الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تحقيق التوبة الصادقة قبل رمضان (موعظة الأسبوع)

تحقيق التوبة الصادقة قبل رمضان (موعظة الأسبوع)
الأربعاء ٠٢ مارس ٢٠٢٢ - ١٢:٣٧ م
228

تحقيق التوبة الصادقة قبل رمضان (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود  

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

مقدمة:

- تذكير بأهمية حسن الاستعداد قبل حلول رمضان: قال معلى بن الفضل: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم".

- حسن الاستعداد مقدمة للنتائج الحسنة والنجاح: (الطالب المتفوق - العَدَّاء الماهر - الجيش المنتصر -...)؛ فكيف بطلاب الآخرة؟! (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يُنَزِّلُ الْمَعُونَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ) (أخرجه البزار في مسنده، وصححه الألباني).

إشارة إلى تسلسل الخطوات على طريق الاستعداد لرمضان: (وقد سبق الحديث حول استشعار فضل إدراك رمضان، واليوم نتحدث عن تحقيق التوبة الصادقة قبل رمضان).

(1) أهمية التوبة الصادقة قبل رمضان:

التوبة مدخل العمل الصالح، ومنزل الصالحين، ومنتهى أمرهم قبل لقاء رب العالمين: قال ابن القيم في المدارج: "والتوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها ... فالعبد لا يفارقها ولا ينفك عنها" (‌وَمَنْ ‌لَمْ ‌يَتُبْ ‌فَأُولَئِكَ ‌هُمُ ‌الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11).

- وأنت إذا كنتَ تنتظر زائرًا عزيزًا لبيتك، ووجدتَ بيتك غير نظيف، فماذا سيكون حالك؟! فكذلك قلوبنا وجوارحنا، بل وعموم حياتنا تحتاج إلى تغيير وتطهير؛ لا سيما قبل رمضان: قال الله -تعالى-: (وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31).

ففي الأزمان الشريفة يتأكد التطهير والتغيير؛ لأنها توقظ الغفلة لما يصاحبها مِن أحوال شريفة تعين على التطهير والتغيير: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ) (متفق عليه).

كلنا أصحاب ذنوب وإن تفاوتت(1)، والناصحون العقلاء هم الذين يخافون عاقبة ذنوبهم فيسارعون بالتوبة وملازمتها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135)، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ" (رواه الترمذي والبيهقي).

ولقد رغب الغفور الغفار، العفو الرحيم عباده في التوبة، والمسارعة إليها والتزامها مهما عظمت وكثرت الذنوب، وفتح لهم أبوابها في كل الأوقات والساعات: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53)، وقال: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه:82)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى:25)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).  

بل لا يبعد في كرم الله -تعالى- إذا صحت توبة العبد وصدقت، أن يضع مكان كل سيئة حسنة: عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا)، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) (رواه مسلم).

وفي حديث أَبِي طَوِيلٍ: أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا أَتَاهَا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: (فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟) قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: (نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ)، قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى. (رواه البزار، والطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني).

فكيف بأعظم الأوقات، وأفضل المواسم؟! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ ‌رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ ‌يُغْفَرَ لَهُ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح").  

ابدأ ولا تسوِّف، واصدق الله يصدقك؛ لا سيما وأن بعض الذنوب تحتاج إلى وقتٍ لتصلح التوبة فيها(2): (‌وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه:84).  

(2) أمور تعين على تحقيق التوبة الصادقة(3):

أ- الصدق والإخلاص لله، فإنه يحصن العبد من الزلل: قال -تعالى- ممتنًا على يوسف بتحصينه، لما كان من عظيم إخلاصه: قال -تعالى-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف:24).

ب- الإقبال على مجالس الذكر، وتعلُّم العلم الشرعي؛ فإنه يزيد الإيمان والخشية ويجلب المغفرة: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث المجالس عن الله -عز وجل- أنه يقول للملائكة: (فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، هُمُ ‌الْجُلَسَاءُ ‌لَا ‌يَشْقَى ‌بِهِمْ ‌جَلِيسُهُمْ) (متفق عليه).

ج- مجاهدة النفس والابتعاد عن مواطن المعاصي وأسبابها والحرص على مواطن الطاعة وأسبابها: (انْطَلِقْ إلى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إلى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (متفق عليه).

د- استحضار أضرار المعاصي وعقوباتها في الدنيا: (سخط الخالق - ضيق الرزق - تعسير الأمور وقلة التوفيق - سواد في الوجه - ظلمة في القلب): قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى:30).

هـ- الخوف من الموت قبل التوبة واستحضار عاقبة ذلك في الآخرة (ماذا لو مت الآن؟): (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:99- 100).

خاتمة:

لا وقت للتسويف، بل سارع مِن الآن: قال الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133). "لقي أحد السلف أخًا له، فقال له ناصحًا: يا أخي، أترضى حالك التي أنتَ عليها للموت؟ قال: لا، قال: هل هناك دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فهل لك نفسان إذا ماتت إحداهما عملت الأخرى؟ قال: لا، قال: فهل تأمن هجوم الموت وأنت على حالك هذه؟ قال: لا، قال: فما أقام على ما أنتَ عليه عاقل!" (أسرار المحبين).

فاللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) احذر حسن الظن بنفسك لمجرد عدم ارتكابك الذنوب الظاهرة (الزنا والسرقة، وعقوق الوالدين، وسماع الأغاني، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، والتدخين، والتبرج، ونحوه)؛ فهناك ذنوب باطنة أصيبت بها قلوبنا لا تقل سوءًا عن الذنوب الظاهرة، مثل: (الحسد، الحقد، الكبر، الغرور، حب الرياسة، الحرص، حب الشهرة والصدارة، وغيرها)، فنحتاج إلى التوبة منها قبل دخول رمضان.

(2) كما هو معلوم في شروط التوبة: أن منها ما هو متعلق بحقوق الخلق، من ردٍّ للحقوق أو تحلل من مظالم، وقد يحتاج ذلك إلى وقت لتحقيقه، ومنها ما هو متعلق بحق الخالق سبحانه، كالعادات المتأصلة، مثل: التدخين، وسماع الأغاني، وتأخير الصلاة، والتبرج، إلخ).

(3) قد يقول البعض: كلما أردت التوبة والتخلص من بعض الذوب "لا سيما المتأصلة" لا أستطيع، وأجدني أعود مرة أخرى! فنقول: هذه نصائح وإرشادات تعين على التوبة والثبات عليها إن شاء الله.  

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


تصنيفات المادة