، ولكنه لا يتناول واقعهم إلا بطريقة سطحية، وبأسلوب مباشر، وبالاعتماد على شكل نمطي وقديم جدًّا في معالجة مثل هذه الموضوعات).

ويضيف في نهاية تحليله: (واستحق الفيلم بذلك أن يتذيل قائمة الإيرادات، ولأن كان في رأيي لا يستحق أن يحصد مليون جنيه من قوت هذا الشعب الغلبان) (المصدر السابق، ص 412).

وقال عن فيلم (ولاد البلد): (هذا العمل لا يمكن اعتباره فيلمًا سينمائيًّا؛ إلا لمجرد أنه تم تصويره على شريط سلولويد؛ ولهذا فإن الصورة التي قدَّمها للحارة المصرية هي صورة كاذبة ومسيئة ومسفة!) (المصدر السابق، ص 427).

الانضباط بالشرع يا سادة:

قد لا يتصور الكثيرون أنه من الممكن أن يكون هناك إنتاجًا سينمائيًّا موافق للشرع ويتمتع بمساحة كبيرة من الإبداع، ويتفق في مقاصده مع مقاصد الشريعة الإسلامية، ولكن كما ذكرنا من قبل أن هذا من الممكن بمراعاة الضوابط الشرعية، مثل:

- أن يكون الاختيار للرواية الهادفة الموافقة لمقاصد الشريعة في المجتمع، ثم كتابة السيناريو والحوار بصورة تخدم هذا الهدف، ويكون المخرج متحمسًا لهذا الهدف قادر على إبرازه، وأن يتم اختيار الممثلين وتصوير مشاهد الفيلم بصورة خالية من التبرج والعري والاختلاط في إطار مشاهد محسوبة ومكتوبة بعناية تحقق المراد بطريقة جذابة وشيقة، ناقلة الصورة الواجب أن يكون عليها التعامل في المجتمع المسلم الطاهر العفيف، فتنقل للناس الصورة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع ويرونها نموذجًا أمامهم يحتذَى.

- أن يمنع فيها الموسيقى والغناء والرقص إلا ما وافق الشرع، فلا مانع من أن يكون هناك ترفيه في أحداث العمل الفني باستخدام غناء من جوارٍ أو فتيان يستعملون الدف بأناشيد كلماتها جذابة في مناسبات تستدعيها أحداث العمل الفني: كعرس أو أعياد ونحوها، أو رقص مجرد من رجال أو فتيان، ففي ذلك انضباط بالشرع وباب لبيان القدرة على الإبداع الفني في حدود ما يقرره الشرع من ضوابط لا يجوز الخروج عنها.

ولا شك أن لدينا من السينمائيين ومن الممثلين مَن يستطيع القيام بذلك، والتقيد به والإبداع فيه، أو إيجاد جيل قادر على ذلك؛ حفاظًا على صناعة السينما التي يراها البعض ركيزة اقتصادية من جهة، وكمدخل لإعادة الحياة في المجتمع كما ينظمها الشرع.

وإن أبوا ذلك: فإن هناك قطعًا من المبدعين المشهورين أو غير المشهورين من يقدر على ذلك؛ فليفسحوا لهم المجال، هذا إن وُجِدت الإرادة الجادة ووفرت الدولة ذلك، أو تبناهم منتجون سينمائيون.   

التجربة الإيرانية نموذجًا:

ازدهرت السينما في إيران في أواسط الأربعينيات، حيث كان هناك أكثر من 540 دار عرض تقدم إلى مشاهديها مختلف أصناف الأفلام، ورغم رواج الفيلم الإيراني في أسواقه المحلية وغزارة إنتاجه فلم يتجاوز إنتاجه التجاري في معظم تاريخه حدود بلاده، وكانت أغلب الأفلام رديئة أعدت للطبقة الشعبية التي تبحث عن الأفلام المثيرة والبطولات الصبيانية، والتي تقحم الرقصات الشرقية في الفيلم مهما كان صنفه.

(وقد تأثرت السينما الإيرانية كثيرًا بالسينما الهندية بحكم الجوار وقوة الانتشار، والتشابه في بعض العادات والتقاليد كمجتمعات شرقية تجمعها ثقافات متقاربة، ولكن الفيلم الإيراني سرعان ما استطاع أن يحقق لنفسه شخصيته المستقلة، وإن كانت هذه الشخصية قد اصطبغت بالطابع الغربي نتيجة لانفتاح الشاه على الجانب الآخر من العالم وعلى أمريكا تحديدًا؛ كانت السينما هناك تبدو أقرب إلى النمط العصري وللنموذج الأمريكي، الذي كانت تسعى للتشبه به في مختلف المجالات) (راجع في ذلك: "الفيلم المصري: الواقع والآفاق"، المصدر السابق، ص71-72).

وقد ظهرت موجة من المخرجين الإيرانيين الذين ابتدعوا تقنيات جديدة ولم يخشوا من النقد الاجتماعي كما في فيلم (البقرة) للمخرج (داريوش مهرجوئي) عام 1969، والذي مُنِع عرضه في إيران؛ لعرضه صورة من الواقع لم ترضِ نظام الشاه، وكفيلم: (أكثر غربة من الضباب) للمخرج (بهرام بايزائي) عام 1975.

(ومع قيام الثورة الإيرانية في عام 1979 م بدا الخطر على السينما أكبر)، (باعتبار هذا الفن رمزًا من رموز النظام السابق ونتاجًا رديئًا للانفتاح على الغرب؛ لما تضمنته هذه الأفلام من عري مفرط، وما كانت تحفل به من مشاهد عاطفية ساخنة؛ ونتيجة لذلك: تم إحراق أكثر من 180 دار عرض سينمائي مات خلالها أكثر من 400 شخص في موجة غضب عارمة.

على التوازي تزايدت أيضًا الرقابة، وتشددت في موانعها الدينية والأخلاقية إلى حدِّ اختفاء النساء من المشهد السينمائي إلى حين ، ففي خلال أشهر قليلة فرض النظام الجديد مجموعة من القواعد غير المكتوبة: يجب ألا يتعاطف المشاهد مع المجرم أو مرتكب الخطيئة، عدم تصوير تهريب المخدرات إطلاقًا، احترام الزواج والعائلة، عدم التطرق إلى الخيانة الزوجية، تحريم الحركات الملتبسة، لا تلامس بين الرجل والمرأة (حتى بين الزوجين)، تفادي المواضيع المبتذلة أو المزعجة، منع الشتائم منعًا باتًا، عدم تصوير رجال الدين بصورة مضحكة أو غير مستقيمة، ولكن إصرار فناني السينما هناك على الاستمرار رغمًا عن هذه القيود أدَّى إلى ظهور بعض الأفلام المتميزة الي عادت للظهور على استحياء مع بداية الثمانينيات كفيلمي: بهران بايزائي (نشيد من تارا عارمة) و(موت يازديجيرد) 1982، وفيلم أمير نادري (البحث) 1982، وإن كانت هذه الأفلام قد حظر عرضها داخل البلاد فلم تشكِّل القيود إلا دافعًا للسينمائي الإيراني لمواجهة الأزمة والإبداع في إطار هذه المستجدات والقيود الملزمة.

توضح الكاتبة والمنتجة الإيرانية (فريشتيه طائر بدور) الجانب الإيجابي للثورة الإيرانية على الفن الإيراني فتقول: (قد كان من أهم إنجاز للثورة هو محاولة صياغة مشروع فكري وعملي مستقل عن مد الأمركة السائد، ولم يكن الفن الذي نتج عن ذلك فنًّا أيديولوجيًّا بالنموذج الفني السوفيتي الروسي مثلًا، بل أدَّت مقاطعتنا  للسينما الأمريكية الروائية والكرتون وغيرها إلى شحذ طاقتنا الإبداعية وتنمية أدواتنا الفنية فأنتجنا سينما يمكن وصفها بأنها إنسانية راقية، تحترم القيم ولا تتاجر بجسد المرأة، ولا تغطي بالعنف تفاهة المضمون، ولا تعتمد على الإبهار، بل سينما بالغة البساطة، وتحمل رسالة بالمعنى الإسلامي الحضاري).

وكان أهم ما يميز هذه السينما ويلفت النظر إليها هي هذه القدرة الغريبة على صناعة أفلام بسيطة بأفكار قد تكون تقليدية، ولكن بمعالجات جديدة ومبتكرة ومعبرة عن الواقع، وبتمكن شديد من جذب المشاهد دون اللجوء على الإطلاق للمشهيات التقليدية من مشاهد الإغراء والإثارة أو حتى العنف والحركة المفرطة، وإنما من خلال جاذبية الموضوع والقدرة على سرده بأسلوب أخاذ، وبلغة سينمائية سهلة ومعبرة، وقادرة على إثارة مشاعر المشاهد وتعاطفه الحميم تجاه الشخصيات تمتاز بالصدق بعيدًا عن الإبهار والإبهام، والرموز الغامضة.

ولا تقل أهمية تجربة الفنان الإيراني مع السينما عن أهمية دور الدولة في دعم هذه الصناعة، والخطير في الأمر هنا: أن التيار المدني أمكنه هنا مقاومة هذا الزحف الديني وتطويعه لخدمة مشروع سينمائي حضاري.

أنشأت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في إيران (مدينة سينمائية) جندت لها كل الطاقات ورؤوس الأموال ووفرت لها أحدث المكتشفات التقنية والتكنولوجية المتطورة كما هو الحال في أستوديوهات هوليوود، وبذلك تكن وزارة الثقافة أعدت الأرضية اللازمة للسينما الإيرانية خلال السنوات التالية، كما أتاحت الجو اللائق للمخرجين  حتى يبدعوا في إنتاجهم، وفتحت وزارة الثقافة هذه المدينة لكل المخرجين الإيرانيين من دون استثناء، وبأرخص الأثمان في العالم، ويقوم بالإنتاج السينمائي المخرجون بصفتهم منتجين منفذين، ويحصلون على الدعم لأول ثلاثة أفلام ويتم شراؤها، وتقوم شركة توزيع كبيرة أنشأتها الجولة بتوزيع الأفلام داخليًّا وخارجيًّا، وأسست أرقى وأكبر عدد ممكن من دور السينما، ففي طهران وحدها أكثر من 100 قاعة سينمائية، وأبرع ما في ذك أنها تعتمد في تصوير الكثير من الأفلام على كاميرا الفيديو الرقمية المحمولة على الكتف، فـ(أغلب الأفلام الإيرانية تنتج بأقل من 200 ألف دولار وتحصد الأرباح الكثيرة، مثل: فيلم (أطفال الجنة) الذي حقق أرباحًا مليون دولار من أمريكا وحدها!).

الثورة السينمائية الأصعب في إيران كانت في القضاء على نظام النجوم، فأهم ما يميز السينما الإيرانية اليوم أنها ليست سينما نجوم، فمعظم أبطالها ليسوا ممثلين محترفين، وأصبح المخرج هو القائد الحقيقي دون أي تدخل في عمله أو خضوع لشروط يفرضها النجم أو غيره، وأصبح السيناريو هو البطل الذي يحظى بالعناية والاهتمام الأكبر، فيجري تطوير الدراما على مهل لتحمل الصورة عمقًا فكريًّا وثراءً بصريًّا، وتعبِّر عن استيعاب لأحدث الأساليب الفنية مع استلهام لتراث وثقافة فكرية محلية عظيمة) (المصدر السابق، ص 72-74).

(في ظل هذه الأجواء: حصدت السينما الإيرانية جوائز دولية يصعب حصرها، ومنها: الأوسكار التي حازها المخرج مجيد مجيدي 1998، كما أهدى مهرجان كان السينمائي جائزته لعباس كيار ستمي لفيلمه (طعم الكرز)، وحصلت أفلام إيرانية عديدة على جوائز دولية، منها: جائزة النمر الذهبي في مهرجان لوكارنو في سويسرا في عام 2997 لجعفر بناهي في فيلم آيينه (المرآة)، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان فيلم القارات في نانت بفرنسا في عام 1996 للمخرج أبو الفضل جليلي عن فيلم يك داستان واقعي (قصة واقعية)، وجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي الفرنسي في عام 1995 للمخرج جعفر بناهي لفيلمه بادكنك سفيد (البالون الأبيض)، وجائزة روبرتور وسوليني في مهرجان كان الفرنسي.

 وأيضًا جائزة فرانسوا تروفو في مهرجان فيلم جيفوني الإيطالي في عام 1992 للمخرج عباس كيا رستمي تكريمًا له على مجمل أعماله السينمائية) (المصدر السابق، ص 74- 75).

ونحن لا نطالب باستنساخ كامل للتجربة الإيرانية ففيها أيضا مخالفات شرعية أشدها الجرأة على تجسيد الأنبياء والصحابة كما في فيلمي: (الرسالة) وفيلم (يوسف) -عليه السلام-، (ولكن مما لا شك فيه أن هناك دروسًا كثيرة في التجربة الإيرانية على وجه الخصوص يمكن الاستفادة منها سواء في إجبارها للفنان على تجنب المشهيات التقليدية والبحث عن إبداع أصيل وصادق، أو في أساليب الإنتاج والاقتصاد والاعتماد على الإنتاج قليل التكاليف بكاميرات رقمية أصبحت تجتاح العالم.

والأهم من هذا: دور الدولة التي أمكنها في أحلك الظروف المتشددة أن تدرك قيمة فن السينما، وأن تدعمه دعمًا حقيقيًّا عن إيمان صادق بأهمية دور هذا الفن وضرورة توظيفه في خدمة نهضة حديثة) (المصدر السابق، ص 85).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com