الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (59) حقيقة دين إبراهيم وعلاقته باليهودية والنصرانية (4)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (59) حقيقة دين إبراهيم وعلاقته باليهودية والنصرانية (4)
الاثنين ١٤ مارس ٢٠٢٢ - ٠٩:٤١ ص
93

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (59) حقيقة دين إبراهيم وعلاقته باليهودية والنصرانية (4)


كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68).

الفائدة الثالثة:

دَلَّ قوله تعالى: (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) (آل عمران: 66)، على أن الجدال بغير علمٍ مذموم، وقد صار الجدال بغير علمٍ مَرَضًا اجتماعيًّا عند كثيرٍ مِن الناس؛ خاصة في مجالس السَّمر على المقاهي والنوادي ونحوها، وصار كلُّ أحدٍ يتحدثُ فيما لا يعلمُ، ويجادلُ فيما لا يعلمُ، وهو لم يدرس شيئًا في المسألة التي يتكلم فيها، ويجادل ويخاصم فيها، والواجب على المسلم الإعراض عن هذا كما قال تعالى: (خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بِالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنْ الجَاهِلِين) (الأعراف: 199).

والجدالُ بغير علمٍ يتضمنُ الفتوى بغير علمٍ، وربما كانت شرًّا منه؛ لأن السائلَ يثقُ في المسؤول ويقبل كلامه، وقد دعا النبي -صلى الله عليه- وسلم على مَن أفتى بغير علمٍ بالتشدد الباطل الذي أدَّى إلى قتلِه، فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا ‌شِفَاءُ ‌الْعِيِّ ‌السُّؤَالُ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وذلك لمَّا أفتوا مَن أصابته جراحة بالغسل، وعدم التيمم والمسح على الخرقة التي يربطها على جُرحه.

وقد دَخَلَ مَن أفتى بغير علمٍ فيمَن يُضِل الناسَ، قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ . ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج:8-9).

وهذه الآية في رؤوس الضلال والبدع الذين يُضلون غيرهم، وليس عندهم علم بالوحي، فيقولون على الله ما لا يعلمون في: أسمائه وصفاته، وربوبيته، وألوهيته، وأمره ونهيه، وقضائه وقدره، وما أخبر عبادَه في كتبه المنزلة، وعلى ألسنة رسله.

فالواجب على الإنسان أن يحذر كلَّ الحذر مِن أن يقول على الله ما لا يعلم، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33).

ولا شكَّ أنَّ المُقَلِّدَ الذي لا يعلمُ النصوصَ والأدلةَ ويسترشدُ بأقوالِ أهلِ العلمِ داخلٌ في هذا العمومِ، الذي دلتْ عليه الآياتُ مِن ذمِّ مَنْ قالَ على الله بغير علمٍ، وكذلك القاضي والحاكم الذي يحكمُ بالتقليد أو بالهوى؛ هو ممَّن يقول على اللهِ ما لم يعلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌الْقُضَاةُ ‌ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

وهذا يدلُ على أن الذي قَضَى بالجهل ولو وافق الحقَّ لا يُقبَلُ منه، بل هو في النار؛ لأنه إنما قَضَى به لكونه وافق هواه، ولا يجوزُ لأحدٍ أن تغره المناصب الرسمية، والأسماء الرنانة التي يُطلقها عليه الناسُ؛ فيقبل أن يُفتي أو يحكم أو يقضي أو يدعو بغير علمٍ بالوحي المنزل من الكتاب والسنة؛ فهذا هو العلم، وهل حرَّفَ الناسُ دينَ الرسلِ إلا باتباعهم مَنْ يُجادلون في الله بغير علم ويقولون على الله بغير علم!، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) (الحج: 3)، وهذه في المُقلدين المُتبعين لشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، ولتصغى إليه قلوب أتباعهم الذين لا يؤمنون بالآخرة لتنفذ مشيئة الله بالعدل فيهم، وعذابهم على ما اقترفوه من الجرائم، والصدِّ عن سبيل الله، وتحريف كتبه ودعوة رسله.

الفائدة الرابعة:

دلَّ قولُه تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (آل عمران: 66)، أنَّ عِلْمَ البشر مهما بلغَ فهو إلى علم الله جهلٌ، قال الخضر لموسى -عليهما السلام- لما أراد أن يُبين لموسى قِلَّة علم البشر: "يا موسى أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر"، وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أعلم الخلق بالله وأشدهم له خشية: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي ‌وَجَهْلِي، ‌وَإِسْرَافِي ‌فِي ‌أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) (رواه مسلم).

وإنَّ مِن أخطر الأمراض في زماننا الاغترار بالعلوم الحديثة، والاختراعات والاكتشافات، مع أن العَالِم كلما تبحّر في علمه عَلِمَ أن علوم البشر في الحقيقة ما هي إلا قشرة رقيقة صغيرة من علوم لا يحيطُ بها إلا الله في مجال علمه؛ فضلًا عن غيره، فلا يُغتر بالله ولا يظنُ أنه بإمكانهم محاداة الله في أمره، كما يقع من الملحدين الجاهلين، الذين كان عِلمهم الدنيوي فتنةً لهم، مع أنه في الحقيقة لا علم، قال تعالى عن قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص: 78).

وقد ظنَّ كثيرٌ من المغرورين أنَّ ما عارض ما يُسمُونه العلم الحديث من النصوص يجب رده، حتى ولو كان ما يُسمونه عِلْمًا، هو مجرد افتراض أو نظرية، ولم يصل إلى أن يكون حقيقةً علميةً!

فمهما كانتْ النصوصُ الصحيحةُ ثابتة فهُم يردونها بزعم مخالفة العلم الحديث؛ فكذَّب بعضُهم القرآنَ، وكذَّب بعضُهم السنةَ الصحيحةَ الثابتةَ، أو أوَّلوا النصوصَ وحرَّفوها عن معانيها، بما يَقطع كل عالِم ببطلان هذا التأويل، كما يقوله مَن يقول بفرضية النشوء والارتقاء والتطور، أو مَن يحاول التعديل لها ليوافق الغرب؛ فيقول بالتطور الموجَّه مع أنَّ الفرضية لم تتجاوز مجرد الفرض!

ومَن تأمّل النصوصَ جَزَمَ بالخَلق المستقل لهذه المخلوقات؛ فأما خَلقُ آدم وخَلقُ إبليس فالنصوص أكثر من أن تُحصَى، وآدم أبو البشر بنص السنة، وكذا من معنى الكتاب.

وأمَّا خَلقُ الأنعامِ: فقد قال الله عز وجل: (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (الزمر: 6).

فهذه الأوهامُ التي يتّبعونها داخلةٌ في قول الله عز وجل: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28)، وقال: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ?لظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116).

فالمؤمنُ يعلمُ يقينُا أنَّ الله يعلم ونحن لا نعلم، فيجب أن نقدِّم نصوص الكتاب والسنة على كلِّ ما سواها، وأما الحقائق العلمية فيستحيل أن تأتي النصوص بمخالفتها، فإن الشرعّ يأتي بمحاراة العقول، أي: ما تحار فيه العقول، ولا يأتي أبدًا بمحالات العقول، أي: ما يستحيل في العقل.

ونسألُ الله أن يثبتنا على الهدى.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


 


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة