الأربعاء، ٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع قصة أصحاب الأخدود (3) الغلام وبداية طريق الهداية

وقفات مع قصة أصحاب الأخدود (3) الغلام وبداية طريق الهداية
الأربعاء ٠١ يونيو ٢٠٢٢ - ١٤:٠٧ م
95

وقفات مع قصة أصحاب الأخدود (3) الغلام وبداية طريق الهداية


كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- تذكير مجمل بما سبق، والإشارة إلى الآتي من القصة.

المشهد الثالث: كرامة للغلام:

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَبيْنَما هو كَذلكَ إذْ أَتَى علَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقالَ: اليومَ أَعْلَمُ السَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فأخَذَ حَجَرًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إلَيْكَ مِن أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِه الدَّابَّةَ، حتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهِبَ فأخْبَرَهُ، فَقالَ له الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليومَ أَفْضَلُ مِنِّي، قدْ بَلَغَ مِن أَمْرِكَ ما أَرَى، وإنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكانَ الغُلَامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِن سَائِرِ الأدْوَاءِ).

وقفات مع المشهد:

الأولى: (‌وَمَنْ ‌يَتَّقِ ‌اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا):

- كان الغلام يتلقَّى تعليمًا مزدوجًا متقابلًا -التوحيد والفضيلة من الراهب، والسحر والشر من الساحر-: فاختار سبيل الراهب الفقير، على سبيل الساحر الغني الشهير، فجعل الله له سبيلًا للنجاة من الباطل وأهله: (شاهد القصة: تقدير الله أمر الدابة) قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق: 4).

- هداية القلوب توفيق وفضل ومِنَّة من الله: وقال -تعالى-: (وَلَكِنَّ اللَّهَ ‌حَبَّبَ ‌إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ . فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم) (الحجرات: 7-8).

- تأمل توفيق الله للغلام لطريق الهداية في أحواله في هذه اللحظات: (توجُّه الغلام إلى الله: "اللهم ..." مع أنه كان يتلقَّى من الساحر العقيدة الفاسدة بخلاف ذلك - تقديمه أمر الراهب في سؤاله: "اللَّهُمَّ إنْ كانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إلَيْكَ" ولم يقل الساحر - قتله الدابة العظيمة بحجر صغير فهذا الذي يناسب سنه وصغره؛ كل ذلك توفيق وفضل ومِنَّة من الله لأخذه إلى سبيل الهداية والحق والتوحيد).

الثانية: إثبات الكرامات للصالحين:

- يخرق الله -عز وجل- عادة الكون للغلام؛ فهو صغير، والحجر صغير، والدابة كبيرة: قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌رَمَيْتَ ‌إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: 17).

- أمثلة لكرامة بعض الصالحين في الأمم السابقة: قال -تعالى-: (‌كُلَّمَا ‌دَخَلَ ‌عَلَيْهَا ‌زَكَرِيَّا ‌الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37)، وقال عن آسيا -رضي الله عنها-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم: 11)، (هاجر أم إسماعيل وبئر زمزم).

- أمثلة لكرامة بعض الصالحين في أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: "كانت الملائكة تسلِّم على عمران بن حصين في مرضه"، "ونزلت الملائكة تسمع لقراءة أسيد بن حضير وهو يصلى، فكانوا كالظلة فوق رأسه"، "وكان خبيب بن عدي -رضي الله عنه- أسيرًا في مكة، وكان يؤتى بالعنب يأكل وليس بمكة عنبة"، "ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الملائكةَ تغسِّل حنظلة بن عامر لما استشهد يوم أُحُد"، "ونادى عمر -رضي الله عنه- أميرًا لجيش المسلمين في الشام يُقَال له: "سارية" مِن على منبره في المدينة، فسمعه الأمير في المعركة!" (انظر كل ذلك في رسالة الفرقان لابن تيمية -رحمه الله-).

الحكم والمصالح من وقوع الكرامات للصالحين:

1- أنها دليل على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، وأنه فعَّال لما يريد؛ فيغير نواميس الكون المعتادة بغير المعتاد، وقت ما شاء، ولمَن شاء مِن عباده.

2- وقوع كرامات الأولياء، هو تأييد لمنهج وصدق الأنبياء الذين اتبعهم الأولياء، وساروا على طريقتهم.

3- وقوع الكرامات للأولياء والصالحين، تثبيت لهم، وتبشير معجَّل لهم بحسن العاقبة(1).

الثالثة: أهمية تجرُّد الداعي مِن حظوظ الدنيا:

- ويظهر ذلك في تواضع الراهب وإقراره بالحق، وعدم حسده للغلام: "فَقالَ له الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليومَ أَفْضَلُ مِنِّي".

- إخلاص الراهب وتجرده، نال به أجور كلِّ مَن آمن بعد الغلام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا) (رواه مسلم).

- ما أحوج الدعاة والعلماء في زماننا إلى التخلُّق بهذا الخلق النبيل: قال حرملة: "سمعتُ الشافعي يقول: "خرجتُ من بغداد، وما خلَّفت بها أفقه، ولا أزهد، ولا أورع، ولا أعلم من أحمد بن حنبل!"، وقال رحمه الله: "أحمد إمام في ثماني خصال: إمام في الحديث، وإمام في الفقه، وإمام في القرآن، وإمام في اللغة، وإمام في السنة، وإمام في الزهد، وإمام في الورع، وإمام في الفقر!".

الرابعة: الابتلاء سنة الله في الأولياء:

- سنة الله أن كلَّ مَن سَلَك طريق الهداية والدعوة إلى الله؛ فإنه سيعاني من البلاء والعداء: "فَقالَ له الرَّاهِبُ: وإنَّكَ سَتُبْتَلَى"، وقال ورقة بن نوفل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في أول لحظات البعثة النبوية: (... لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ) (متفق عليه).

- البلاء سنة طريق المصلحين: وقال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ ‌خَلَوْا ‌مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).

- لا بد أن يتأهل الداعي على تحمُّل الأذى من جرَّاء قيامه بمحاولة الإصلاح والتغيير: قال -تعالى- في وصية لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ‌وَاصْبِرْ ‌عَلَى ‌مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17).

الخامسة: لا تتمنوا لقاء العدو:

- المسلم وإن كان مأمورًا بالصبر والثبات عند لقاء العدو؛ إلا أنه كذلك مأمور بسؤال الله العافية، وتجنب فتنة لقاء العدو؛ إلا أن يضطر إلى ذلك: تأمل القصة قول الراهب: (فَإِنِ ابْتُلِيتَ فلا تَدُلَّ عَلَيَّ)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) (متفق عليه).

- أما إذا قدَّر الله على المسلم لقاء العدو؛ فعليه بالثبات والتوكل على الله، والإكثار من ذكره: (تأمل موقف الراهب نفسه بعد ذلك)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ‌فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45).

خاتمة:

- الإشارة إلى مجمل ما تقدَّم مِن أن الغلامَ تبيَّن له -بفضل الله تعالى- السبيل الحق، وطريق النجاة، وعليه قام يدعو إلى الله -عز وجل- فيمَن حوله مِن الناس، مغتنمًا الكرامة التي مَنَّ الله عليه بها، وهي: استجابة دعائه؛ ليكون سبيلًا ودليلًا على صدق دعوته، مما كان سببًا في شيوع أمره واشتهاره حتى وَصَل إلى أحد الكبراء الذين كانوا يجالسون الملك الطاغية؛ لا سيما وأن هذا الجليس قد ابتلي بالعمى، فجاء يسأل الغلام الشفاء، ومن هنا دارت أحداث جسام عظام في القصة.

وهذا ما يأتي عليه الحديث في المشاهد القادمة إن شاء الله -تعالى-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ليس ذلك معناه سؤال الصالحين والأولياء قضاء الحاجات، وكشف الكربات كما هو مسلك الشيعة في أئمتهم، وجهلة المتصوفة في أصحاب الأضرحة والقبور!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة