الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الملة الإبراهيمية (1)

الملة الإبراهيمية (1)
الاثنين ٠٧ مارس ٢٠٢٢ - ١٠:٠٠ ص
212

الملة الإبراهيمية (1)

كتبه/ محمد إسماعيل المقدم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأفضل مَن دعا إلى "لا إله إلا الله" بعد رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أبوه إبراهيم عليه السلام، أبو الأنبياء، وخليل الرحمن؛ فقد افتتح إبراهيم عليه السلام عهدًا جديدًا، وسطَّر في تاريخ الدعوة إلى التوحيد فصلًا متميزًا فريدًا؛ إذ دعا إلى تحقيق هذه الكلمة في قوة وحرارة بالغتين، وجاهر قومه وأباه بالعداوة، وقال لهم في صراحة وجرأة: (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ‌وَمَا ‌أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة: 4).

وقال لهم كذلك: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ . ‌وَالَّذِي ‌أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ . رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (الشعراء:75-83).

ولما حاجه قومه في الله عز وجل وخوَّفوه عاقبة كفره بآلهتهم وشتمه لها، قال لهم موبِّخًا مسفِّهًا: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:80-83).

ولم يكتفِ إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة القولية إلى التوحيد، بل بلغت به الجرأة وبيع النفس لله عز وجل أن كاد لهذه الأصنام؛ فاهتبل فرصة خروج القوم إلى عيدٍ لهم؛ فراغ إلى آلهتهم فقال لهم مستهزئًا: (أَلَا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ . فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) (الصافات: 91-93)، (فَجَعَلَهُمْ ‌جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (الأنبياء:58).

فلما رجع القوم إلى مدينتهم ووجدوا أصنامهم على هذا النحو مِن التّفتت والهوان، قالوا: (‌مَنْ ‌فَعَلَ ‌هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 59-60).

وهكذا انحصرت التهمة في إبراهيم عليه السلام، (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا ‌مَنْ ‌فَعَلَ ‌هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 58-71).

وهكذا ضرب إبراهيم عليه السلام المَثَل في التضحية والإخلاص والتفاني في الدعوة إلى الله، واحتمال كل ما يَلقى في سبيلها ولو كان التحريق بالنار، واستحق بذلك ما أثنى الله به عليه في كتابه من قوله عز وجل: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120-123)، وقوله: (‌وَمَنْ ‌يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة: 130)، وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ ‌لِرَبِّ ‌الْعَالَمِينَ) (البقرة:131).

ولم تكن أهمية الدور الذي قام به إبراهيم -عليه السلام- في الدعوة إلى التوحيد قاصرة على ما بذله في حياته مِن جهدٍ استحق به لقب الخلة للرحمن، وتبوأ به منصب الإمامة في الدين، بل إن أهميته لتظهر أكثر وأكثر في امتداد دعوته في الأجيال من بعده، قال سبحانه: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا ‌فِي ‌ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (العنكبوت:27)، فجميع الأنبياء بعد إبراهيم  عليه السلام  كلهم من ذريته؛ ولهذا لُقِّب بأبي الأنبياء، وقال عز وجل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ‌إِنَّنِي ‌بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 26-28)

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبِرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد مَن بُعِث بعده مِن الأنبياء؛ الذي تَنْتَسِب إليه قريش في نسبها ومذهبها: إنه تبرأ مِن أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ‌إِنَّنِي ‌بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)، (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي: "لا إله إلا الله" أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها مَن هداه الله مِن ذرية إبراهيم عليه السلام. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: إليها. وقال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم في قوله عز وجل: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)، يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته مَن يقولها، وروي نحوه عن ابن عباس. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام، وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة".

وجعل الله سبحانه خليله إبراهيم  عليه السلام وأتباعه أسوة لعباده المؤمنين، فقال عز وجل -: (‌قَدْ ‌كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة: 4).

ومِن يوم أن غرس إبراهيم شجرة التوحيد وهي مورقة يانعة الثمار بفضل مَن تعهدها بعده بالسقي والإنماء من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، نعم كانت تذبل أحيانًا، ويجف ورقها، وتتصوح أزهارها؛ بسبب تفريط الأبناء وغفلتهم عن عهود الآباء، ولكنها على كل حالٍ بقيت تغالب عوامل الموت والفناء، ولقد جاء عليها بعد عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل وقتٌ مِن الزمان كادت تذهب فيه وينمحي أثرُها؛ لولا أن تداركتها عناية الله بالرسالة الجامعة الخاتمة التي جاء بها محمد بن عبد الله النبي القرشي الأمي الهاشمي، صلوات الله وسلامه عليه؛ فبعث فيها الحياة قوية فتية، وجدد مِن شبابها حتى استغلظت واستوت على سوقها، وصارت وارفة الظلال، ممتدة الأفياء، أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وللحديث بقية إن شاء الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية