الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع سورة الكهف (6)

وقفات مع سورة الكهف (6)
الجمعة ٢٦ أغسطس ٢٠٢٢ - ١٦:٢٠ م
52

وقفات مع سورة الكهف (6)


كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا زلنا مع سورة الكهف المباركة، ونبدأ وقفاتنا اليوم بقوله تعالى: "وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ"، أي: فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم؛ ولأن العزلة لمَن خشي الفتنة في دينه خير من الخلطة؛ فإن الفتنة في الدين أشد مِن القتل، وذكر المولى تعالى هنا "إِلاَّ اللَّهَ"؛ لبيان أن الفتية تركوا عبادة آلهتهم وعبدوا الله وحده، واعتزلوا عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله، وهذا دليل على وجوب البراءة من القوم الكافرين كما تكون البراءة من معبوداتهم.

ثم توافقوا بعد ذلك على الذهاب إلى الكهف وكأنهم كانوا يعرفونه مِن قَبْل أو أنهم أعدوا ذلك مسبقًا فقالوا لبعضهم البعض: "فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"، أي: اختفوا فيه يبسط لكم من رحمته.

وتأمل قولهم في السابق: "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"؛ فالدعاء هنا كان قبل دخول الكهف، ومع ثقتهم بالله أنه سيفعل قالوا: "فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه".

قال السعدي رحمه الله: "ولا جرم أن اللهَ نَشَر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، وحتى المحل الذي ناموا فيه كان في غاية ما يمكن من الصيانة" (انتهى).

وصار ذاك الكهف على ضيقه أفسح من قصور الأرض، وأرحب من بساتين الدنيا؛ وذلك حين انتشرت فيه رحمته تعالى، والعبرة بطاعة الله وتعلُّق القلب به لا بسعة المكان أو ضيقه.

وقولهم: "ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا" أي: ما تنتفعون به؛ ولذلك سَخَّر الله لهم كل ما يخدمهم ويحفظهم؛ ولأن مَن فَرَّ بدينه مِن الفتن سلَّمه الله منها، وسخَّر له الكون يخدمه على غير طبيعته؛ ولذلك قال تعالى: "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ" أي: إذا طلعت تميل، وإذا غربت تتركهم وتعدل عنهم وتتجاوزهم، وانظر إلى لطف الله بهم فلا الشمس تؤذيهم، ولا ضيق المكان يزعجهم، وكان مرقدهم في فجوة منه، والفجوة الشيء الداخل في الكهف وليس بابه مباشرة؛ لأن ذلك أحفظ لهم. وقيل: الفجوة: أي متسع مِن الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.

 ولما كانت هذه معجزة عقَّب تعالى بقوله: "ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"، أي: لا سبيل إلى نيل الهداية إلا مِن الله، فهو الهدي المرشد لصالح الدارين، وأنه لا راد لأمر الله، فمن أعمى بصيرته وأضل عن الهدى قلبه لم يُفلح، ولو أعانه أهل الأرض جميعًا، ثم قال تعالى: "وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ". 

قال ابن كثير رحمه الله: "ذكر أهل العلم أنهم لما ضُرب على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم؛ لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقي لها" (انتهى).

وهذه نعمة مِن النعم التي نشرها لهم المولى تعالى حيث حفظهم مِن أي أحدٍ يقترب منهم، أو يريد ملامستهم، وتأمل هذه النعمة العظيمة أن يلقي عليهم النوم في هذه المحنة العظيمة، فإذا كان النوم حال الأمن نعمة؛ فكيف به حال الشدة والاضطراب، فسبحان مَن له الدوام.

وقوله تعالى: "وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كانوا يُقلَّبون في السنة مرة من جنب إلى جنب؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "كان لهم في السنة تقلبان"، وقيل: كان تقلبهم يوم عاشوراء.

وتأمل لماذا الله تعالى يقلِّبهم؟!

أجاب على هذا السؤال الشيخ السعدي رحمه الله قائلًا: "الله تعالى قادر على حفظهم من الأرض من غير تقليب، ولكنه تعالى حكيم أراد أن تجري سننه في الكون ويربط الأسباب بمسبباتها" (انتهى).

وقوله: "وكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد" أي: جلس على بطنه وقد مدَّ ذراعيه، وقد كان الكلب على مثل حالهم في النوم وهو في رأي العين منتبه، وقد كان كلب صيد لأحدهم، وهنا لفتة قرآنية فالكلب حين ينام يستلقي على جنبه، لكنه هنا باسط ذراعيه حتى إن مَن يراه يظنه منتبهًا وليس نائمًا، وهذا من لطف الله تعالى بالفتية وزيادة في الحفاظ عليهم. والوصيد: فناء الكهف كما قال: مجاهد والضحاك، وقال عطاء: عتبة الباب، وقال السدي: الباب

قال القرطبي رحمه الله رحمه الله: "إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك في كتابه، فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين للأولياء والصالحين" (انتهى).

وقوله: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبً" أي: يا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: أيها الرائي لو رأيتهم لملأك الرعب من ذلك المشهد.

قال البغوي رحمه الله: "إن الله تعالى منعهم بالرعب؛ لئلا يراهم أحد" (انتهى).

وإلى اللقاء في المقال القادم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة