الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مساجدنا أوتاد مجتمعنا

مساجدنا أوتاد مجتمعنا
الخميس ٢٨ أبريل ٢٠٢٢ - ١٤:١٤ م
186

مساجدنا أوتاد مجتمعنا


كتبه/ غريب أبو الحسن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كان المسلمون إذا أرادوا إنشاء مدينة جديدة بدأوا أولًا ببناء المسجد الجامع في مركز المدينة، ثم من ساحة المسجد تتفرع الشوارع، ويتجمع أصحاب المهن المختلفة في بدايات هذه الشوارع؛ فهذا درب الحدادين، وهذا درب الخياطين، وهذا درب العطارين، وهكذا ثم تأتي بعد ذلك بيوت الناس بحيث يظل المسجد في مركز المدينة، وتنمو المدينة من حوله.

ولعلم التُّجَّار بمحورية دور المسجد في حياة المسلمين، وأن قلوبهم معلَّقة به؛ جعلوا محالهم في طريق المسلمين للصلاة يمرون عليها ذهابًا وإيابًا، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما بنى في المدينة المسجد، ثم كانت حوله حجرات أمهات المؤمنين.

- وأسكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين تحت صفة المسجد، وهي مكان مسقوف في آخر المسجد، وعُرِفوا بأهل الصفة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسجد بيت كل تقي".

- واعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد في كلِّ شيء، وكان يتفقد أحواله؛ حتى تلك المرأة التي كانت تقم المسجد نالت حظها من الاهتمام والرعاية، فحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليها بعد موتها.

- وكان يستقبل فيه الوفود، ويعقد فيه ألوية الحرب، ويبرم فيه الاتفاقات، ويعلِّم ويربي فيه المسلمين، بل ويحبس فيه الأسرى الذين يرجو إسلامهم؛ فقد أسلم ثمامة بن أُثَال؛ فقط لأنه رُبِط في سارية المسجد ثلاثة أيام يَرَى أثر الدِّين الجديد على سلوك أتباعه!

- يختلف علي وفاطمة رضي الله عنهما، فيترك علي البيت مغضبًا، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم لزيارة ابنته يتفقد أحوالها، ويعلم بما حدث فيرسل مَن يأتيه بخبر علي؛ فلا يجدوه إلا نائمًا في المسجد مستغرقًا في نومه حتى علاه التراب، فيوقظه النبي صلى الله عليه وسلم مازحًا: "قم أبا تراب".

- والمساجد تلك النقاط المضيئة على أرض الله يهوي إليها الصالحون والعابدون، يجتمعون ويتحابون ويتواصلون، فيقيمون بيئة صالحة يتأثر بها كلُّ مَن يأوي إليها، فتنتقل له معاني الالتزام في سهولة ويسر، وثبات ونقاء في نفس الوقت.

- وظلت المساجد منطلق تعاون المسلمين على البرِّ والتقوى، وفعل الخير؛ فقيها تتلاقى الأبدان والأفكار ثم تتشابك الأيدي لتقديم المعونة لأبناء مجتمعهم، فكم من مبادرات انطلقت من المساجد سواء كانت تعليمية أو صحية أو فكرية، وكم من مسجد تحول لمنارة علمية أضاءت الدنيا، وليس محيطه فقط؛ فصار قبلة طلبة العِلْم في كلِّ مكان.

- بل المساجد كانت -ولا زالت- حَجَر الزاوية في حماية الأمن القومي للبلاد، فمقاومة الغازي الفرنسي انطلقت من الأزهر؛ فكان شاهدًا على دحره وتراجعه، وفراره يجر أذيال الخيبة!

- وظلت المساجد تحافظ على استقرار المجتمع ومتانة وصلابة بنائه، فقد حَافَظ المسلمون على اتساع أراضيهم أن تتجمع صدقات أغنيائهم بالمساجد لترد على فقرائهم، في تكافل اجتماعي لن تجدَ له مثيلًا إلا عند المسلمين!

ولم يتوقف هذا التكافل على قوة السلطة أو ضعفها عَبْر العصور، بل ظل مستمرًا في أحلك الظروف؛ لأن محرِّكه هو أُخوة الدِّين، وكان المسجد هو ذلك الرابط الذي يجمع كل المسلمين على اختلاف مستواهم الاجتماعي، فيلتصق كتف الغني بكتف الفقير في الصلاة؛ فكيف بعد ذلك لا يشعر به وبمعاناته؟!

- والعجيب: أن الدعوات الإصلاحية التي نشأت في المساجد، كانت دعوات بعيدة عن القسوة والعنف، كما أن الدعوات أو الجماعات التي نشأت بعيدًا عن المساجد اتسمت بالعنف والقسوة والصدام؛ وذلك لما للمسجد من الأثر العميق على نموذج التديُّن، ولما يصنعه التواجد في المساجد من اندماج مع المجتمع، وتوطد العلاقات بين أبنائه؛ ولأن أول خطوات جماعات العنف والتطرف هي عزل أتباعها عن المجتمع بدعوى جاهلية المجتمع؛ هذه العزلة التي تُعدُّ مقدمة لتكفير المجتمع ثم للصدام معه.

سمعتُ تسريبًا لأحد قيادات جماعات التطرف يشكو مِن أن جماعته بعيدة عن التربية المساجدية منذ عشرين عامًا؛ مما كان له أثر سلبي على الجماعة! ولو أدرك الحقيقة؛ لعَلِم: أن هذا البُعد هو الذي مكَّنه من توجيه طاقة أبناء جماعته ضد مجتمعهم، ولو حظوا بالتربية المساجدية؛ لكانوا أحب وارحم بمجتمعاتهم.

- المساجد تلك المؤسسات الإسلامية التي ساهمت في الصلح بين المسلمين أفرادًا وجماعات؛ فكم ساهمت المساجد في الصلح بين الزوج وزوجه، والأخ وأخيه، والجار وجاره؛ فحافظت على صلة الأرحام، وحقوق الجيرة.

- رسالة المسجد تستلزم إمامًا معدًّا ومؤهَّلًا ليس لإمامة الصلاة وخطبة الجمعة فقط، بل للقيام بهذه الرسالة بكلِّ أبعادها العلمية والاجتماعية، قادرًا على توظيف طاقات رواد المساجد في خدمة دينهم ومجتمعهم، وأن يكون رحب الصدر، بشوش الوجه، مبادرًا لفعل الخير؛ فينبغي أن يكون متشبعًا ومتفهمًا لرسالة المسجد.

- مؤسسة المسجد ضاربة بجذورها في أعماق المسلمين وتاريخهم: فالمسلم يعمِّر المسجد، والمسجد يصلح المسلم؛ المسلم يراعي المسجد وينظفه، ويُبعِد عنه أنواع النجاسات، والمكث في المسجد يطهِّر المسلم من أدرانه ويجلوا صدأ قلبه، فيأخذ المسلم زينته عند المسجد فيزيد المسجد من زينة المؤمن أدبًا وخُلُقًا.

يزور المسلم المسجد ربما أكثر من زيارته لأبيه وأمه، وصاحبه المقرَّب، فيذهب المسلم للمسجد خمس مرات في اليوم الواحد؛ فأي علاقة أعمق من ذلك، وفي كل مرة يصلي ركعتين تحية للمسجد، ولأن المساجد بيت الكريم، كان المسلم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه.

- إن فهم العلاقة الوطيدة بين المسلمين والمساجد يوفِّر علينا كثيرًا من النقاش والجدل حول متى تُفتَح ومتى تغلق! وما هو مسموح وما هو ممنوع؛ فيكفي أن تعرفَ أن قلوبَ المسلمين معلَّقة بها، ولا يكاد يوجد مسلم إلا وللمسجد دورًا أصيلًا في تربيته.

- إن فهمَ العلاقة بين المسلمين والمساجد تجعلنا نتفهم حجم الألم الذي يعتصر قلب المسلم حين يُحَال بينه وبين المسجد، أو التهجد أو الاعتكاف؛ حتى لو كان هناك مسوغٌ مقبولٌ لمنعٍ مؤقتٍ؛ هذا الفهم يجعلنا نتجنب هذا المنع إلا للضرورة القصوى، وتجعلنا حين نخبر الناس بذلك نخبرهم بأرق العبارات، وأرحمها وأعطفها، وأن تكون ممَّن يُحسِن فهم هذه العلاقة الخاصة بين المسلم ومسجده.

- وفي عالم السماء المفتوحة، والشبكة العنكبوتية، والهواتف الذكية حيث أصبحت المدن بلا أسوار، والبيوت بلا جدران، وبين يدي ابنك هاتفه المحمول الذي يصحبه حتى على سرير نومه، وحيث تتسرب الفيديوهات والتطبيقات والألعاب لتشكِّل عقول أبنائنا، تبرز أهمية الدور التربوي للمسجد، وإمام المسجد، وأن يظل المسجد مركزًا تربويًّا مُشِعًّا يتعلم فيه الأبناء صحيح الدِّين، فينشأ مندمجًا مع مجتمعه ملتحمًا معه، حريصًا عليه رحيمًا به، وأن لا نتركه فريسة لحملات التغريب، أو حملات الدعشنة والتكفير، وما أكثرها وأبهرها.

- إن مِن الخطورة حصر دور المسجد في إقامة الصلاة والمسارعة لإغلاقها بعد الصلاة، والتأفف من المتأخرين عن الصلاة، ووصد الأبواب أمام وجوههم؛ فإننا بذلك سنخسر المسجد كمؤسسة تعليمية اجتماعية يتلاقى فيه المسلمون، ويتعارفون ويتعاونون، ويساعد فيها غنيهم فقيرهم، ويتفقد فيه قويهم ضعيفهم، ويعلم فيه عالمهم جاهلهم، ويلقِّن فيه الماهر بالقرآن مَن يتعتع فيه.

- وتزداد الخطورة ونحن في عَالَمٍ تحكمه الشركات متعددة الجنسيات، والتي تمتلك ميزانيات تفوق ميزانيات بعض الدول، وتتحكم في سياسات الدول الكبرى، وتسعى لقولبة العالم، وإزالة أي عقبات بين منتجاتها والمستهلكين حول العالم حتى وإن كانت هذه العقبات هي الدِّين والأخلاق والقِيَم وحتى القومية! فتسعى هذه الشركات المتوحشة لفرض النموذج الحضاري الغربي في ثوبه الاستهلاكي الشهواني على كلِّ العالم؛ لتظل أموالهم تتضاعف على حساب انهيار المبادئ والقِيَم؛ فهذا لا بد أن يدفعنا للتمسك بحصوننا، وترميمها وتجديدها، وعلى رأسها: المساجد "فمساجدنا أوتاد مجتمعنا".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية