الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم

واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم
الثلاثاء ٢٦ أبريل ٢٠٢٢ - ١٢:٠٢ م
59

واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال سبحانه وبحمده: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم"؛ فهذا أمر من الله تعالى لعباده المرسلين بالأكل من الطيبات، وهي الحلال الطيب، وذلك يتضمن نهي عن الخبائث والمحرمات كما أشار إلى هذا المعنى الإمام الطبري رحمه الله.

ولا شك ما في ذلك الأمر -وغيره من أوامر الله تعالى- مِن الرحمة والعناية واللطف من الله بعباده المرسلين، وكذا المؤمنين كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ"، وقالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" (رواه مسلم).

فأمرهم بأكل الحلال الذي تصح به أبدانهم وعقولهم ونفوسهم به، ونهاهم عن ضده، وانظر كيف جمع بين الأكل من الحلال وبين العمل الصالح؛ ففيه فوائد: أنه شكر له سبحانه وبحمده على ما أنعم به من نعم على عباده، ومنها: الأكل الحلال الطيب، وإن كان العبد مهما عمل من الصالحات سيعجز عن شكر نعم  ربه عليه؛ لذلك والله أعلم يقرن مع الحمد الاستغفار اعترافًا من العبد بعجزه عن شكر نعم الله التي لا تُعد ولا تحصى، ولو كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه تعالى: "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا"؛ فأتى الأمر بالاستغفار بعد تسبيح الله تعالى متلبسًا بحمده والله أعلم اعترافًا بالتقصير في شكره تعالى؛ مما اجتهد العبد في الشكر.

قال البقاعي رحمه الله في نظم الدرر: "(واسْتَغْفِرْهُ) أي: اطْلُبْ غُفْرانَهُ إنَّهُ كانَ غَفّارًا، إيذانًا بِأنَّهُ لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُقَدِّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ ... وكان صلى الله عليه وسلم يقول: لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ" (انتهى مختصرًا بتصرف).

وكذلك من فوائد الجمع بين الأكل من الحلال الطيب والعمل الصالح، كما قال ابن كثير رحمه الله: "يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ، بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْقِيَامِ بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَلَالَ عَون عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِح".

قلتُ: وذلك من بركة امتثال أمر الله تعالى بأكل ما أحل واجتناب ما حرَّم، ونقيض ذلك شؤم الأكل من المحرمات والخبائث، وأثرها في خذلان العبد، ووقوعه في معصية ربه، وهذا أمر مشاهد.

ومِن الفوائد الأخرى من الاقتران بين الأكل من الحلال الطيب والعمل الصالح ما ذكره ابن عاشور رحمه الله في "التحرير والتنوير" حيث قال: "والغَرَضُ مِن هَذا: بَيانُ كَرامَةِ الرُّسُلِ عِنْدَ اللَّهِ، ونَزاهَتِهِمْ في أُمُورِهِمُ الجُسْمانِيَّةِ والرُّوحانِيَّةِ؛ فالأكْلُ مِنَ الطَّيِّباتِ نَزاهَةٌ جِسْمِيَّةٌ، والعَمَلُ الصّالِحُ نَزاهَةٌ نَفْسانِيَّةٌ".

وختم تعالى الآية المباركة بعد ما ذكر عظيم منته عليهم بالأكل بالحلال الطيب، والأمر بالعمل الصالح بقوله تعالى: "إني بما تعملون عليم".

قال الطبري رحمه الله: "يقول: إني بأعمالكم ذو علم، لا يخفى عليَّ منها شيء، وأنا مجازيكم بجميعها، وموفِّيكم أجوركم وثوابكم عليها؛ فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا".

وانظر كيف قدَّم هنا قوله: "إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ" على قوله: "عَلِيمٌ" كما يقول أهل اللغة والتفسير، وهو يفيد الحصر، مع أنه تعالى عليم بكل شيء، ولكنه جاء اللفظ هكذا في هذا المقام؛ للتأكيد على كمال علمه بهم وبعملهم سبحانه وبحمده، فلن يغيب عنه تعالى حتى مثقال الذرة، وذلك يتضمن كمال العدل، وتوفية الأجر والمثوبة.

وفيها كذلك لفتة أخرى، وهي: أن المؤمن يستغني بعِلْم ربه سبحانه وبحمده به عن أن يتطلع لرؤية ومدح غيره؛ فيكفيه أن ربَّه العلي الكبير به عليم، وكذا هذا مما يولِّد الحياء مِن الله ومراقبته سبحانه وبحمده؛ فهو في الحقيقة ترغيب وترهيب، واستشعار ذلك يرْقَى بالعبد بإذن الله إلى مرتبة الإحسان، وتلك أشرف المقامات.

أعاننا الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة