الثلاثاء، ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حضارة مضطربة وأمم منحدرة!

حضارة مضطربة وأمم منحدرة!
الأحد ٠٦ فبراير ٢٠٢٢ - ١٨:٣٨ م
96

حضارة مضطربة وأمم منحدرة!

كتبه/ مصطفى حلمي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قبل نحو 90 عامًا أقرَّ عالمُ الاجتماع الأمريكي سوروكين -الأستاذ في جامعة هارفارد 1931م- أن كلَّ جانب من حياة المجتمع الغربي، ونظامه وثقافته في أزمةٍ طاحنةٍ؛ لأن جسدَ المجتمع الأوروبي مريض، وعقله مريض، ولا توجد بقعة واحدة صغيرة من جسده إلا ويعتريها الألم! ولقد اضطرب جهازه العصبي بجميع أليافه العصبية، فلم يَعُدْ قادرًا على أداء عمله على النحو السديد. 

إن محاولة معرفة أسباب انحدار حضارة العصر الغربية هو ما قام بالكشف عنه باستفاضة الدكتور الفرنسي (ألكسيس كاريل) في كتابه: "الإنسان ذلك المجهول"؛ إذ يقول بالحرف الواحد: "إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب؛ لأنها لا تلائمنا؛ فقد أنشئت دون معرفة بطبيعتنا الحقيقية؛ إذ إنها تولَّدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس وأوهامهم، ورغباتهم. وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا -أي: الإنسان-؛ إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا، إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقيًّا وعقليًّا!".

إن الأممَ التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدُّم هي أمم آخذة في الضعف، وعودتها إلى البربرية والهمجية أسرع مِن عودة غيرها إليها، ولكنها لا تدرك ذلك، وحقيقة الأمر: أن المدنية الغربية أوجدت أحوالًا معينة للحياة؛ من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة.

وتلك هي الثمرة المتوقعة من حضارة تولّدت من خيالات البشر ونزعاتهم وأهوائهم، ولنقارن ذلك بالشريعة الإلهية التي كانت حجر الأساس لحضارتنا الإسلامية.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "إن الشرعَ قد حصل ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها" (الموافقات، ص31).

إن القلقَ والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالطب هناك نجح في علاج الكثير من الأمراض البدنية، ولكنهم يواجهون أمراض الفساد والانحلال؛ ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين على عدد المرضى في المستشفيات الأخرى؛ فأمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية.

وصفوة القول: إن علوم الجماد حققت تقدمًا عظيمًا بعيد المدى، بينما بقيت علوم البشر "الغربية" في حالة بدائية؛ فالإنسان الأوروبي غريب في العالم الذي ابتدعه؛ لأنه لا يملك معرفة علمية بطبيعته.

إن ذلك لينتج من عدم التوازن العقلي والأدبي، وينعكس في عدم استقرار الحياة العصرية والانفعالات الدائمة التي تجلب الاضطرابات العصبية والعضوية للمعدة والأمعاء، والتهاب الكُلَى، إلخ.

ونحن -المسلمين- نرى أنه إزاء عجزنا كَبَشرٍ عن الفهم بوسائل إدراكنا؛ فلا بد لنا من مصدرٍ آخَرَ -وهو الوحي-؛ فلولا الوحي لَظَللْنا عُميانًا!

هذا، ومن الأهمية بمكان القول بأن ألكسيس كاريل لا ينفرد وحْدَه بوصف حضارته بالانحطاط، بل هناك كثيرون، نذكر منهم المفكر السياسي الأمريكي باتريك بوكنان، وكتابه: "موت الغرب"، حيث يرى أن الاستغراق في الرفاهية ينذر بالموت.

إن ألكسيس كاريل كان محقًّا إذًا في حيرته ويأْسه من مظاهر التقدُّم الخالية من القاعدة الجوهرية للحضارة، أي: العنصر الخُلُقي؛ إذ لا خيرَ في الزيادة في الراحة والجمال وكماليات حضارة العصر بدون القِيم الخُلُقية.

أما الحضارة الإسلامية فهي لخير أمة أخرجت للناس، وظلت تقود العالم لقرونٍ مضت، ولم تفقد مواقعها إلا منذ زمن قريب؛ من نحو ثلاثة أو أربعة قرون من عمرها البالغ نحو أربعةَ عشَرَ قرنًا! وكان الإسلام لا يزال في عنفوانه، وكان لا يزال أعظم قوة عالمية إبَّان القرن السادسَ عشَرَ، وأعمدة حضارتها من الكتاب والسنة باقية كما هي محتفظة برونقها وأصالتها منذ سطعت شمس الإسلام، تتحدى مناوئيها على رؤوس الأشهاد.

ويشهد التاريخ: بأن ما نجح فيه المسلمون في أوائل عصر الإسلام يمكن أن يصبح ممكنًا أيضًا في وقتٍ آخَرَ، ولا يحتاج المسلمون في تحقيقه؛ إلا أن يحافظوا على المثل الأعلى الذي وضعه أمامهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم منذ أربعةَ عشرَ قرنًا مَضَتْ؛ خاصة وذلك المثل الأعلى نفسه ما زال متاحًا لكلِّ راغب في الاستماع إلى رسالته.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com